«يا مصرُ، كم أدمى فؤادكِ حاسـدٌ أو جاهلٌ متعاقلٌ موتورُ
ولكم عفوتِ تكرمًا عن شاردٍ فأتى إليكِ وذنبه مغفورُ»
القوة الناعمة للدول من أخطر أنواع الأسلحة المشروعة، والتى تستخدم لفرض السيطرة والسطوة على الآخرين من خلال تأثيرها على الآخرين، وهناك سباق عالمى بين الدول لنشر قواهم الناعمة بأى شكل وباستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، ولكَ أن تتخيل عزيزى القارئ أن هناك دولا تصرف مئات المليارات من الدولارات لتجد مكانة لقواها الناعمة فى العالم.
وهناك دول أخرى لا تملك أى قوة ناعمة حقيقية، ولكنها تملك الدولارات فتنفق المليارات على دعاية لها لإيهام العالم أنها تمتلك قوة ناعمة مؤثرة على بقية دول المنطقة، وهناك دول أخرى تدفع مليارات الدولارات لتدمير القوة الناعمة لبعض الدول.
ويبقى التساؤل: هل القوة الناعمة للدول مهمة لتلك الدرجة؟ وهل القوة الناعمة المصرية فى تراجع؟
الإجابة نعم لكلا السؤالين، ولكن علينا أن نوضح عددا من النقاط أولاها أن هناك دولا قليلة فى العالم تملك قوة ناعمة متراكمة على مدار آلاف السنين، فالحضارة المصرية القديمة منذ أكثر من 7 آلاف عام ساهمت وشكلت من قوة مصر الناعمة التى أثرت على شعوب العالم بأكمله، ولنأخذ مثالا الهرم الأكبر الذى ما زال من عجائب الدنيا السبع، كما أن شعوب العالم ما زالت تأتى إلى مصر للسياحة لرؤية آثار الحضارة المصرية القديمة، وهذا جزء من قوة مصر الناعمة التى لا تستطيع مليارات الدولارات شهريا أن تلغيها أو تدمرها، رغم كل المحاولات التى قام بها البعض من قبل من خلال عمليات إرهابية لإظهار أن مصر منطقة غير آمنة، ولكن كل المحاولات باءت بالفشل، ويكفى أن نقول إن مصر تقع فى قلب منطقة مشتعلة ولا يوجد بها استقرار على جميع حدودها من فلسطين وليبيا والسودان، ومن الجنوب الشرقى الصومال وحتى الشمال فى البحر المتوسط هناك صراعات دائرة، ورغم كل ذلك ما زالت مصر مقصدا للسائحين بمختلف جنسياتهم واهتماماتهم سواء سياحة آثار أو شاطئية أو ترفيهية أو دينية أو غيرها، وذلك لوجود عنصر الأمن والأمان بمصر، وهى جزء من القوة الناعمة المصرية عالميا، فرغم اشتعال المنطقة لا يوجد أى تحذيرات على السفر لمصر للسياحة مثلما يحدث فى دول أخرى.
وحتى لا تتخيل عزيزى القارئ أن قوة مصر الناعمة نابعة فقط من الحضارة القديمة، فهى البداية فقط وتبعها امتداد على مدار التاريخ، فالعالم القديم يعرف مصر باسمها الذى لم يتغير منذ آلاف السنين، ولمَ لا؟؟ وهى أرض شهدت أنبياء الله، وذكرت أكثر من مرة فى الكتب السماوية (القرآن الكريم والإنجيل والتوراة)، وكل هذه الأمور جعلت لمصر قوة ناعمة حتى بدون زيارتها، ولأن مصر كانت دولة غنية ومتحضرة فى عصور كانت فيها العديد من الدول بدائية، لذا كان الجميع يعرف مصر وحضارتها سواء من السمع أو الزيارة، ومع فترات الضعف كانت مطمعا لجميع القوى نظرا لموقعها الجغرافى والذى يمثل أيضا جزءا من قواها الناعمة، وكان سببا لتكون مطمعا دائما للاحتلال للتوغل للمنطقة.
فهى بوابة للتعمق بالقارة وليس المنطقة فقط، وحتى خلال فترات المحتل الأجنبى أو التبعية للسلطان العثمانى، سنجد أن المصريين على مدار التاريخ، لم يتأثروا بالمحتل كما حدث فى العديد من دول العالم التى قضى الاحتلال على ثقافتهم وهويتهم ولغتهم الأم، وبمعنى أدق قضى على قواها الناعمة، لكن فى مصر كانت الهوية المصرية أقوى من المحتل، واستطاعت الشخصية المصرية أن تُحافظ على هويتها المتميزة عبر آلاف السنين، بل كان المحتل هو منْ يتأثر بالشخصية المصرية حتى فى عهد محمد على وأسرته، كانوا يتعاملون كأنهم مصريون، وكان الجيش المصرى فى ذلك الوقت بقيادة إبراهيم باشا أقوى جيوش المنطقة، ولم يستطع أحد أن يوقف زحفه وتقدمه فى كل المنطقة إلا بالاستسلام أو بالمعاهدات.
واستمرت القوة الناعمة المصرية رغم الاحتلال، وبعد ثورة 23 يوليو انتفضت القوة الناعمة المصرية كمارد فى المنطقة بأكملها بعد إضافة عناصر جديدة لهذه القوة، تتمثل فى الفنون والثقافة وفكرة التحرر من الاحتلال والدعوة إلى القومية العربية، وحتى بعد النكسة الجميع أكد أنها نهاية لمصر، ولن تقوم لها قائمة إلا بعد مئات السنين، ولكن لأن الهوية والشخصية المصرية جزء من قواها الناعمة استطاعت العودة سريعا، وأبهرت العالم عندما استطاع الجيش المصرى أن يقهر جيش العدو الذى كان يصرف ملايين الدولارات لبث روح الهزيمة عند المصريين، وليقول للعالم إن الجيش الإسرائيلى لا يُهزم ولا يُقهر، ولكن الجندى المصرى استطاع أن يكشف للعالم زيف هذه الأكاذيب كلها.
أنا لا أريد أن أسرد التاريخ الذى نعرفه جميعا، ولكن التذكرة تكون هامة وواجبة فى أوقات الحرب على مصر وعلى قواها الناعمة، والتى قلت سابقا إنها فى تراجع على بعض المستويات، هذا التراجع نتيجة حرب شعواء على مصر وقواها الناعمة لهدم المجتمع وتفكيكه، ولكن منْ يدفع مليارات الدولارات شهريا ضد مصر نسى فى البداية دراسة الشخصية والهوية المصرية جيدا.
فالمصريون لا تتوقع منهم أى رد فعل، فدائما يفاجئون العالم، وما زالت القوة الناعمة المصرية تفرز أجيالا جديدة فى مختلف المجالات قد لا تسمع عنها أو تعرفها؛ لأنها أجيال تعمل فى صمت، والمشهور فيهم فقط الرياضيون أو الفنانون، وليس معنى ذلك أن الباقين مجهولون، ولكن أغلبهم معرفون للعالم، ونتيجة الحرب على القوة الناعمة بواسطة السوشيال ميديا يتم تصدير النماذج السلبية أمثال التيك توك وغيرهم على أنهم صفوة المجتمع المصرى؛ ليختصر أكثر من 107 ملايين مصرى فى عشرات أو حتى مئات على السوشيال ميديا.
وللحق فرغم تزايد عدد المصريين والذى يعتبره البعض مشكلة، ولكنى أرى أن أعداد المصريين الكبيرة هى خير حامٍ وضامن للوطن من أى عدوان خارجى سواء فكريا أو اقتصاديا أو أى شكل آخر، وعلى الدول أن تتعامل معها كمكسب، ووضع خطط للاستفادة من الأعداد وليس التعامل معها أنها مشكلة، ولو نظرنا إلى أكثر الدول من حيث عدد السكان ستجد أغلبها متقدمة صناعيا واقتصاديا مثل الهند والصين وأمريكا وإندونيسيا وروسيا واليابان.
فالمشكلة ليست فى عدد السكان، ولكن فى كيفية الاستفادة منهم وتوظيفهم بشكل سليم، فالشعب المصرى بمختلف طبقاته وحدة واحدة وليست قبائل أو جزرا منعزلة عن الأخرى؛ شعب يراه البعض ساخرا وأحيانا ناقما وأحيانا صابرا وأحيانا لا يبالى، ولكن فى وقت الخطر الحقيقى على الوطن ينتفض كالمارد ليدافع عن الوطن ضد أى عدوان وضد أى عدو.
