رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

حقيقة السم الأسود الذى شربه شباب الإخوان


16-8-2025 | 15:02

.

طباعة
بقلـم: أحمد بهاء الدين

على مدار عقود طويلة و«المصور» تحارب الأفكار المتطرفة لتلك الجماعات التى تتاجر بالدين، وهى لا تعرف شيئاً عن الدين، ودينها الوحيد هو السياسة والوصول للحكم.

والقضية هنا ليست موقفاً سياسياً آنياً، بل صفحة من صفحات «المصور» التى تكشف زيف أفكار جماعة الإخوان الإرهابية منذ البذرة الشيطانية التى زرعها سيد قطب فى كتابه «معالم فى الطريق» ومن قبله حسن البنا.

الكاتب الصحفى أحمد بهاء الدين رئيس تحرير «المصور» الأسبق كتب مقالا سنة 1965 بعد صدور كتاب سيد قطب ليفند فيه تطرف جماعة الإخوان. واعتبرها جماعة شاذة منقلبة على جوهر الدين... واليوم نٌعيد نشر المقال ليعرف الجميع التاريخ الأسود لتلك الجماعات.

 

قد يندهش القارئ إذا قلت له إن الدعوة التى حركت جماعات الإخوان هذه الأيام تحت رايتها -دعوة خارجة فى الدرجة الأولى على الدين الإسلامى نفسه.

وقد يظن هذا نوعًا من الإسراف فى الجدل..

ولكن هذه هى الحقيقة البسيطة، التى نلمحها من الوهلة الأولى فى قراءة الكتاب الذى قيل إنه كان قبل سواه دستورًا لجماعة الإخوان فى محاولتهم الأخيرة، وهو كتاب «معالم فى الطريق»، بقلم سيد قطب.

وقد يندهش القارئ إذا قلت له إن سيد قطب وصل فى هذا الكتاب إلى درجة من ادعاء النبوة!

وقد يندهش القارئ إذا قلت له إن هذا الفكر الذى ظن أصحابه أنه فكر إسلامى متطرف هو فى الواقع فكر فوضوى يستمد كثيرًا من جذوره من الفكر الفوضوى الذى عرفته أوروبا فى القرن الماضى.

وقبل الدخول فى هذه القضايا، أحب أن أسجل عدة ملاحظات:

أولًا: أن هذه الظاهرة، ظاهرة وجود أفكار شاذة فى تطرفها وغرابتها، والتفاف بعض الناس، والشباب، حولها -ليست ظاهرة عديمة المثال، فقد عرفتها كل المجتمعات وكل الأديان والمذاهب، فالتاريخ الإسلامى حافل بالجماعات الشاذة المنقلبة على جوهر الدين، والتى كانت الجماعة الإسلامية تحاربها وتطاردها حتى آخر الأرض، والتاريخ المسيحى حافل بمحاكم التفتيش وبحوادث إحراق العلماء والمفكرين أحياء.. لأنهم قالوا مثلًا إن الأرض كرة مستديرة، ولأن هذه الكرة الأرضية تدور، وتعرف المجتمعات العصرية الحديثة هذه الظواهر، كجماعة الجيش السرى الفرنسى التى بدأت من نقطة التعصب القومى الفرنسى، وانتهت إلى الجريمة؛ لأنها لم تقبل فكرة استقلال الجزائر، وجماعة «كوكلاكس كلان» فى أمريكا، التى يلبس أفرادها الطراطير، ويقيمون الطقوس الشاذة، ويشنقون الزنوج على الأشجار؛ لأنهم يعتقدون أن المسيحية ضد مساواة الأبيض بالزنجي.. وإلا فلماذا خلق الله هذا أبيض اللون وذلك أسود؟

