تمثل المبادرات النوعية التي تطرحها سلطنة عُمان في مجال كفاءة الطاقة - إلى جانب السياسات الوطنية المتكاملة ـ حجر الزاوية نحو بناء نموذج تنموي عصري مستدام خالي من الكربون، واستكمالاً للرؤية التي اعتمدها السُّلطان هيثم بن طارق، بأن يكون عام 2050 موعدًا لتحقيق الحياد الصفري الكربوني، مع إعداد خطة وطنية له، وإنشاء مركز عُمان للحياد الصفري كمنصة لتنسيق الجهود، وتنفيذ مشاريع طاقة متجددة والهيدروجين الأخضر، وتطبيق برامج لرفع كفاءة الطاقة.

ولم يعد هذا التوجه خيارا تنمويا فحسب، بل صار جزءا أصيلا من رؤية "عُمان 2040″، التي تهدف إلى بناء اقتصاد متنوع قادر على المنافسة عالميا، ومنسجم في الوقت ذاته مع الالتزامات الدولية المرتبطة بالمناخ والتنمية المستدامة، وتعزيز تنافسية الاقتصاد الوطني من خلال التحول إلى مصادر طاقة نظيفة ومستدامة، والإسهام في تأمين إمدادات الطاقة عالميًا، وترسيخ حضور عُمان ضمن الدول التي تتبنى نهجا متكاملا للبناء الأخضر والمدن المستدامة.
وقد أصبح الحياد الصفري الكربوني والمباني الخضراء في عُمان جزءً من سياسة حضرية شاملة تدعمها التشريعات الحكومية وتحفزها السوق العقارية، مع تزايد إقبال المؤسسات والمستثمرين على اعتماد الاستدامة ضمن أولوياتهم.
وفي إطار السير العُماني نحو الحياد الصفري، مع تحقيق التوازن بين التنمية المستدامة والحدّ من تداعيات تغير المناخ، وبناء اقتصاد المعرفة، أُطلق البرنامج الوطني "كفاءة" كمبادرة نوعية في مجال كفاءة الطاقة، يهدف إلى تأهيل الكفاءات العُمانية في مجال التدقيق الطاقي وفق أرفع المعايير الدولية، في خطوة استراتيجية تعكس التزام سلطنة عُمان بالتحول نحو اقتصاد منخفض الكربون وتحقيق أهداف الحياد الصفري.
ويأتي هذا البرنامج الذي أطلقته وزارة الطاقة والمعادن بالتعاون مع وزارة العمل وجامعة السلطان قابوس، كجزء من التزام سلطنة عُمان بتحقيق رؤية "عُمان 2040"، وبما يتماشى مع التوصيات العالمية الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة والهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، التي تؤكد أن تحسين كفاءة الطاقة يمثل ركيزة أساسية في مسار الحياد الصفري، وبما ينسجم مع التزامات سلطنة عُمان في إطار اتفاق باريس للمناخ.

ويمتد برنامج "كفاءة" على مدى 6 أسابيع تدريبية مكثفة بمشاركة 50 متدرباً ومتدربة يمثلون الدفعة الأولى من الكفاءات الوطنية التي ستُهيأ للحصول على شهادة "مدقق الطاقة المعتمد" الصادرة عن جمعية مهندسي الطاقة، إحدى أرفع الشهادات المهنية المعترف بها عالميًا.
وقد صُمم البرنامج وفق منهج تدريبي متدرج يبدأ بالمرحلة التأسيسية التي تركز على المفاهيم النظرية ومعايير جمعية التدفئة والتبريد وتكييف الهواء الأمريكية، مع تنفيذ مشروع عملي داخل أحد مباني الجامعة، ثم ينتقل إلى المرحلة التطبيقية التي تشمل تدريباً ميدانياً في التدقيقات الأولية والتفصيلية، وصولاً إلى المرحلة المتقدمة التي تعتمد المنهج الرسمي لشهادة مدقق الطاقة المعتمد وتُعدّ المشاركين لاجتياز الامتحان الدولي.
ولا شك أن البرنامج يمثل استثماراً استراتيجياً في الموارد البشرية، فمن خلال تمكين الدفعة الأولى من الكفاءات العُمانية بمؤهلات دولية في مجال تدقيق الطاقة، يؤسس البرنامج قاعدة متينة من الخبرات الوطنية القادرة على الإسهام في تحقيق أهداف الاستدامة الوطنية وتسريع مسيرة الانتقال نحو اقتصاد منخفض الكربون.
كما أنه من خلال هذه المبادرة، تؤكد سلطنة عُمان ريادتها في مسار التنمية المستدامة، إذ ستكون مسيرة الوصول إلى الحياد الصفري مدفوعة بكفاءة وإخلاص الكفاءات العُمانية، بما يضمن أن يكون الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر قيادةً وطنيةً يُشاد بها على المستوى العالمي.
ومع إطلاق هذا البرنامج، تمضي سلطنة عُمان بخطى واثقة نحو ترسيخ مكانتها على المستويين الإقليمي والدولي لبناء اقتصاد مستدام ومتوازن، يجمع بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة، ويعزز دورها في مواجهة تحديات التغير المناخي وصناعة مستقبل أكثر استدامة للأجيال القادمة.
وفي إطار التكامل المؤسسي الذي يصبغ الجهود العُمانية الحثيثة نحو الوصول إلى غايتها المنشودة في عام 2050، وفي خطوة نوعية نحو ترسيخ الحضور العُماني في مجال المدن الخضراء، أطلقت وزارة الإسكان والتخطيط العمراني ، دليل اشتراطات ومتطلبات البناء في سلطنة عُمان، وهو أول مرجع وطني للبناء يجمع بين 6 أدلة رئيسة تغطي مختلف التخصصات الفنية والبيئية في قطاع البناء.
يشمل الدليل مجموعة من الأدلة، أبرزها: دليل كفاءة الطاقة والاستدامة، الذي يحدد معايير المباني الموفّرة للطاقة. الدليل الميكانيكي لأنظمة التهوية والتكييف والتدفئة. دليل التمديدات الصحية وشبكات المياه، لضمان جودة التشغيل. دليل الصرف الصحي، لمعالجة المياه بطرق آمنة ومستدامة.
يعد الدليل الوطني لكفاءة الطاقة والاستدامة إحدى الأدوات التنفيذية المهمة للإستراتيجية الوطنية للحياد الصفري، ويسهم في خفض الانبعاثات من قطاع الإنشاءات، أكثر القطاعات استهلاكا للطاقة.
كما ينسجم مع أهداف "رؤية عُمان 2040" في محوري البيئة المستدامة والمدن الحيوية، من خلال تعزيز الكفاءة والابتكار في البناء وتشجيع الاستثمار في البنية التحتية الخضراء، ويمثل امتدادا لمبادئ النظام الأساسي للدولة الذي ينص على حماية البيئة ومنع التلوث.
ويضع هذا الكود الحد الأدنى من المتطلبات الخاصة بالمباني الموفّرة للطاقة من خلال أحكام إلزامية وأخرى قائمة على الأداء، ويرتكز على مبادئ عامة تتيح استخدام مواد جديدة وتصاميم مبتكرة، ويُطبّق على فئات مختلفة من المباني.
وقد تم إعداد كود كفاءة الطاقة والاستدامة العُماني إصدار 2025 استنادا إلى الكود الدولي للمحافظة على الطاقة "آي إي سي سي" (IECC) لعام 2021 مع تضمينه بعض التعديلات المحلية. ويرتكز الكود على مبادئ تهدف إلى الحفاظ على الطاقة دون زيادة غير مبررة في تكاليف البناء، وعدم تقييد استخدام المواد أو الأساليب الجديدة، وعدم منح أفضلية لأنواع معينة من مواد أو طرق التشييد، كما يحرص على ضمان تكامل الأكواد العُمانية وتناسقها الفني.
ويُعد الكود وثيقة تصميمية أساسية يُرجع إليها قبل مرحلة البناء لتحديد المعايير والمتطلبات الفنية حسب نوع المبنى، كما يغطي جميع جوانب استخدام الطاقة في المباني. ويُستخدم أيضا في برامج الالتزام الطوعي بمجالات الاستدامة وكفاءة الطاقة ومقاومة الكوارث، وقطاع التأمين وتأهيل الكفاءات الهندسية وتقييم المنتجات ومواد البناء، وفي المناهج الأكاديمية مما يجعله مرجعا وطنيا لنشر ثقافة البناء المستدام.
وفي السياق ذاته، أطلقت هيئة البيئة في وقت سابق نظام "روزنة" الوطني للمباني الخضراء، الذي يُقيّم الأبنية وفق 7 معايير تشمل: الطاقة، والمياه، والمواد، وجودة البيئة الداخلية، والابتكار، وإدارة المرافق، ويمنح شهادات لتشجيع المؤسسات العقارية على الالتزام بمعايير الاستدامة.
لا يتوقف مفهوم البناء الأخضر عند تقليل الأثر البيئي، بل يتوسع ليغذي مفهوم الاقتصاد الدائري، الذي يقوم على إعادة استخدام الموارد، وتقليل الهدر، وتحويل المخلفات إلى مواد إنتاجية، إذ تتجه عُمان إلى دمج المواد المعاد تدويرها في مشاريع البنية التحتية، خصوصا في المرادم الهندسية.
ويُعد مشروع إعادة تدوير مواد البناء الأول من نوعه في عُمان، إذ وظف مخلفات البناء في إنشاء السدود وطبقات الحماية وقنوات تصريف المياه، مما خفّض التكاليف بنسبة تفوق 80% مقارنة بخيار شراء التربة الطبيعية، ووفّرت الخطوة حلا بيئيا مبتكرا يحد من تراكم النفايات في المرادم، ويقلل البصمة الكربونية الناتجة عن عمليات النقل والاستخراج.
وأكدت التجربة العُمانية أن إعادة تدوير مخلفات البناء يمكن أن تصبح موردا إستراتيجيا لمشاريع البنية التحتية، خاصة مع وجود 11 مردما هندسيا في السلطنة، وخطط للتوسع السنوي، مما يخلق طلبا متزايدا على مواد الردم المستدامة.
المؤكد أن تطبيق مفاهيم البناء الأخضر يعود بفوائد كبيرة، فهو ينشّط الاقتصاد، ويضيف قيمة للصناعة الوطنية، ويحافظ على الموارد الطبيعية في عُمان. كما أن هذه التقنيات تحسن جودة الهواء الداخلي، وتستفيد من الضوء الطبيعي والتهوية الطبيعية، وتقلل استهلاك الطاقة.
وفي هذا السياق، شكّل المنتدى الوطني للبناء الأخضر والمدن المستدامة الذي استضافته عُمان في نوفمبر الماضي2024، علامة فارقة في مسار التحول العمراني المستدام، إذ جمع نخبة من الخبراء وصنّاع القرار والمطورين العقاريين وممثلي القطاعين العام والخاص لمناقشة مستقبل البناء الأخضر في عُمان، وركّز المنتدى على تعزيز التكامل بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص لتسريع تبنّي تقنيات التصميم الحضري المستدام، وتطوير مواد بناء صديقة للبيئة، واعتماد أنظمة ذكية لإدارة المرافق والطاقة والمياه.
إجمالاً.. يمكن القول أن هذا المنتدي قد وضع لبنة مهمة في إطار المساعي العُمانية نحو التنمية العقارية والحضرية وبناء المدن الذكية المستدامة، وفق أحدث المواصفات والمعايير الدولية، خاصة أن المنتدى تزامن معه معرض متخصص لعرض أحدث الحلول في مجالات العزل الحراري، وأنظمة الإضاءة الموفّرة للطاقة، وتقنيات المباني منخفضة الانبعاثات، وحلول المدن الذكية وأسهم في صياغة توصيات عملية تعزّز قدرة سلطنة عُمان على الوصول إلى الحياد الصفري بحلول عام 2050.