رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

سهيرات مصر.. السهر والسفر وحبات المطر


19-9-2025 | 15:28

.

طباعة
بقلـم: د. جيهان زكى

السهر والسفر وحبات المطر..

سهر الأرواح المتقدة..

وسفر النجوم بين سماء الأدب، ومسرح الضحكة الباكية، ورقصة الحياة والشاشة الكبيرة والصغيرة..

وحبات المطر التى تجعلنا نستعيد ذكريات العمر، صافية، ندية، متجددة..

كم نحن مشتاقون إلى قراءة مفردات راقية، حالمة ولغة عذبة تملأ القلب بإكسير الحياة وتروى الروح بوهج شمس خفت نورها..

كم نحن مشتاقون الى أفعال شافية للأنفس ومضمدة للخواطر من صخب غول الزمن بأقدامه على طريق أيام فاقدة للون والطعم، ولغة شارع ركيكة خاوية، بل ومغايرة للشخصية الأصيلة.

وكم نحن فى أشد الحاجة لإحياء ذكرى رموز الجمال وصانعات الحرية ورائدات المعرفة ونور العلم، وحاميات الحلم الإنسانى المتجدد.. القادرات على الخروج من ظلام العتمة ليضيئن ليل الإنسانية بمصابيح النور.

 

فى تاريخ مصر الحديث، هناك نساءٌ لمعن كنجومٍ لا تنطفئ، تركن أثراً فى الفكر والفن والثقافة وأثبتن أن النهر لا يجرى بجدولٍ واحد، ولا التاريخ يُكتب باسم الذكور وحدهم. من بين هذه النجوم المضيئة، أستحضر «السهيرات» جمع سهير ، ذلك الاسم الذى يحمل فى طيات حروفه عبق الريادة ويترك بصمة حيثما خطّت الأقدام.

وفقًا للمعجم العربى، فإن اسم سهير هو اسم علم مؤنث عربى، وأصله من كلمة «سَهَر»، ويعتبر مصغرًا لكلمة سَهَر، وفى الثقافة الشرقية يُعتبر الاسم رمزًا للدفء الإنسانى والروح الخفيفة، وقد ترك وراءه وهجًا مجتمعيًا لا يخبو مهما تعاقبت العصور.

عندما نتحدث عن الريادة النسائية فى مصر، تتصدر الدكتورة سهير القلماوى المشهد كعلامة فارقة فى تاريخ الثقافة العربية وكسيدة الثقافة التى صنعت جسورًا للوعى المجتمعى. فهى لم تكن مجرد أستاذة جامعية للأدب العربى، بل رائدة ثقافية آمنت بأهمية الكلمة ونور المعرفة الذى يجب أن يسطع على وجه الوطن.

بدأت «القلماوى» مسيرتها كأول امرأة تُعيَّن «معيدة» فى كلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1939، ثم أصبحت أول مصرية تنال الدكتوراه فى الأدب العربى ليصبح هذا إنجازًا كبيرًا.. لم يكن فقط هذا الإنجاز شخصيًا بقدر ما كان فتحًا لباب ظل مغلقًا طويلًا أمام المرأة المصرية فى الوسط الجامعي.

لم تكتفِ «القلماوى» بدورها الأكاديمى، بل ربطت الجامعة بالشارع والثقافة بالحياة اليومية حيث تولت إدارة «مكتبة القاهرة الكبرى» وحولتها إلى منارة معرفية، ثم أشرفت على انطلاق معرض القاهرة الدولى للكتاب عام 1969، لتجعله حدثًا ثقافيًا عالميًا يقصده القراء والناشرون من مختلف البلدان.

آمنت «القلماوى» بأن الثقافة ليست ترفًا مقتصرًا على النخبة، بل حق للعامة وأداة لبناء مجتمع أكثر وعيًا. لذلك، ظلت تعمل على إتاحة الكتب والمعرفة، ودفعت نحو جعل الثقافة جزءًا من المشروع الوطنى للتنمية.

اليوم، بعد عقود من رحيلها، يبقى اسم سهير القلماوى شاهدًا على ريادة نسائية سبقت عصرها، وإرثًا ثقافيًا تجاوز أسوار الجامعة ليصل إلى كل قارئ ومثقف. لقد أثبتت هذه السيدة أن الكلمة تكون بمثابة جسر يعبر به المجتمع نحو المستقبل.

إذا كانت «القلماوى» قد منحت مصر العقل النقدي، فإن سهير البابلى منحتها الضحكة والبهجة بموهبة فريدة جعلتها تتربع على عرش الكوميديا النسائية فى المسرح والشاشتين الكبيرة والصغيرة..

استطاعت «البابلى» أن تثبت أن الكوميديا ليست تسلية فحسب، بل هى إعلاء للواء الأمل، واستطاعت أيضا أن ترسم ملامح شخصية المرأة المصرية بروح مرحة، لا سيما بعمق إنسانى.

فمن خشبة المسرح إلى قلوب الجمهور، رسمت الضحكة المصرية بملامحها الذكية وحضورها الطاغى. بالفعل حضور طاغٍ وعميق.. فهل هناك مصرى أو عربى من المحيط للخليج لم يشاهد مسرحية مدرسة المشاغبين ويتابع بشغف حلقات مسلسل بكيزة وزغلول؟ من جملة «تعرف ايه عن المنطق يا بهجت؟» إلى « انا بكيزة هانم، حاعيش هانم وحاموت – بعد عمر طويل هانم!»

إبداع فى الكلمة وتجلٍ عابر للزمان فى اختيار هذه الكلمة من داخل «الإيفيهات».

ومضات «سهيرية» عبرت الزمان.. وحتى بعد رحيلها، تظل ضحكتها تضيء ذاكرة المسرح المصرى وتظل إيفيهات مسرحياتها ومسلسلاتها جزءاً أصيلاً من مفردات ويوميات المواطن المصرى التى لا تزال محفوظة فى ذاكرته، شاهدة على زمن التليفزيون، جَامِع العائلة فى مرحلة ما قبل الإنترنت ومرحلة ازدهار المسرح المصرى وسط عالم يتسارع نحو الحداثة.

ومن مدرسة المشاغبين إلى مدرسة العمارة الخديوية، حيث تتربع الدكتورة سهير حواس على قمتها كأيقونة للدفاع عن هوية مدينة القاهرة وذاكرتها العمرانية. مشروع حياة!.

آمنت «حواس» بأن حماية التراث المعمارى ليست مجرد حفظ للأحجار والواجهات، بل هى حماية للذاكرة الجمعية ولروح المكان. ولهذا، لم تكتفِ بالتدريس فى قاعات الجامعة، بل نزلت إلى الميدان، باحثة ومدافعة وناشطة فى قضايا الحفاظ على التراث.

وأثرت الحياة الفكرية بمؤلفات ومراجع أصبحت أساسًا فى دراسة فنون العمارة والحفاظ على الهوية المعمارية للمدن، وأسهمت فى توعية أجيال من المعماريين والباحثين بأن العمارة ليست مجرد إنشاء، بل هى حوار مستمر بين الماضى والحاضر.

بفضل جهودها، أدرك كثيرون أن القاهرة ليست مجرد مدينة صاخبة، بل متحف مفتوح يستحق أن نصونه، وأن الحفاظ على مبانيها القديمة هو حفاظ على قصة مصر نفسها.

عزيزى القارئ

لم تكن «السهيرات» فقط أسماء لامعة فى الأدب والعمارة والفن والتمثيل، بل امتد حضورهن إلى الشاشة الصغيرة، حيث دخلن البيوت المصرية بصدق الكلمة ودفء الحوار، فنذكر هنا الإعلامية القديرة سهير شلبى كواحدة من أبرز المذيعات فى تاريخ التليفزيون المصري، والتى استطاعت أن تحفر اسمها من خلال برامج شهيرة مثل تاكسى السهرة ودردشة. بصوتها الدافئ وروحها القريبة من الناس، لم تكن مجرد محاورة، بل صديقة للمشاهد، بما أنها نجحت أن تجعل من الإعلام مساحة إنسانية، وأن تخلّد مكانتها كواحدة من رائدات الشاشة المصرية.

فى العقدين الأخيرين، تألقت أيضًا على الشاشة الصغيرة الإعلامية الملهمة سهير جودة، التى استطاعت بخفة ظلها ورؤيتها العصرية أن تمنح الشاشة روحًا جديدة، فجمعت بين الرصانة والبساطة، وأثبتت أن الإعلام النسائى قادر على أن يكون مؤثرًا وملهمًا فى آن واحد.

سهير جودة قدمت العديد من اللقاءات والمساجلات التى جعلت من قضايا المرأة والعائلة محورًا أساسيًا فى أعمالها.

من جيل إلى جيل، أكدت سهيرات الشاشة الصغيرة أن الإعلام ليس مجرد أداة لنقل الأخبار أو الترفيه، بل هو مساحة للتواصل الإنسانى وصناعة الوعى، وهو ما جسدته سهير شلبى بصوتها الدافئ، وواصلت إعماله بنجاح سهير جودة برؤيتها المعاصرة.

أما الشاشة الكبيرة، فقد تألق على صفحتها نجمات حملن اسم «سهير » على مر العصور، ولعل أبرزهن سهير رمزى وسهير المرشدى وسهير البارونى.

فكانت سهير رمزى واحدة من ألمع نجمات السبعينيات والثمانينيات والأكثر حضورًا، وقد
لقبت بـ«قطة السينما المصرية» بعدما بدأت طفلة فى فيلم صحيفة سوابق، ثم تدرجت لتصبح نجمة كبيرة تمتلك الكاريزما والجاذبية، وقدمت عشرات الأفلام التى جمعت بين الرومانسية والإثارة والكوميديا. ورغم اعتزالها وارتدائها الحجاب لاحقًا، ظل اسمها حاضرًا فى ذاكرة السينما كنجمة من نجوم الصف الأول المتميزين.