ثانيًا: إنه من الصحيح أن قوى سياسية خبيثة هى التى تحرك هذه الانحرافات وتغذّيها، لاستخدام ما تنطوى عليه من طاقة تخريبية فى مهاجمة نظام لا يعجبها.. كان توجه منظمة الحلف المركزى الاستعمارية هذه الطاقة للتخريب والتدمير، ولكن المشكلة هى أن هذه اليد الاستعمارية السافرة يعرفها قادة مثل هذه الحركات وموجّهوها، ولكن كثيرًا ما يجهلها الشباب الذين يعرّضون أنفسهم للموت، مخدوعين عن حقيقة اليد الخبيثة التى تحركهم، فاليد الخبيثة إلى جانب المال والسلاح تحتاج فى اصطياد هؤلاء الشباب إلى أفكار تغذّى انحرافات عقلية واستعدادات نفسية معينة، لا تلبث أن تندفع إلى الجريمة معصوبة العينين.

لهذا يبقى العمل الفكرى، إلى جانب العمل السياسى، أمرًا بالغ الأهمية.

وأعود بعد ذلك إلى كتاب «معالم فى الطريق».

والكتاب دعوة صريحة واضحة إلى تكوين جماعة، ذات أهداف انقلابية، ولكن الذى يعنينا هنا هو الشروط والمواصفات العقلية والنفسية والسياسية والدينية التى يضعها المؤلف لأفراد هذه الجماعة.

وهنا نجد أن الجماعة التى أراد الكتاب تكوينها هى جماعة تكون متعصبة عمياء، يمكن تحريكها وهى منوّمة تنويمًا مغناطيسيًا ينعدم معه العقل، وتشحن نفوس أفرادها بطاقة هائلة من السخط والكراهية، بحيث تكون صالحة لأن تنفجر فى وجه المجتمع فى أى وقت.. بضغط يد غامضة على زرار مجهول.. لا يعرف هؤلاء المنوّمون أى يد تضغط عليه.

كيف؟

أولًا: الغيبوبة الفكرية ورفض استخدام العقل

إن أول وصفة مألوفة فى تكوين مثل هذه الجماعات، فى شتى البلاد والأديان، هو أن تتكون على أساس إيمان بغير وعي، بمجموعة من القضايا الغامضة المبهمة التى تقرب من الهلوسة الفكرية والشعوذة.. لا يمكن أن تقوم جماعة من هذا الطراز على أساس المناقشة التفصيلية والجدل والاقتناع، لذلك نجد أن أول شعار من شعارات مثل هذه الجماعات يكون دائمًا: رفض التفكير، والقول إن استخدام العقل جريمة وانحراف.

وكتاب سيد قطب ينفذ هذه الوصفة بدقة: وينفذها على حساب الإسلام ذاته، فلكى يقنع أنصاره بطرح عقولهم بعيدًا، لا بد أن يثبت لهم أن الإسلام يرفض استخدام العقل الإنسانى!

الكتاب يرفض كل شيء، ولا يقدم أى شيء!..

لا يقدم برنامجًا، ولا فكرة متكاملة، ولا خيطًا يمكن الإمساك به ومناقشته، ولكنه يقول إن برنامجه فقط هو لا إله إلا الله.

ونحن نعرف أن هذه الجملة المقدسة قد يتعبد بها البائس الفقير القابع فى كوخه بغير قوت، وقد ينقشها الغنى المترف المستغل بماء الذهب، حلية على جدران قصره.

وكل مَن كان يمر على كورنيش الإسكندرية –مثلًا– كان يرى قصر الأمير السابق محمد علي، باذخًا شاهقًا، مسروقًا من قوت الشعب ومن حريته ومن طعام أطفاله، وقد كتب على واجهته عبارة يراها كل عابر تقول «هذا من فضل ربي»..

هكذا كان رده على كل جائع حافى القدمين، يرفع رأسه إلى القصر الشامخ، متسائلًا: من أين له هذا؟ هكذا يمكن أن تستخدم أشرف الكلمات، حين لا نمضى وراءها بعقولنا لنفهمها على وضعها الصحيح..

يقول المؤلف إن برنامج الجماعة هو لا إله إلا الله.. ومعنى ذلك أن كل مَن لا يدخل جماعته يعد مختلفًا مع هذا الشعار، أى أن كل مسلم، ليس معه، ليس مسلمًا!

يقول إن برنامج الجماعة هو لا إله إلا الله، ولا يزيد بعد ذلك حرفًا. ويفرض على من يعتنق رأيه ألا يزيد بعد ذلك حرفا.

كيف؟

هنا يستشهد بالإسلام وبأمثلة منه، يلوى عنقها ليستخرج منها حججًا غريبة.. غريبة على الإسلام ذاته.

يقول لمريديه: لا تسألونى عن برنامج ولا عن خطة ولا عن نظرية ولا عن تفاصيل، لماذا؟... لأن الله أعطانا المثل حين أنزل الآيات المكية من القرآن طيلة ثلاثة عشر عاما، لا يتحدث فيها إلا عن الإيمان بالله والتوحيد، فلما هاجر النبى إلى المدينة، وأصبح للمسلمين مجتمع يحكمونه وينظمون شئونه.. بدأت تنزل آيات تحدد الشرائع والنظم.

ومعنى ذلك أنه يقول لجماعته: لا مناقشة ولا تفكير ولا أسئلة.. حتى ندمر كل معالم الحياة التى تقوم حولنا ونستولى على الحكم، ثم بعد ذلك نفكر فى الشرائع والنظم!

والأكذوبة فى كلام المؤلف واضحة تمامًا: ففى نموذج بدء الدعوة الإسلامية كان لا بد من التبشير أولا بدين جديد، كان لابد من إقناع الناس أولًا بأن هناك إلهًا واحدًا أحدًا، ولم يكن هذا سهلًا على قوم يعبدون الأصنام.

فهل يضع المخدوعون الجدد أنفسهم فى نفس الموقف؟ يزعمون لأنفسهم أنهم يبدأون من نقطة الصفر ويقنعون الناس –لأول مرة– بأن هناك إلهًا واحدًا ورسولًا اسمه محمد ودينًا اسمه الإسلام.. وكأن كل ما مر من رسالة ودعوة ودولة ونضال طيلة ألف وأربعمائة سنة كان هدرًا؟...

يقول المؤلف بالحرف الواحد

الذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ نظريات، وأن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات للحياة... لا يدركون طبيعة هذا الدين.... وينبغى أن يكون مفهومًا لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين!!! -علامات التعجب من عندي-، يجب أن يدعوهم أولًا إلى اعتناق العقيدة، حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون! علامة التعجب هنا من عند المؤلف!!

... وحين يقوم هذا المجتمع بالفعل!! يبدأ عرض أسس النظام الإسلامى عليه!.. ولقد يخيّل لبعض المخلصين المتعجلين أن عرض أسس النظام الإسلامى والتشريعات الإسلامية على الناس ييسر لهم طريق الدعوة ويحبب الناس فى هذا الدين.. وهذا وهم تنشئه العجلة!

إن الجاهلية التى حولنا تتعمد أحيانًا إحراج أصحاب الدعوة الإسلامية، وتسألهم: أين تفصيلات نظامكم الذى تدعون إليه؟ وماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث ومن دراسات؟ والجاهلية لا تريد بهذا الإحراج إلا أن تجد لنفسها تعلة فى نبذ شريعة الله!.. ومن واجب أصحاب الدعوة الإسلامية ألا يستجيبوا للمناورة! من واجبهم أن يكشفوا مناورة الإحراج وأن يستعلوا عليها!

سيد قطب إذن، بعد أربعة عشر قرنًا من الرسالة المحمدية، يريد أن يبدأ بالضبط من حيث بدأ محمد! يدعو الكفار –الذين تقول شهادات ميلادهم إنهم مسلمون– إلى الإسلام! ولا يريد حتى أن يبدأ من حيث نزلت الآيات التى تعبر عن روح العدالة فى الشريعة الإسلامية!

إنه يرفض حتى أن يناقش الشريعة الإسلامية لكى نعرف كيف يفهمها وهل يخطئ فى فهمه لها أو يصيب! إنه يضع نفسه فى مكان النبى المعصوم!، بل يطلب من أتباعه إلغاء عقولهم وحبس أسئلتهم، حيث لم يطلب النبى من المؤمنين أن يلغوا عقولهم ويحبسوا أسئلتهم!

يقول القرآن الكريم فى سورة الأنعام للنبى: «قل لا أقول لكم عندى خزائن الله ولا أعلم الغيب، ولا أقول لكم إنى ملك إن اتّبع إلا ما يوحى إليَّ، قُلْ هَلْ يستوى الأعمى والبصير، أفلا تتفكرون».

آية تنضح بحض النبى على التواضع، ورفض كل فكر غيبي، ودعوة إلى كل فرد أن يفتح عينيه.. ويفكر

«إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون»

«كتابٌ فُصِّلَت آياتُه، قرآنًا عربيًا، لِقَوْمٍ يَعْلَمُوْن»

ولكن تكوين جماعة عمياء مشحونة بالمقت لا يكون بفتح العيون واستخدام العقل والتفكير: إنما يكون بإلغاء العقل، وعدم التفكير، وقفل باب المناقشة والاستفهام والاجتهاد...

ثانيًا: إيجاد عزلة كاملة بين أفراد التنظيم والحياة

جزء أساسى فى أسلوب تكوين مثل هذه الجماعات، ضرب نطاق من العزلة الشاملة بين أفرادها وبين الحياة والمجتمع...

الأسلوب هنا يعتمد على اقتناص الشباب فى سن مبكرة، والعقل ما زال غضًا، والنفس تهفو إلى رسالة أو مغامرة، ولكن لأن الذين يقتنصون هذا الشاب لا يقدمون له مادة حية قابلة لأن يتغذى عليها فكره، بل مجرد هلوسة ضبابية، فلا بد لهم أن يقطعوا ما بين مثل هذا الشاب وبين الحياة من حوله.. فلا يعود قابلًا للتأثير والتأثر، ولا قادرًا على الأخذ والعطاء، لا بد لهم أن يُشعروه أن عقله أشبه بجلد قابل للعدوى من عالم كله أجرب.

وهذا أيضًا نجده مسطورًا فى آخر دساتير الإرهاب فى دهاء شديد، ثم فى حض صريح.. فالصيغة التى يطرحها الكتاب هى أننا نعيش فى عصر جاهلية، كالجاهلية التى سبقت ظهور الإسلام وبدء الرسالة المحمدية..

نحن اليوم، الحديث يشمل العالم كله، فى جاهلية كالجاهلية التى عاصرها الإسلام أو أظلم، كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيرًا إسلاميًا.. هو كذلك من صُنع الجاهلية!

و... إن وجود الأمة المسلمة قد انقطع منذ قرون كثيرة!! فالأمة المسلمة ليست أرضًا كان يعيش فيها الإسلام، وليست قومًا كان أجدادهم فى عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي.. وسأعود إلى مناقشة معنى هذه الجاهلية بعد قليل.. ولكن المهم هنا هو ماذا يطلب هذا التنظيم بالضبط ممن يقتنصهم إلى صفوفه؟

يقول: كان الرجل حين يدخل فى الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه فى الجاهلية، كانت هناك عزلة شعورية كاملة بين ماضى المسلم فى جاهليته وحاضره فى إسلامه، تنشأ عنها عزلة كاملة فى صلاته بالمجتمع الجاهلى من حوله وروابطه الاجتماعية، فهو قد انفصل نهائيًا ببيئته الإسلامية، حتى وإن كان يأخذ من بعض المشركين ويعطى فى عالم التجارة والتعامل اليومي، فالعزلة

الشعورية شيء والتعامل اليومى شيء آخر، إن أولى الخطوات فى طريقنا هى أن نستعلى على هذا المجتمع الجاهلى وقيمه وتصوراته!

هكذا.. لا بد من العزلة الكاملة، والجدار الأصم بين مَن يدخل فى عالم سيد قطب وكل مَن يعيش خارج عالمه.. العالم كله جاهلية، وأفراد هذه الجماعة فقط هم المسلمون.

الخلاف كما يقول صراحة ليس بين اتجاه واتجاه، ولكنه بين الكفر والإيمان، بين الشرك والتوحيد. أعضاء الجماعة وحدهم هم الموحّدون، وكل مَن عداهم مشركون.

حتى الأم والأب والزوجة والابن والوطن؟ نعم.. ففى فصل غريب يمضى المؤلف فى الإلحاح على هذه العزلة المطلقة، ويطالب بأن تقطع ما بين الفرد وأهله ووطنه لأنه مسلم ولأنهم كلهم مشركون.. يقول:

ليست قرابة المسلم أباه وأمه وأخاه وزوجته وعشيرته..

ثم يضرب على ذلك الأمثال..

نوح، حين نادى ربه لكى ينقذ ابنه، وقال له الله إنه ليس من أهله، لأنه من المشركين.

إبراهيم إذ قال له الله: إنى جاعلك للناس إمامًا، قال: ومن ذريتي؟ قال: لا ينال عهدى الظالمين، فيعتزل إبراهيم أباه وأهله.

وأصحاب الكهف، حين يعتزلون أهلهم وقومهم وأرضهم.

وامرأة نوح وامرأة لوط، حين انفصلتا عن زوجيهما بسبب العقيدة.

ويستخلص العبرة.. هكذا تتعدد الأمثال فى جميع الوشائج والروابط.. ووشيجة الأبوة فى قصة نوح، ووشيجة البنوة والوطن فى قصة إبراهيم، ووشيجة الأهل والعشيرة فى قصة أهل الكهف، ورابطة الزوجية فى قصة امرأتى نوح ولوط.

هكذا تفترق العشيرة الواحدة، ويتفرق البيت الواحد، حين تفترق العقيدة.

هذا كله بالطبع على أساس افتراض كبير: أن دعوة سيد قطب فى مستوى دعوات الأنبياء، وأن الصلة اليوم بين عضو الجماعة وأهله وعشيرته ووطنه كالصلة بين المؤمن والمشرك!

هكذا يتسمم شعور الشاب نحو كل ما يحيط به.. ويجد المسافة بينه وبين كل ما فى الحياة من دول وأوطان وأهل وزوجة وأبناء.. مسافة سحيقة.. مسافة ما بين المؤمن والمشرك، لا أقل!

ثالثًا: الطقوس التى تُكمل جو الشعوذة

البند الثالث فى وصفة الجمعيات السرية الشاذة، هى: أن تُحاط بطقوس ذات رهبة شديدة تستكمل الوهم وتوحى للسُذج أنهم بصدد عهد مقدس، وتطرد من عقولهم آخر قدرة على الإرادة المستقلة والتفكير الحر.. وكثير من هذه الطقوس يمكن استخلاصه مما سبق ذكره..

الرهبة التى يخلقها فى نفس الشاب أنه كافر مشرك حتى ينضم إلى الجماعة، والرهبة التى يخلقها فى نفسه، بعد انضمامه، إحساسه بأن كل مَن حوله كفار مشركون، مآلهم إلى النار.. الآباء والأمهات والإخوة والزوجات، فضلًا عن الآخرين، إيهامهم أنهم بهذا سوف يقلبون الدنيا ويغيّرونها، وأن الطريق يبدأ بهذه القنبلة.. سهولة إقدامهم على إهدار دماء الآخرين ما دام كل الآخرين كفارًا مشركين.. ثم التحدث إليهم عن أسلوب التنظيم.. حين يؤمن إنسان واحد بهذه العقيدة، عقيدة سيد قطب يبدأ وجود المجتمع الإسلامى حكمًا.. وحين يبلغ المؤمنون ثلاثة نفر يكون المجتمع الإسلامى قد وجد فعلًا.. والثلاثة يصبحون عشرة.. والعشرة يصبحون مائة.. والمائة يصبحون ألفًا.. والألف يصبحون اثنى عشر ألفًا.. ويبرز ويتقرر المجتمع الإسلامى.

وآخر ما يختم هذه الطقوس الرهيبة.. هى ما يختم به صفحات الكتاب: إيهام هؤلاء الشباب أن الذين يختلفون معه لا يخالفونهم حول قضية سياسية أو اجتماعية: إنما يخالفونهم فى دينهم.. يقول: إنها ليست معركة سياسية ولا معركة اقتصادية ولا معركة عنصرية، ولكنها فى صميمها معركة عقيدة: إما كفر وإما إيمان.. إما جاهلية وإما إسلام!

القضية ليست سياسية ولا اجتماعية ولا قومية.. حتى لا يتأملوا التطور الضخم فى بلادهم، فإخراج الإنجليز وإنهاء الاحتلال وتأميم القناة واسترداد مواردها لحساب الشعب المؤمن، والمشروعات الهائلة، والتطور الاشتراكى لحساب الشعب المؤمن، الذى عاش محرومًا عبر القرون، ليس هذا كله هو القضية، لا يجب أن يفكروا فى هذا، وإلا هربوا من كهوف التنظيم المظلمة إلى نور الحياة التى تتطور..

هكذا يضع الشاب المضلل فى وضع يشعر فيه أن الحياة من حوله بكل مظاهرها تحاربه فى دينه.. وتضطهده فى إيمانه بالله.. وتطارده لأن يدين بالإسلام!.. فلا يبقى أمامه إلا أن يقتل الآخرين أو يموت!

الافتراض الأساسى: ما هى الجاهلية؟

وقد أبقيت حتى آخر هذا المقال نقطة هى فى الواقع محور الخداع فى هذا السحر الأسود الذى صاغه منطق الإرهاب، وهو: أن العالم كله مجتمع جاهلى.

ما الفرق بين المجتمع المسلم والمجتمع الجاهلى فى نظرية سيد قطب؟

الفرق هو أن المجتمع المسلم يدين بأن لا إله إلا الله، ومعنى ذلك أنه لا حاكم إلا الله ولا سلطة لغير الله ولا شريعة سوى شريعة الله، أما المجتمع الجاهلى فهو كل ما عدا ذلك.

كل مجتمع يتولى فيه البشر سلطات الحكم، ويصدرون القوانين ويسنون النظم والتشريعات هو مجتمع كافر جاهلى؛ لأنه بهذا الوصف مجتمع يدين بالعبودية لغير الله!

وحيث إن مجتمعات العالم كلها، بشتى أنواعها وأشكالها، مملوءة بالبشر الذين يتولون مناصب الحكم، وبالمؤسسات التى تصدر القوانين، وبالأحزاب ذات البرامج والأسماء المختلفة.. فهو عالم جاهلى، كافر، مشرك.. لأن مصدر السلطات هو الله سبحانه وتعالى.. لا الشعب ولا الحزب ولا أى من البشر.

هنا أيضًا نقف أمام نوع آخر من أنواع الضباب المقصود، الذى يعصب الأعين ويعمى القلوب.. إنه لا يطلب أن تكون الشرائع والنظم والقوانين مستمدة من تعاليم الدين الإسلامي، متفقة مع روحها وأهدافها، ولكنه يطلب أن يكون الحكم لله، والسؤال البسيط الذى يكشف المغالطة التى دبجها فى عشرات الصفحات، وبنى عليها كل دعوته -هو:

هل ينفذ الله إرادته فى الدنيا مباشرة أم من خلال البشر أنفسهم؟

هل يصحو الفلاح يومًا فيجد أرضه قد انبثقت عن الزرع الذى يأكله، بدون عمل منه، أم أن الفلاح يجب أن يزرع ويروى ويحصد، لكى يعيش؟..

وإذا كان الفلاح يقوم بذلك، هل هو بهذا يعترض إرادة الله، لأنه يقوم بمجهود بشرى من أجل تحقيق غاية لا بد منها.. وهى استنبات الطعام؟

كلا.. بالطبع..

ألا ينطبق نفس المنطق على كل أمور الحياة؟

إن ازدهار الحياة لا يكون بزراعة الطعام فقط.. إنما أصبحت الحياة تحتاج إلى زراعة وتجارة وصناعة.. ثم علاقات تنظمها قوانين.. ثم أجهزة ومؤسسات تنظم هذه العلاقات.. ثم أشخاص يقودون هذه الأجهزة والمؤسسات على شتى المستويات.

وليس هذا كله معارضة لإرادة الله ولا كفرًا ولا إلحادًا..

والإيمان بوجود الله لا يلغى ما على البشر من واجب فى الأرض، والقرآن يقول إن الله استخلف الإنسان فى الأرض، ليعمّرها وينظمها، فى غير خروج عن شريعته.

بل إن القرآن سجل دور الإنسان وضرورة تدخله بعقله حتى فى وقت وجود الرسول، حين قال مخاطبًا النبى «وشاورهم فى الأمر»، والأمثلة على استشارة النبى لقومه كثيرة، وقد كانت عائشة أم المؤمنين تقول: ما رأيت رجلًا أكثر استشارة للرجال من رسول الله.

وفيمَ يستشار الناس وفيمَ يجتهدون؟.. أليس فى إيجاد حلول متجددة بتجدد المواقف والمشاكل؟

وقد لخص الشيخ محمد عبده كل رسالته فى خدمة الإسلام فى قوله: ما ارتفع صوتى إلا بالدعوة إلى أمر عظيم هو: تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، إن الدين على هذا الوجه يعد صديقًا للعلم، باعثًا على البحث فى أسرار الكون، داعيًا إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالبًا بالتعديل عليها فى أدب النفس وإصلاح العمل.

وكان الشيخ محمد عبده يقول إن القرآن يشير إلى الإرادة الحرة للإنسان فى ثلاثة وستين موضعًا.

الواقع إن فكرة سيد قطب فى إلغاء كل النظم والمؤسسات وكل أنواع المسئولين والمسئوليات، وإن كان قد دعا إليها من خلال القول بتكفيرها وجاهليتها، فهى فكرة غريبة عن الإسلام تمامًا، فكرة مقتبسة من أفكار مذاهب الفوضويين الأوروبيين فى القرن التاسع عشر، وهذا بحث طويل لا مجال له هنا الآن.

أما الإسلام، فقد بدأ منذ الوهلة الأولى ينشئ مؤسساته، ويولّى مسئوليه.. فعرفت الدولة الإسلامية على يد عمر بن الخطاب، فى وقت مبكر من ثبات الدعوة، نظمًا باهرة فى دقتها.. اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، وإلا فكيف يمكن تصور قيام تلك الدولة دون وجود قادة للجيوش، وحكام على الأمصار، وبيوت منظمة للمال، وناس يقومون بمهمة القضاء؟..

ولكن القول إن كل مؤسسة كفر.. وإن كل منصب ذى مسئولية هو مشاركة لله فى ألوهيته.. هذا القول كان ضروريًا فى تكوين منظمة كتلك المنظمة.. وإلا فكيف يزيّن للمساكين المضلّلين نسف المرافق، وقتل الناس بالمئات، واغتيال كل مَن يتصدى للقيام بدور.. والتدمير دون أى فكرة عن أى بناء؟!.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة