رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

معوقات الاستثمار حين تعرقل التفاصيل الصغيرة المسار الكبير


21-8-2025 | 19:44

.

طباعة
بقلم: د.محمد فؤاد

الاستثمار ليس فقط معادلة أموال تدخل ومصانع تُبنى وحوافز تُعلن، الاستثمار منظومة متكاملة قوامها الثقة، وسلاستها تُقاس بمدى مرونة التعامل مع التفاصيل الصغيرة. فى مصر، ورغم الخطاب الرسمى المتكرر عن الدعم غير المحدود للاستثمار، يظل الواقع مختلفًا، المستثمر يصطدم يوميًا بمتاهة بيروقراطية تلتهم الجهد والوقت، بينما تظل الملفات الهيكلية الحقيقية مهملة، وهنا يبرز سؤال جوهرى: لماذا تتراجع الهيئة العامة للاستثمار (GAFI) عن دورها التاريخى كنافذة موحّدة للاستثمار؟، بينما تتحول تفاصيل ثانوية إلى حواجز ضخمة تعرقل انطلاقة حقيقية للاقتصاد؟

 

فى سنوات مضت، ارتبط اسم الهيئة العامة للاستثمار بفكرة «النافذة الواحدة»، أى الجهة التى تختصر الإجراءات وتقلل زمن التأسيس وتزيل التعقيدات، لكن الواقع اليوم يشير إلى فقدان الهيئة جزءاً كبيراً من هذا الدور؛ إذ لم تعد قادرة على تنسيق المصالح المتشابكة بين الوزارات، ولا فرض الانضباط على الجهات المنفذة، النتيجة: عودة المستثمر إلى نقطة الصفر، يدور بين الجمارك والضرائب والجهات الرقابية والمحليات، ويخسر ما هو أهم من رأس المال «الوقت».

الدول الجادة فى جذب الاستثمار عززت مؤسساتها المناظرة لـ GAFI بسلطات سيادية واضحة، فى سنغافورة مثلًا تُدار ملفات الاستثمار من خلال «Economic Development Board» التى تعمل كمنصة متكاملة تُلزم جميع الجهات بالقرارات الصادرة عنها، الفارق هنا مؤسسى بالدرجة الأولى، فى مصر الهيئة مستشار بلا صلاحيات، وفى تلك الدول، الهيئة مقرّر ومُنفّذ.

رغم إدراك صانعى القرار لأهمية بعض الملفات الجوهرية، إلا أن التنفيذ يتأخر بلا مبرر، من أبرز هذه الملفات:

غياب نظام رسوم موحد يحوّل رحلة المستثمر إلى سلسلة من المفاجآت المالية غير المتوقعة، رسوم استخراج رخصة أو تجديدها تختلف من محافظة لأخرى، وأحيانًا من موظف لآخر، هذا التذبذب يُفقد بيئة الأعمال الشفافية اللازمة، ويجعل حسابات المستثمر غير مستقرة، ورغم الحديث عن توحيد الرسوم إلا أن مسار التنفيذ يبدو مبهما، فى المقابل طبّقت المغرب نظام «الرسم الموحد للاستثمار»، ما منح المستثمرين وضوحًا فى التكلفة وثقة فى التقدير المالى.

تُعلَن الحوافز باستمرار، لكن عملية رد الأعباء أو تقديم الدعم المالى للمُصدّرين تتحول إلى معاناة، شركات عدة تنتظر سنوات لتحصيل مستحقاتها، ما يدفعها لتقليص طاقتها التصديرية، وعلى الرغم من الإعلان عن برنامج واعد لدعم الصادرات تأخر التنفيذ دون مبرر واضح، فى المقابل فى فيتنام مثلًا لم تُبن الطفرة التصديرية على الأجور المنخفضة فقط، بل على سرعة تحصيل دعم التصدير خلال أسابيع من تقديم المستندات.

رغم الحديث المتكرر عن «نافذة مصرية موحدة للإفراج الجمركى»، يظل الواقع مزدحمًا بالانتظار والفحص المزدوج، وتعطيل العينات، يتردد المستثمر أن يستورد خط إنتاج جديد لأنه قد يظل محتجزًا فى الميناء لأسابيع، بينما فى الإمارات، وصلت منظومة «الممر الأخضر» إلى الإفراج فى غضون ساعات عبر التكامل الإلكترونى بين الجهات كافة.

البيروقراطية فى مصر ليست مجرد «تكدس أوراق»، إنها ثقافة إدارية متوارثة تعطى الموظف سلطة تعطيل أكبر من سلطة تيسير، فى كثير من الحالات، لا تكمن المشكلة فى غياب القوانين، بل فى تطبيقها المتذبذب.

المفارقة أن مصر لديها إرث قانونى قوى وحوافز معلنة تنافس كثيرًا من الدول، لكنها تفشل فى تحويلها إلى واقع بسبب هذه البيروقراطية، كوريا الجنوبية فى الستينيات كانت بيئة بيروقراطية خانقة، لكنها كسرت الدائرة عبر إنشاء «مكتب الأداء» التابع مباشرة لرئيس الوزراء، لمراقبة سرعة تنفيذ القرارات الاقتصادية، النتيجة:دولة فقيرة تتحول خلال عقود إلى إحدى أكبر عشر اقتصادات فى العالم.

لماذا لا يجد الكلام صداه فى التنفيذ؟ هناك ثلاثة أسباب رئيسية:

أولا: تشابك الصلاحيات، فغياب خط واضح يفصل بين أدوار الوزارات والهيئات يجعل أى إصلاح عرضة للعرقلة.

ثانيا: ضعف المتابعة فلا توجد جهة مستقلة تقيس بدقة الفجوة بين ما يُعلن وما يُنفّذ.

ثالثا: غياب المساءلة فالموظف الذى يعطل إجراء لا يواجه أى تكلفة مؤسسية، بينما المستثمر يدفع ثمنًا باهظًا.

بعبارة أخرى: المشكلة ليست فى نقص القوانين أو الحوافز، بل فى غياب الانضباط المؤسسى.

المقارنات الدولية.. حين تتحول النوايا إلى أفعال

المغرب: أنشأ مراكز للاستثمار بصلاحيات كاملة، فاختصر الزمن والإجراءات، وقفز 75 مركزًا فى ترتيب سهولة ممارسة الأعمال خلال عقد واحد.

الإمارات: اعتمدت على الحكومة الرقمية والتكامل بين الوزارات، فتحوّلت دبى إلى واحدة من أسرع البيئات الاستثمارية نموًا عالميًا.

فيتنام: ركزت على ملف التصدير، فحوّلت نفسها إلى «مصنع العالم» بفضل سرعة الإجراءات ورد الحوافز، حتى فى ظل بنية تحتية كانت متواضعة.

فى المقابل، يظل المستثمر فى مصر يسمع وعودًا، لكن يواجه واقعًا مُثقَلًا بالتفاصيل الصغيرة التى تبتلع أى ميزة تنافسية.

المشكلة فى مصر ليست نقص الحوافز أو ضعف الرؤية الاقتصادية، الأزمة أن «التفاصيل الصغيرة» التى يفترض أن تُحسم بقرارات إدارية يومية ما زالت تُترك بلا علاج، رسوم متفرقة، إجراءات بطيئة، حوافز لا تُصرف، وإفراج جمركى لا يُسرّع، هذه هى المعوقات التى تحبط المستثمر أكثر مما تفعل أى أزمة كبرى.

لكى تتحرك مصر خطوة حقيقية للأمام، تحتاج إلى استعادة دور GAFI كجهة ذات صلاحيات حقيقية، وإلى إرادة سياسية تُدرك أن جذب الاستثمار لا يتحقق بالوعود بل بإزالة المعوقات اليومية، العالم مليء بأمثلة لدول فقيرة صارت جاذبة فقط لأنها تعاملت مع التفاصيل بجدية، مصر لديها الإمكانات، لكن عليها أن تحسم معركتها مع البيروقراطية إذا أرادت أن تتحول من خطاب إلى واقع.

 
 

الاكثر قراءة