لم يخطر ببال أحد أن تتحول تطبيقات التواصل الاجتماعى من وسائل للترفيه والتواصل، إلى منصات تُستغل فى عمليات غسيل الأموال، لكن الحقائق والأدلة كشفت هذا الجانب المظلم، بعد تكرار الظاهرة فى عدة دول.. ولم تكن «تيك توك» استثناءً، فقبلها شهدت منصات مثل «فيسبوك» و«إنستجرام» و«يوتيوب» ممارسات مشابهة، غير أن «تيك توك» باتت اليوم الأبرز فى عالم ما يمكن تسميته بـ«الجرائم الخفية».
«التيك توكر» أو مشاهير المنصة، لم يكن أحد يعلم عنهم شيئًا قبل تواجدهم على المنصة، ولا يملك أحد منهم أى مهارة أو محتوى جاد أو ترفيهى لائق وراء هذا القدر من الشهرة والثراء السريع، والإجراءات التى تم اتخاذها مؤخرًا ضد التيك توكر، وما طُرح من معلومات عن عمليات لغسيل الأموال، أكدت أن منصة «تيك توك» وغيرها من منصات التواصل الاجتماعى تُشكل تحديًا له أبعاد عدة: اجتماعية واقتصادية وأمنية. وقام قطاع مكافحة جرائم الأموال العامة والجريمة المنظمة الاثنين الماضى بالتنسيق مع أجهزة وزارة الداخلية باتخاذ الإجراءات القانونية حيال صانع محتوى فى القاهرة لقيامه بغسل الأموال المتحصلة من نشاطه غير المشروع. وقد قدرت أفعال الغسل التى قام بها بمبلغ 100 مليون جنيه.
«التحول من بيئة ترفيهية إلى بيئة يمكن استغلالها فى غسيل الأموال»، هكذا يرى الدكتور محمد عسكر، خبير الذكاء الاصطناعى والأمن السيبرانى ونظم المعلومات، المشهد الراهن، مضيفًا أن هذا التحول ناتج عن طبيعة النظام المالى داخل تيك توك، كعملتها الداخلية TikTok Coins والهدايا الافتراضية التى يمكن شراؤها بالمال الحقيقى، وإمكانية إرسال هذه الهدايا لصانعى المحتوى خلال البث المباشر أو الفيديوهات، وإتاحة تحويل هذه الهدايا لاحقًا إلى أموال حقيقية عبر حساب بنكى أو خدمات دفع أخرى.
«عسكر» أوضح أن النظام المالى لمنصة «تيك توك» سمح بوجود ثغرات استغلها غاسلو الأموال، فتم إدخال الأموال المشبوهة عبر شراء عملات تيك توك باستخدام أموال غير مشروعة (ناتجة عن تجارة مخدرات، احتيال، تهريب)، وأصبح من السهل إخفاء مصدر الأموال من خلال إرسال هذه العملات كهدايا لمجموعة من الحسابات المتفق عليها (أصدقاء، شركاء، أو حتى حسابات وهمية)، على أن يتم إظهار الأموال كدخل مشروع، لأنه عند سحب صانع المحتوى هذه الأموال من تيك توك، تظهر كأرباح من نشاط رقمى شرعى «إنشاء محتوى».
وتكتمل عملية غسيل الأموال، بحسب «عسكر»، عبر إعادة دمج الأموال واستخدامها فى أنشطة مشروعة، فتُودع فى البنوك وتُستخدم لشراء أصول أو تمويل أنشطة تجارية قانونية، مما يكمل دورة غسيل الأموال.
«الأمر ليس مقتصرًا على تيك توك» كما أكد «عسكر»، بل هو أمر يمكن حدوثه فى عدد من المنصات الرقمية طالما توفرت فيها آلية لتحويل أموال حقيقية إلى عملة أو رصيد رقمى داخلى، وإمكانية إرسال هذا الرصيد إلى مستخدمين آخرين كتبرعات، هدايا، أو نقاط، على أن يتم تحويل هذا الرصيد إلى أموال حقيقية عبر حساب بنكى أو وسيلة دفع.
وضرب خبير الذكاء الاصطناعى المثل بنماذج على منصات أخرى تم استغلالها فى غسيل الأموال، ومنها منصة «Twitch» فى 2021 بتركيا، حيث تم كشف شبكة غسيل أموال كبيرة، عبر شراء «Bits» ببطاقات ائتمان مسروقة، ثم التبرع بها لصانعى محتوى متفق معهم، ليقوموا لاحقًا بسحب الأموال كأرباح شرعية.
وفى منصة «يوتيوب»، هناك تقارير أمنية عن استغلال ميزة «Super Chat» و«Super Stickers» فى البث المباشر، حيث تُرسل مبالغ كبيرة تبدو كتفاعل مع المحتوى، لكنها فى الحقيقة أموال مغسولة. وفى منصتى «Facebook» و«Instagram»، ميزة «Stars» وشراء الإعلانات يمكن استخدامها لتمرير أموال مشبوهة، وقد ظهرت قضايا فى أوروبا لتمويل جماعات محظورة عبر هذه الآليات.
كما تم الكشف عن بعض القضايا المتعلقة بمنصة OnlyFans فى أمريكا وبريطانيا عن دفع اشتراكات من بطاقات مسروقة، ثم مشاركة الأرباح بين المشتركين وصانعى المحتوى لغسيل الأموال. كذلك الحال فى منصات الألعاب مثل Roblox وFortnite، حيث يمكن شراء عملات اللعبة بأموال غير مشروعة، ثم بيعها فى السوق السوداء مقابل أموال نظيفة، وهى طريقة شائعة بين الشبكات الإجرامية الرقمية.
لكن تبقى منصة «تيك توك» هى المنصة الأكثر نشاطًا لغسيل الأموال، بحسب «عسكر»، بسبب سرعة التحويلات، فـ «تيك توك» تسمح بسحب الأرباح فى وقت قصير نسبيًا، بجانب نقص الرقابة البنكية المباشرة، فالتعامل يتم أولًا داخل نظام مغلق (اقتصاد داخلى للعملات الافتراضية) قبل وصول الأموال إلى النظام البنكى، بجانب ضعف إجراءات KYC (اعرف عميلك) فى المراحل الأولى، خصوصًا فى بعض الدول النامية، وصولًا إلى انتشار البث المباشر وجاذبيته، مما يجعل المبالغ الكبيرة فى شكل هدايا أمرًا يبدو طبيعيًا.
وأكد أن منصة «تيك توك»، دون أن يكون هذا هدفها الأصلى، تحولت من منصة ترفيهية اجتماعية إلى أداة فى يد بعض الأفراد والشبكات لغسيل الأموال، تمامًا كما حدث سابقًا مع منصات تبرعات الألعاب (مثل تويتش) أو حتى الإعلانات على يوتيوب.
أسباب متشابكة، بعضها تقنى وبعضها سياسى واقتصادى، وأخرى مرتبطة بالأمان والمحتوى، كانت سببًا فى جعل «تيك توك» منصة مثيرة للجدل عالميًا. فيقول «عسكر» إن هناك مخاوف أمنية وأخرى متعلقة بالخصوصية بسبب الملكية الصينية للمنصة، فهى مملوكة لشركة ByteDance الصينية، وهذا أثار قلق حكومات (مثل الولايات المتحدة والهند) من احتمال وصول الحكومة الصينية لبيانات المستخدمين، فالتطبيق يجمع كمًا هائلًا من البيانات، وسجل التصفح داخل التطبيق، وأنماط التفاعل، مما يجعله أداة قوية لبناء ملفات شخصية دقيقة عن المستخدمين، حتى إن عدة دول فتحت تحقيقات حول ما إذا كانت بيانات المستخدمين تُرسل أو يمكن أن تُرسل إلى خوادم فى الصين.
«مخاوف التأثير الثقافى والاجتماعى أمر يثير القلق لدى عدد كبير من الدول»، على حد قول الخبير التكنولوجى، بعد انتشار عدد من الأنماط الثقافية والاجتماعية المختلفة مثل انتشار التحديات الخطيرة، كتحديات قد تؤدى لإصابات أو وفيات، مثل تحدى القفز من أماكن عالية، أو «Blackout Challenge»، بالإضافة إلى إدمان الاستخدام الناتج عن خوارزميات التوصية شديدة القوة، التى تجعل المستخدمين يقضون ساعات طويلة، خاصة المراهقين، ما يثير مخاوف حول الصحة العقلية، وانتشار المحتوى المضلل أو المتطرف بسبب ضعف الرقابة على الأخبار المزيفة أو المحتوى الذى يروّج للعنف والكراهية. ومضى قائلًا: «فى القضايا الاقتصادية والتجارية، هناك منافسة شرسة مع المنصات الأمريكية، بعد نجاح تيك توك السريع الذى شكّل تهديدًا على هيمنة منصات مثل فيسبوك ويوتيوب وإنستجرام، مما جعل الصراع يأخذ أبعادًا سياسية واقتصادية، واتهامات بانتهاك حقوق الملكية الفكرية؛ إذ إن استخدام الموسيقى والفيديوهات دون ترخيص كامل فى بدايات التطبيق أثار قضايا قانونية».
هذه المخاوف دفعت العديد من الحكومات للتعامل بشكل أثار الجدل هو الآخر، كما أوضح «عسكر»، كالحظر الجزئى أو الكلى، فالهند حظرت تيك توك تمامًا فى 2020، وحُظر على أجهزة المسئولين فى كندا والولايات المتحدة وبريطانيا، فتم منع تثبيت تيك توك على الهواتف الحكومية، وصولًا إلى تهديدات بالحظر، كما قام الكونجرس الأمريكى الذى ناقش أكثر من مرة مشروع قانون لمنع تيك توك أو فرض بيعه لشركة أمريكية.
التحكم فى المحتوى لا الحجب الكامل، هكذا يرى «عسكر» التعامل مع منصة تيك توك، قائلًا: «تيك توك أصبح أداة مهمة فى التواصل، والتسويق، وحتى السياسة، وحجبه قد يثير جدلًا داخليًا ويضر بقطاع الإعلانات وصناعة المحتوى، لكن فى المقابل، الرقابة المشددة والملاحقات القانونية يمكنها أن تفرض القوانين المحلية والقيم الاجتماعية، وفى الوقت ذاته إرسال رسالة ردع للمستخدمين بعدم تخطى الخطوط الحمراء، فهى سياسة «الإبقاء تحت السيطرة» عبر فرض قيود تقنية أو جزئية على بعض الخصائص إذا تصاعدت الأزمات».
وطالب بأن تكون هناك تشريعات واضحة تختص بمنصة تيك توك وغيرها من منصات التواصل الاجتماعى، فهى ليست تطبيقات ترفيهية فحسب، بل سوق اقتصادى ضخم وبيئة يمكن استغلالها فى أنشطة مشروعة وغير مشروعة.
الحاجة إلى التشريعات أرجعها الخبير التقنى إلى تنظيم الربح والضرائب، فكثير من صناع المحتوى يحققون أرباحًا بالدولار أو الجنيه، لكن لا توجد آلية واضحة لإدخال هذه الأموال فى النظام الضريبى المصري. وتشريع واضح يحدد نسب الضرائب وشروط تسجيل المؤثرين سيضمن أن الدولة تستفيد ماليًا ويحمى المبدعين من الملاحقات غير المتوقعة، على أن تتم مكافحة الجرائم الإلكترونية عبر القوانين الحالية (مثل قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لسنة 2018) الذى يغطى بعض الجرائم، لكنه لا يعالج تفاصيل مثل غسيل الأموال عبر الهدايا الرقمية أو التحويلات المشبوهة على تيك توك.
ودعا إلى وجود تشريعات لحماية القُصّر، فمنصة تيك توك تجذب فئات عمرية صغيرة، وقد يتعرضون للاستغلال أو التنمر أو المحتوى الضار، والتشريع يمكن أن يفرض قيودًا عمرية أو أدوات رقابة أبوية إلزامية، على أن يتم إلزام تيك توك بالإفصاح عن بيانات الأرباح فى مصر، وعدد المستخدمين النشطين، وآلية مشاركة البيانات مع الدولة، واقترح أن يتضمن التشريع عددًا من المحاور، منها ترخيص صناع المحتوى الكبار وتسجيلهم كمهن رسمية، وآلية دفع آمنة عبر بنوك مصرية لمنع التحويلات الخارجية المجهولة، على أن يتم تجريم استغلال المنصة فى التحريض أو التلاعب المالى، وفى الوقت ذاته حماية الملكية الفكرية للمحتوى المنشور، وبيّن أن هناك عددًا من الدول سبقت مصر فى هذه التشريعات، مثل الإمارات والسعودية، فوضعت أطرًا قانونية لتصاريح المؤثرين والضرائب على الإعلانات، ما جعل السوق أكثر أمانًا وربحية للطرفين: الدولة وصناع المحتوى.
يتفق معه الدكتور المهندس عمرو صبحى، خبير أمن المعلومات والتحول الرقمى، بأن «تيك توك» لم تعد مجرد منصة ترفيهية، بل أصبحت كيانًا ذا أبعاد متعددة، يمتد تأثيره من مجال الترفيه والمحتوى الخفيف إلى شبهات غسل أموال والتأثير فى الرأى العام.
وأوضح أن الأمر قد بدأ بمقاطع فيديو قصيرة وكوميدية، لكن مع الوقت ظهرت مجموعات ضمن شبكات منظمة تستغل خاصية الهدايا الافتراضية والمكافآت المالية. هذه الهدايا تُشترى بأموال مجهولة المصدر، ثم تتحول إلى أرباح نقدية من خلال المنصة، وهو ما يطابق فى جوهره أسلوب غسل الأموال الإلكترونى، وهى ظاهرة لا تقتصر على مصر، بل تمتد إلى دول أخرى تعانى تحديات فى الرقابة.
وأضاف أن المنصة الأشهر «تيك توك» أصبحت مثيرة للجدل عالميًا، لأنها ليست مجرد تطبيق، بل أداة ذات نفوذ ثقافى واقتصادى وأمنى، فهناك اتهامات من حكومات غربية بأنه يجمع بيانات حساسة قد تُستخدم لأغراض استخباراتية، ما دفع بعض الدول إلى حظره أو تقييده بدوافع أمن قومى، مثل (إيران – أفغانستان) فى الحظر الكامل، و(الولايات المتحدة – المملكة المتحدة) فى فرض القيود. كما أن خوارزميات المنصة تروّج للمحتوى الأكثر إثارة للجدل، وهو ما يعزز التفاعل لكنه، فى الوقت نفسه، يجعله قادرًا على تشكيل الرأى العام، وهى قوة مقلقة.
«مصادر ثلاثة للربح على المنصة» هكذا أوضح «صبحى»، منها صندوق دعم المبدعين الذى تدفعه المنصة مقابل المشاهدات، والبث المباشر والهدايا الافتراضية التى يرسلها المتابعون، إضافة إلى الإعلانات والرعايات من الشركات والعلامات التجارية، لكن تبقى الهدايا الافتراضية هى الأكثر عرضة للاستغلال فى أنشطة مالية مشبوهة.
ويبيّن «صبحى» أن الربح على تيك توك يتميز بسرعته مقارنة بمنصات أخرى مثل «يوتيوب»، بفضل خوارزمياته التى تمنح المحتوى فرصة الوصول إلى جمهور واسع بسرعة، إلا أن هذا الربح لا يضمن الاستمرارية، لأن المحتوى على تيك توك قصير العمر ويحتاج إلى مجهود متواصلة للحفاظ على التفاعل.
أما عن كيفية التعامل مع المنصة، فيرى «صبحى» أن الحجب الكامل ليس حلًا مستدامًا، لأنه يؤدى إلى ظهور بدائل غير خاضعة للرقابة، مؤكدًا أن الأفضل هو تنظيم المحتوى عبر أدوات ذكاء اصطناعى محلية، مع إلزام المنصة بالامتثال للمعايير الوطنية، على غرار ما تفعله دول الاتحاد الأوروبى عبر قانون الخدمات الرقمية.
الحاجة ملحّة لوضع تشريعات، هكذا شدد خبير أمن المعلومات لتنظيم استخدام المنصة وآليات الربح منها. وتشمل هذه التشريعات: توثيق هوية صانع المحتوى قبل سحب الأرباح، وإخضاع التحويلات المالية للرقابة البنكية، ووضع قيود عمرية ومحتوى لحماية القُصّر، للحد من الاستغلال الإجرامى أو الضار.
وأضاف: «الدخل من وسائل التواصل الاجتماعى، بما فيها أرباح تيك توك، يخضع للضرائب فى معظم الدول، بما فيها مصر، إلا أن التحدى يكمن فى أن هذه الأرباح غالبًا تُحصّل إلكترونيا وعبر محافظ خارجية، ما يستدعى تحديث التشريعات الضريبية وآليات التحصيل الرقمي». وفى ختام حديثه، يرى المهندس عمرو صبحى أن «تيك توك» تمثل صورة مصغرة لواقع الإنترنت العالمي: مزيج من الإبداع والفرص، يقابله مزيد من المخاطر والاستغلال، وأن الحل ليس فى الحجب الكلى، بل فى التوعية، والتشريع، والرقابة الذكية.