وفى أدوار أخرى أكثر عمقًا، تألقت سهير المرشدى التى جمعت بين المسرح والسينما والتليفزيون على خلفية امتلاكها موهبة درامية قوية جعلتها تؤدى أدوارًا متنوعة بين الرومانسية والتراجيدية والاجتماعية. ارتبطت هذه السيدة الراقية ذات الحس المرهف برموز المسرح المصرى مثل زوجها كرم مطاوع، غير أنها ظلت واحدة من الأصوات القوية فى الدفاع عن قيمة الفن الراقى وأذكر هنا دورها فى اعتصام وزارة الثقافة عام 2013.

وتتألق أيضًا سهير البارونى فى لون آخر من التمثيل، حيث اشتهرت بأداء الأدوار الكوميدية بخفة ظل طبيعية، وتعتبر واحدةً من أبرز الفنانات المصريات اللواتى رسمن البهجة بخفة الظل والأداء الصادق. بدأت مسيرتها الفنية فى الخمسينيات، وظهرت فى أدوار صغيرة سرعان ما لفتت الأنظار بموهبتها الكوميدية الطبيعية، لم تكن مجرد ممثلة كوميدية، بل استطاعت أن تقدم شخصيات متنوعة تمزج بين الطرافة والواقعية، فتركت بصمتها فى كل عمل. تميزت سهير البارونى بأنها ممثلة «تسرق الكاميرا» بأدائها العفوى، حتى لو كان الدور صغيرًا. ولذلك بقيت رمزًا للبهجة والإبداع، ومحفورة فى ذاكرة الجمهور كإحدى نجمات الكوميديا الراقية فى مصر على خلفية العديد من الأعمال المسرحية التى قدمتها، مثل مشاركتها فى مسرحيات فرقة «ثلاثى أضواء المسرح»، ومسرحيات أخرى ناجحة أبرزها هالو شلبى. أما فى السينما، فقد ظهرت فى أفلام عديدة مثل «آه يا ليل يا زمن» وعلى شاشة التليفزيون، برزت فى مسلسلات لا تُنسى مثل «رأفت الهجان».

إذا كانت سهير رمزى قد جسدت صورة «النجمة السينمائية» التى تخطف الأضواء بجمالها وحضورها، فإن سهير المرشدى جسدت صورة «الأيقونة المبدعة» التى تعيش الشخصية وتُقنع الجمهور بصدقها، أما سهير البارونى فكانت «وهج الكوميديا المصرية» وهكذا، أجمعت سهيرات الفن السابع - بوجوههن المختلفة – فى عامل مشترك وهو إثراء الشاشة الكبيرة بموهبة نسائية مصرية أصيلة.

لا يمكن أن نختم الكلام عن «سهيرات مصر» دون أن نتوقف عند اسم سهير زكي، أيقونة الرقص الشرقى فى الستينيات والسبعينيات، وواحدة من أبرز من جسّد هذا الفن فى أرقى صوره.

كانت سهير زكى أول راقصة تجرؤ على تقديم رقصاتها على موسيقى أم كلثوم، فحوّلت الإيقاع إلى لغة جسد نابضة بالمشاعر، وامتدادًا للموسيقى ليس مجرد استعراض.

لقبت بـ «راقصة الرؤساء» بعد أن قدمت فنها فى مناسبات رسمية أمام عبدالناصر والسادات وضيوف مصر من ملوك ورؤساء، وكان السادات يصفها قائلًا: «كما تغنى أم كلثوم بصوتها، تغنين أنتِ بجسدكِ». ورغم شهرتها واسعة المدى، اختارت الاعتزال مبكرًا عام 1984، لتتفرغ لحياتها العائلية، مؤكدة أن قرارها لم يكن سوى رغبة شخصية فى الاكتفاء بما قدمت. ومع ذلك، بقيت سهير زكى رمزًا لعصر ذهبى شهد فيه الرقص الشرقى ذروة ازدهاره حتى أصبح إرثًا فنيًا خالدًا. وفى الختام نستطيع أن نقول إن السهيرات فى مصر قدمن درسًا مجتمعيًا بليغًا، حيث أثبتت أن المرأة قادرة على صنع التغيير مهما اختلفت أدواتها. فسهير القلماوى رفعت لواء الفكر، وسهير البابلى أضحكت وأثّرت فى الوجدان الشعبى، وسهير حواس أعادت الاعتبار للمدينة والتراث وغيرهن ممن ذكرن بأعلاه أو أخريات.

كل سهير من هؤلاء النساء كانت «مصباح تنوير» فى مجالها وإن جمعنا خيوط الضوء المنبعثة من مصابيح «السهيرات» لرسمْن معًا ملامح وجه المرأة المصرية: وجهًا يعرف أن يحيا، أن يبدع، وأن يترك أثرًا لا يزول.. وللحياة بقية!.

 
 
 
 
 
    كلمات البحث
  • السهر
  • السفر
  • حبات
  • المطر
  • النجوم

أخبار الساعة

الاكثر قراءة