رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

«مريم وأخواتها».. الوقوع فى شباك عصابات الهدايا الرقمية


16-8-2025 | 20:32

.

طباعة
بقلـم: د. أحمد فتحى محمود

فى إحدى الليالى الصيفية بالقاهرة، جلست مريم، ابنة الـ16 عامًا، تحلم بأن تصبح مشهورة، كانت تقضى ساعات طويلة أمام هاتفها، تبحث عن أحدث «الترندات» لتصوير مقاطع قصيرة على تطبيق تيك توك. فى البداية، كانت المقاطع لا تتجاوز رقصات بسيطة أو تحديات مرحة مع صديقاتها، لكنها لاحظت أن «لايفات» البث المباشر التى تثير الجدل تجذب مشاهدات أكثر، ومعها تزداد الهدايا الافتراضية من متابعيها.

 

وبينما كانت مريم تتابع «لايفات» مشاهير التيك توك تنهال عليهم أموال الهدايا من «الأسود إلى الحيتان»، وصلتها رسالة خاصة من وكالة تسويق رقمى مجهولة، تعرض عليها فرصة لربح أموال بسهولة مقابل بث مباشر «لايف» لمدة ساعتين يوميًا، واستلام الأموال عبر الوكالة التى ستخصم بالطبع النسبة الأكبر مقابل خدماتها ودعمها بالرعاة، الفكرة بدت بسيطة، والمال بدا مغريًا، خاصة وهى فى عطلة الصيف بلا التزامات دراسية، ويمكن أن تستغل الأرباح فى الخروجات والسهرات.

بعد أشهر، بدأت الشهرة تدق أبوابها، ويظهر فى حياتها متابعون كثر بدعم من الوكالة، تحت مسمى «رعاة» يرسلون هدايا رقمية عالية القيمة، ويطلبون منها التواصل على تطبيقات أخرى، لم تكن تدرك أن تلك الهدايا بوابة لعمليات غسيل أموال معقدة، تنقل الأموال غير المشروعة من يد إلى أخرى تحت ستار الدعم الرقمى، بالنسبة لـ«سلمى»، كان الأمر مجرد فرصة لتحقيق حلمها، لكن خلف الكواليس كانت خيوط لعبة أكبر تُحاك، وضعتها كغطاء لأنشطة إجرامية، وعلى رأسها غسيل الأموال وهدم قيم المجتمع، وهنا تأتى أهمية الحملة الأخيرة لوزارة الداخلية المصرية، التى استهدفت ملاحقة هذه الشبكات عبر تيك توك وغيره من التطبيقات؛ لحماية الفئات الأكثر عرضة للاستغلال.

لم تعد قصة «مريم وأخواتها» استثناء فى مصر ولا فى دول أخرى، الجهات الأمنية، بل استراتيجية شاملة للدولة المصرية لحماية المجتمع، بدأت منذ أشهر بتكثيف الأجهزة الأمنية المصرية الرقابة على نشاطات بث المحتوى المباشر، بالتعاون مع البنوك ووحدات مكافحة جرائم الإنترنت، بعد رصد عشرات الحالات المشابهة التى تورط فيها مراهقون وشباب من دون وعى بحجم المخاطر.

القانون يطرق أبواب الشهرة

تخيّل شابًا أو فتاة، ربما كان بالأمس طالبًا جامعيًا أو موظفًا بسيطًا، يجد نفسه فجأة فى دائرة الضوء، تتهافت عليه عروض الإعلانات، وتنهال عليه الإعجابات والتعليقات، هذا هو الوجه المشرق لـ«تيك توك»، الذى حوّل كثيرين إلى نجوم بين عشية وضحاها، لكن هذا البريق قد يخفى وراءه ظلالًا قاتمة، عندما تتجاوز الشهرة حدود القيم، ويصطدم الإبداع بقوانين المجتمع، هذا ما حدث بالضبط فى مصر، عندما بدأت وزارة الداخلية حملتها الأخيرة، التى لم تكن مجرد أرقام فى بيانات رسمية، بل كانت قصصًا لأشخاص تغيرت حياتهم بين ليلة وضحاها.

