رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

يحدث داخل المتحف المصرى.. عندما يتسبب «العشم» فى سرقة كنوز مصر الملكية الذهبية


25-9-2025 | 17:09

.

طباعة
بقلم: أمانى عبد الحميد

على مدى أكثر من 123 عاما، ظل المتحف المصرى بالتحرير أيقونة لا مثيل لها تسكن قلب القاهرة، وظل شاهدا على عبقرية الحضارة المصرية القديمة بمختلف عصورها، والأكثر زيارة على مستوى المواقع والمتاحف الأثرية المصرية، يدخله آلاف السياح والمصريين يوميا، غير أن هذا الصرح العريق الذى بات مبناه أثريا فى حد ذاته، لم يسلم عبر تاريخه الطويل من حوادث السرقات والفقد لعدد كبير من كنوزه، وهى الجرائم التى تكشفت عن استمرار وجود ثغرات أمنية وبشرية على الرغم من جميع مشروعات التطوير التى خضع لها المتحف عبر تاريخه الممتد. بحلول شهر نوفمبر المقبل سيكون المتحف المصرى المطل على ميدان التحرير قد بلغ من العمر 123 عاما، حيث قام الخديو عباس حلمى الثانى بافتتاحه فى عام 1902 كصرح معمارى متحفى لم يكن هناك مثيل له فى العالم وقتها، يليق بعظمة ما يضمه من مقتنيات أثرية تسرد بدقة تاريخ الحضارة المصرية عبر مختلف عصورها، وعلى مدار سنوات عمره ظل المتحف أيقونة الهوية المصرية وبيتًا يضم بين جدرانه أسرار ملوك مصر وملكاتها ونبلائها وكهنتها وكنوزهم، لكن المتحف العتيق، ورغم مجده التاريخى، لم يخلُ من لحظات ضعف وهشاشة كان سببها إما حوادث سرقات مروعة أو تجاوزات وإهمال أضاع بعضا من أثمن كنوز مصر القديمة.

اليوم، وبعد حادثة سرقة الأسورة الملكية الذهبية من داخل معمل الترميم وصهرها عند أحد محال الذهب، على حسب بيان وزارة الداخلية، يعود المتحف بمشكلاته إلى صدارة المشهد مرة أخرى، وهو الأمر الذى وضع الدولة المصرية بكل جهاتها، التى تقع مسئولية أقدم متاحف العالم على عاتقها، فى اختبار حرج حول قدرتها على صون ميراثها وحماية آثارها من السرقة.

فالمتحف المصرى بات يواجه معركة جديدة شرسة من أجل البقاء حتى يتمكن من الحفاظ على كيانه كصرح متحفى أيقونى، إلى جانب معاركه السابقة التى خاضها من أجل تحقيق القدرة على منافسة المتاحف الأثرية الجديدة المنتشرة فى أرجاء مصر، وهى المعارك التى كادت تقضى على حياته فى مقابل التطور العلمى والتكنولوجى والفنى لصناعة الفكر المتحفى وأساليب العرض الجاذبة للزوار. صحيح أن المتحف نجح فى الوقوف أمام تحديات رحيل الفرعون الذهبى «توت عنخ آمون» وكنوزه التى تمثل درة المتحف، حيث اعتمد على ما تبقى لديه من كنوز ملكية لم تحظَ بالعرض المتحفى اللائق بعظمتها فى ظل ازدحام قاعاته بالمقتنيات، لكن وقوع جريمة سرقة أخرى بكل ما تحويه من تفاصيل صادمة، وضع المتحف أمام معركة وجود أكثر شراسة وتحتاج لإعادة النظر فى طريقة العمل ومنظومة الإدارة المتحفية ككل.

السؤال الذى تبادر إلى أذهان الكثيرين: لماذا تتكرر السرقات والجرائم التى تمس الهوية والحضارة؟ خاصة أن غالبية القضايا تورط فيها عاملون بالمتحف أو مقربون من دوائره، كما أنها وقعت نتيجة ضعف نظم الجرد والرقابة، بل إن اكتشاف الجريمة قد يأتى بعد شهور أو سنوات من وقوعها نتيجة قصور عمليات التسجيل والتوثيق والمتابعة، كما أن الحادث الأخير كشف عن وجود ثغرات أمنية خطيرة داخل مبنى المتحف، حيث لا توجد كاميرات مراقبة داخل معامل الترميم حتى اليوم، والأخطر هو تربص عصابات السوق السوداء النشطة التى تبحث عن المقتنيات الأثرية لتتلقفها سريعا بأسعار طائلة.

«المتحف المصرى لن يموت».. تلك كلمات عاطفية تتردد دومًا عند كل احتفال بذكرى مولد أقدم متحف متخصص فى استعراض تاريخ الحضارة المصرية القديمة وفنونها وتراثها الذى لا تملك أى من دول العالم مثيلا لها، رددها د. محمد إسماعيل، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، بثقة كبيرة ليصف بها المتحف العجوز الذى لا يزال يعانى من مشكلات جمة، وأصبح التغاضى عنها جريمة فى حد ذاتها، آخرها أكمل المشهد العبثى فى التعامل مع تاريخ مصر عندما سرقت إحدى المتخصصات فى ترميم الآثار وخانت الأمانة، استولت على أسورة الملك «أمنموب» الذهبية التى كانت أمانة بين أناملها بمعمل الترميم، ثم باعتها بثمن بخس لتكون نهايتها عند مسبك صهر ذهب، ويتلاشى معها جزء أصيل من تاريخ مصر، ويقف العالم كله أمام مأساة لم تعرفها ذاكرة المتحف من قبل.

«العشم» و«عشرة عمر» و«عيش وملح» تلك بعض من كلمات شريف فتحى وزير السياحة والآثار التى علّق بها على جريمة سرقة المتحف التى هزت أرجاء المجتمع المصرى، وأوضح أنه لا يعلم كيف خرجت القطعة الملكية وتخطت حواجز التفتيش عند بوابات وأسوار المتحف، صحيح أن الأمر لا يزال متروكا لجهات التحقيق، لكن عدم تداول المعلومات سمح بتفشى المزايدات والاتهامات والشائعات على مواقع التواصل الاجتماعى وسط غياب تام للمعلومات الرسمية الصحيحة التى وجب أن تصدر من الوزارة المعنية بحماية آثار مصر وتوثيقها بشكل علمى.

الحادث الأخير ما هو إلا فصل من فصول مسلسل سرقات الآثار المصرية واليد لا يزال مستمرا داخل المتحف المصرى العتيق، وكأن عمره المديد لم يشفع له، وحاصرته أعين السارقين والطامعين والمهملين والمغيبين، ما حدث يوم 9 سبتمبر لم يكن الجريمة الأولى فى حق المتحف وكنوزه، فالجرائم كثيرة ومتكررة، إنها المرة الأولى التى يجرؤ المجرم على تدمير جزء من تاريخ البشرية بدم بارد، صحيح أن الملك «أمنموب» لم يكن من ملوك الصف الأول، لكنه ينتمى إلى الأسرة 21 وحكم فى مرحلة انتقالية دقيقة من تاريخ مصر، حيث تداخلت السلطة الدينية والسياسية، وكان الذهب رمزًا للقوة الشرعية التى يحاول تثبيتها، لذا فإن اختفاء أسورته الذهبية لم يكن جريمة ضد متحف فحسب، بل ضد ذاكرة الأمة، والضمير الإنسانى الذى يقدّر قيمة الأثر كوثيقة وجود وليست مجرد معدن ثمين، خاصة أن مقبرة تم اكتشافها كاملة على يد عالم الآثار الفرنسى بيير مونيه عام 1940 بمنطقة «تانيس»، وكانت تحوى مجوهرات ذهبية مزينة بالأحجار الكريمة مثل اللازورد.

الغريب أن المتحف المصرى خضع لعدد من مشروعات التطوير والتأهيل والترميم لسنوات طويلة، وكان الهدف منها عودة الروح للمبنى الأثرى من الداخل والخارج، حيث كانت وزارة السياحة والآثار قد أطلقت مبادرة إحياء المتحف المصرى بالتحرير فى عام 2012 بمشاركة مفوضية الاتحاد الأوروبى وشركة نوعية البيئة الدولية بهدف استعادة مبنى المتحف المصرى لحالته الأصلية كما صممه المعمارى الفرنسى مارسيل دورنيون فى أواخر القرن التاسع عشر، وهو ما جعل مفوضية الاتحاد الأوروبى تصف المتحف بأنه «الأب الأوحد لعلم المصريات» والتى رأت أنه أقدم المتاحف المتخصصة فى الحضارة المصرية القديمة ويملك مقتنيات شديدة الثراء والندرة.

وبالفعل، تم تنفيذ أعمال الترميم للمبنى على مراحل شملت ترميم الجدران والأرضيات والأسقف وكل بيوت النور وتغيير الزجاج بالكامل، وبعدها استمرت مشروعات الترميم والتطوير واحدة تلو الأخرى بما فيها تدريب العاملين داخل المتحف، إلى جانب وضع سيناريو عرض متحفى لمقتنياته وكنوزه بشكل يجعل زيارته تجربة رائعة تستحق التكرار، بالتعاون مع اتحاد خمسة متاحف أوروبية هى: المتحف البريطانى بلندن، متحف اللوفر بباريس، المتحف المصرى بتورين، المتحف القومى للآثار بليدن والمتحف المصرى ببرلين، ونتيجة ذلك، خرجت إلى النور «كنوز تانيس» المجموعة الأثرية الفريدة والنادرة للعرض المتحفى للمرة الأولى بشكل كامل يليق بعظمتها، تلك المجموعة التى يفوق عددها ألفى قطعة أثرية حلت محل كنوز الملك «توت عنخ آمون» التى انتقلت إلى المتحف المصرى الكبير، للأسف الشديد كانت الأسورة الذهبية من ضمنها.

وهى نفس القطعة النفيسة التى كان مقررا لها السفر ضمن معرض مؤقت يحمل عنوان «كنوز الفراعنة» فى العاصمة الإيطالية روما لمدة ستة أشهر بداية من شهر أكتوبر المقبل وحتى نهاية شهر مايو 2026، وستكون ضمن 1130 قطعة أثرية مختارة من مقتنيات المتحف المصرى ومتحف الأقصر، إلى جانب عدد من القطع الأثرية المكتشفة حديثا ترجع لفترات زمنية ممتدة من عصر الدولة القديمة وحتى الدولة الحديثة والعصور المتأخرة، ومن ضمن القطع الفريدة التى سيضمها المعرض التابوت الذهبى للملكة «أحمس نفرتاري»، القناع الجنائزى الذهبى للملك «أمنموب» وأساوره الذهبية، ثلاثية الملك «منكاورع»، التابوت الذهبى لـ«توبا» وقلادة الذباب الذهبى الشهيرة.

وبسبب السفر للمشاركة فى المعرض المؤقت، خرجت القطع الأثرية من العرض المتحفى لتدخل إلى معمل الترميم، وهناك وقعت الجريمة لتفتح الملف التأمينى لكنوز المتحف المصرى المهددة دوما بالسرقات والضياع.

جريمة سرقة أسورة الملك «أمنموب» جاءت كإنذار حاد بضرورة تطوير منظومة الحماية الأمنية داخل المتاحف المصرية القديمة والتى تحتاج إلى ثورة حقيقية أسوة بالمتحف المصرى الكبير والمتحف القومى للحضارة المصرية، فالمتحف العريق لا يكفيه تحديث القاعات والإضاءة، بل يحتاج إلى أنظمة مراقبة رقمية متطورة وتقنيات استشعار للحركة وفتح الخزائن، تسجيل إلكترونى مشفر لكل عملية دخول وخروج لا يمكن التلاعب به، وبروتوكولات صارمة للتعامل مع القطع الأثرية الموجودة داخل المخازن إلى جانب تدريب دورى للموظفين على مواجهة كل حالات الطوارئ التى قد تهدد المقتنيات الأثرية، فالآثار المصرية ليس مجرد قطعة ذهبية أو حجرية، بل هى هوية وطنية وذاكرة إنسانية، وضياعها يعنى ضياع صفحة من التاريخ لا يمكن استعادتها.

فالمتحف الأقدم على مستوى العالم، والمتخصص فى استعراض تاريخ الحضارة المصرية ومقتنياتها، يكفيه ما عانى منه عبر عمره الطويل من جرائم سرقات وإهمال، بعضها تم اكتشافه على سبيل الصدفة، أو بعد وقوعها بسنوات طويلة، والأخطر هو ضياع عدد كبير من مقتنياته إلى الأبد.

ومن جرائم السرقة الغريبة كانت على يد لص قرر المبيت ليلا داخل المتحف بعد ساعات الزيارة فى عام 1996، وفى الصباح الباكر ومع فتح أبواب المتحف خرج حاملا معه الملك «توت عنخ آمون» وعددا من القطع الأثرية دون أن يعترض طريقه أحد، ومن الجرائم الماهرة التى قام بها لصوص متخصصون، حيث تم استبدال عدد من السبائك الذهبية المعروضة داخل فاترينات المتحف بنسخ أخرى مطلية بالذهب، كما ظل المتحف يعانى من سرقات متكررة لعدد من القطع والتماثيل الصغيرة والتمائم الذهبية، بعضها عاد والبعض الآخر خرج ولم يعد، الأمر المحزن أن عددا من تلك الجرائم تم قيدها ضد مجهول نظرا لعدم وجود أدلة تسمح باكتشاف مرتكبها، كما أن فترة الاضطرابات الأمنية فى يناير 2011 طالت المتحف و18 قطعة من مقتنياته، حيث تضررت عدد من القطع الأثرية وتعرض بعضها للسرقة، وفى كل مرة يخضع كل العاملين لتحقيقات وتغييرات إدارية مع تشكيل لجان تحقيق وجرد استثنائية، تلك بعض من الجرائم التى تعرض لها المتحف المصرى والتى تكشف بوضوح أن الخطر لم يكن دوما قادما من الخارج، بل قد يأتى من الداخل بشكل غير متوقع، مما يدفع إلى ضرورة إعادة النظر فى المنظومة الإدارية والرقابية أكثر من ارتباطها بالجدران والأسوار، والأهم هو توفير الظروف المعيشية لكل العاملين فى مجال الآثار أسوة بكل مَن يعمل فى مجالات تتطلب الأمانة وما يرتبط بها من عدم العوز أو الاحتياج بشكل قد يؤثر على أداء وظيفته ومهامه.

 

الاكثر قراءة