بالنسبة للكثيرين فى الشارع المصرى، كانت هذه الحملة بمثابة استجابة لمطالبات شعبية متزايدة بوضع حد لما يرونه «انفلاتًا أخلاقيًا» على المنصة، فكثير من الأسر كانت تشعر بالقلق من المحتوى الذى يتعرض له أبناؤهم، والذى قد يتعارض مع التربية والقيم الدينية والاجتماعية. لكن فى المقابل، يرى آخرون، وخاصة من الشباب وصناع المحتوى، أن هذه الحملة قد تكون سيفًا ذا حدين، فبينما يتفقون على ضرورة مكافحة المحتوى الضار، يخشون من أن يتم استخدام هذه القوانين بشكل فضفاض، مما قد يقيد حرية التعبير والإبداع المشروع.

بينما من جهة أخرى، أصبح «تيك توك» أيضًا مرآة تعكس بعض الجوانب السلبية فى المجتمع، فالسعى المحموم وراء الشهرة والمال، أدى ببعض صناع المحتوى إلى تجاوز الخطوط الحمراء، وتقديم محتوى مبتذل أو مسيء، لا يراعى الذوق العام أو القيم الأخلاقية، الذى غالبًا ما يعتمد على الإثارة الرخيصة، يثير قلقًا عميقًا لدى الأسر والمؤسسات التربوية، التى تخشى من تأثيره على الأجيال الجديدة، وتشويه مفاهيم النجاح والشهرة لديهم.

إن التحدى هنا ليس فى «تيك توك» نفسه، بل فى كيفية استخدامنا له، فالتكنولوجيا، كأى أداة، يمكن أن تكون بنّاءة أو هدامة، حسب اليد التى تستخدمها، فهل يمكن للمجتمع المصرى أن يستفيد من الجوانب الإيجابية للتيك توك، كمنصة للإبداع والتواصل، مع وضع آليات فعالة لمواجهة الجوانب السلبية، دون اللجوء إلى الحظر أو القمع؟، هذا هو السؤال الذى يحتاج إلى نظرة للتجارب الدولية، لتشمل الوعى المجتمعي، والتربية الرقمية، ودور المنصة نفسها فى تحمل مسئوليتها.

«تيك توك» فى بلد المنشأ

ما يحدث فى مصر ليس حالة فريدة، فـ«تيك توك»، بصفته ظاهرة عالمية، أثار جدلًا مشابهًا فى العديد من الدول، وإن اختلفت الأسباب والمقاربات، هذه التجارب الدولية تقدم لنا دروسًا قيّمة حول كيفية التعامل مع هذه المنصة المعقدة، وعلى رأس تلك التجارب بلد المنشأ «الصين».

فى قلب بكين، حيث وُلدت فكرة تيك توك، يوجد تطبيق آخر يحمل اسم «دوين» (Douyin)، وهو النسخة الصينية من التطبيق الشهير، لكن «دوين» ليس مجرد توأم لـ«تيك توك»، إنه عالم موازٍ يخضع لرقابة صارمة وتوجيه حكومى دقيق، فبينما يواجه، و«تيك توك» فى الغرب، اتهامات بالتأثير السلبى على الشباب، فإن «دوين» فى الصين مصمم لتعزيز المحتوى التعليمى، والثقافى، والوطنى، مع فرض قيود صارمة على المحتوى الذى قد يعتبر ضارًا أو غير أخلاقى من وجهة نظر الحكومة. تخيّل طفلًا صينيًا، لا يمكنه قضاء أكثر من 40 دقيقة يوميًا على «دوين» إذا كان عمره أقل من 14 عامًا، وذلك بفضل وضع المراهقين الذى يفرضه التطبيق، هذا الوضع لا يقتصر على تحديد الوقت فحسب، بل يوجه المحتوى نحو مقاطع الفيديو التعليمية، والتجارب العلمية، والمعارض الفنية، وحتى مقاطع الفيديو التى تمجّد الأبطال الوطنيين.

تجربة الصين مع «دوين» تظهر لنا نموذجًا مختلفًا تمامًا للتعامل مع تحديات المنصات الرقمية، فبدلًا من التركيز على الحظر أو العقوبات بعد وقوع المخالفة، تركز الصين على التوجيه والرقابة المسبقة، بهدف بناء مجتمع رقمى يتوافق مع رؤيتها للقيم والأخلاق، لتشكل مقاربة تثير تساؤلات حول التوازن بين السيطرة الحكومية وحرية التعبير، وحول الدور الذى يجب أن تلعبه التكنولوجيا فى تشكيل المجتمعات.

منصة لغسيل الأموال

لم يعد تيك توك مجرد منصة للرقصات السريعة والمحتوى الترفيهي، بل أصبح أيضًا ساحة خلفية لتجارة سوداء رقمية. فوفق تقارير أمنية، شهدت مصر والمنطقة العربية خلال السنوات الثلاث الماضية تصاعدًا فى محاولات استغلال المنصة فى أنشطة مشبوهة، منها تحويلات مالية مموّهة، وشراء هدايا افتراضية تحوّل إلى أموال حقيقية لاحقًا، الطريقة بسيطة لكنها فعالة، يقوم أحد الأطراف بتمويل حسابات مراهقين أو صانعى محتوى مغمورين، ويطلب منهم إجراء بث مباشر يتلقى خلاله هدايا رقمية من متابعين مزيّفين، ثم تُباع هذه الهدايا إلى المنصة مقابل أموال تُودع فى حسابات محلية، مما يضفى شرعية على أموال مجهولة المصدر، لتبدأ المرحلة التالية بمحاولة شراء عقارات وممتلكات وفتح أنشطة تجارية؛ لتكون ستارًا أمام الجهات الرقابية لغسيل الأموال.

ورغم تعهد شركة بايت دانس الصينية المالكة لتلك المنصات بمكافحة الجرائم المالية، فإن الثغرات التقنية والإجرائية تظل قائمة، فـ«تيك توك» مثلًا يعتمد نظامًا يسمح بشراء العملات الافتراضية عبر بطاقات الدفع الإلكترونى أو المحافظ الرقمية، ثم إنفاقها على الهدايا الافتراضية، لتشكل هذه الدورة المالية السريعة بيئة مثالية لغسيل الأموال، خاصة فى الدول التى لا تطبق رقابة صارمة على المدفوعات الرقمية.

وتؤكد تقارير خبراء الأمن السيبرانى أن المشكلة ليست فى التكنولوجيا ذاتها، بل فى ضعف آليات التحقق من هوية المستخدمين، وعدم التتبع الكافى للمصادر الحقيقية للأموال، وفى ظل غياب اتفاقيات دولية ملزمة، يجد المجرمون فى المنصات الرقمية ملاذًا آمنًا لتحويل الأموال عبر الحدود، وتعكس ذلك الإحصاءات الرسمية الصادرة عن البنك المركزى المصرى لعام 2024 التى تشير إلى أن حجم المدفوعات الرقمية ارتفع بنسبة 35 فى المائة مقارنة بالعام السابق، وهو ما يعكس التطور الإيجابى فى الشمول المالي، لكنه فى الوقت نفسه يفتح الباب أمام استغلال هذه القنوات فى أنشطة مشبوهة، ما لم يتم تعزيز الرقابة.

«الداخلية المصرية».. ضربات استباقية

فى مطلع هذا العام، أطلقت وزارة الداخلية المصرية حملة موسعة تستهدف الشبكات التى تستغل «تيك توك» فى غسيل الأموال والتحريض على أنشطة غير مشروعة، واعتمدت الحملة على تتبع التحويلات المالية المشبوهة، ورصد الحسابات الوهمية التى تقدم عروضًا مالية للمراهقين وصغار السن. وبحسب بيان رسمى للوزارة، أسفرت الحملة خلال ثلاثة أشهر عن ضبط 27 شبكة محلية وإقليمية، ومصادرة مبالغ مالية تجاوزت 45 مليون جنيه يُشتبه فى ارتباطها بعمليات غسيل أموال، كما تم إغلاق مئات الحسابات المزيفة على المنصة.

ولم تقتصر الحملة على الإجراءات الأمنية فقط، بل تضمنت جانبًا توعويًا، من خلال نشر رسائل تحذيرية على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، لتثقيف الأهالى والمراهقين حول مخاطر الانخراط فى مثل هذه الأنشطة، والتى تُوجت بحكم محكمة الأمور الاقتصادية على نجمة تيك توك هدير عاطف بالسجن خمس سنوات، إضافة إلى سبع سنوات لحبيبها السابق، بعد ثبوت تورطهم فى خداع المواطنين عبر وعود استثمارية وهمية فى مجالات مثل السيارات والعقارات، وانتهت القصة باختفاء الأرباح المفترضة وظهورها فى حسابات المؤثرين كما لو كانت نتيجة عمل مشروع حقيقي.

وتواكب الأجهزة المصرية أساليب غسيل الأموال الرقمية باستمرار، وأبرزها فى حالة «تيك توك» هو استغلال ميزة البث المباشر والهدايا الافتراضية، لكن الأمر لا يتوقف هنا، إذ تشير الجهود الأمنية إلى تزايد الربط بين هذه العمليات ووكالة التسويق وعالم العملات المشفرة، تبدأ العملية بتمويل حسابات لبث مباشر على تيك توك لجذب الهدايا الافتراضية، ثم بيع هذه الهدايا مقابل عملات مشفرة مثل “البيتكوين” أو “التيثر”، ما يعقّد عملية التتبع، خاصة إذا جرى تحويل العملات المشفرة لاحقًا إلى أموال نقدية عبر منصات خارجية.

معركة مصر مع «تيك توك»

تعكس حملة وزارة الداخلية لتطهير التيك توك ومكافحة غسيل الأموال مبدأ أن المواجهة لا يجب أن تقتصر على الأمنيين فقط، بل تحتاج إلى تعاون شامل بين الحكومة، والمؤسسات التعليمية، والمجتمع المدنى، وأولياء الأمور، فالتوعية الرقمية يجب أن تبدأ من سن مبكرة، مع تعليم الأطفال كيفية حماية بياناتهم الشخصية والتعرف على محاولات الاحتيال.

مصر، رغم قلقها من تطرف المحتوى وانزلاقه إلى ما يتجاوز القيم المجتمعية والأخلاقية والأمن المالي، لم تتجه نحو الحظر الكامل لتطبيق تيك توك، بل اختارت الحوار والتقنين المنتظم، عن طريق إلزام المنصات العالمية بمزيد من الشفافية حول أنشطتها المالية، الذى يعد خطوة حاسمة لسد الثغرات التى تستغلها عصابات غسيل الأموال، وهو ما أوضحه رئيس لجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بمجلس النواب المصرى، بأن الاجتماعات التى عُقدت مؤخرا بين المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والجهاز القومى لتنظيم الاتصالات ومسئولى تيك توك -أسفرت عن التزام المنصة بحذف أكثر من 2.3 مليون فيديو مخالف، إلى جانب البدء بإجراءات تقنين أوضاعها القانونية فى مصر من خلال وجود ممثل قانونى لها، مع منح المنصة مهلة زمنية مدتها 3 أشهر لتحسين المحتوى المقدم، وحذف أى مواد مخالفة للقوانين المصرية وقيم وأخلاق المجتمع.

قصة «مريم» ليست ببعيدة عن الواقع، بل إنها تتشابه مع أحد أشهر التيك توكرز الذين يخضعون للتحقيقات حاليًا، بتهمة إخفاء مصدر تلك الأموال غير المشروعة، وإظهارها كما لو كانت ناتجة عن أنشطة قانونية، وذلك من خلال استثمارها فى شراء شقق ووحدات سكنية، وتعكس جوهر الحملة التى أطلقتها وزارة الداخلية حماية الأرواح والعقول قبل الحسابات البنكية. ففى عالم رقمى لا يعرف الحدود، تصبح اليقظة والوعى سلاحين لا يقلان أهمية عن القانون فى معضلة الإتاحة وحرية التعبير من جانب، والمنع وغسيل الأموال، من الجانب الآخر.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة