رحل عن عالمنا الفنان القدير لطفى لبيب، بعد رحلة فنية وإنسانية نادرة فى عمقها وصدقها. رحل الوجه الطيب الحكيم، الذى لم يكن فقط ممثلاً موهوباً، بل حاملاً لقيم الانضباط، والوطنية، والبساطة، والكاريزما الهادئة التى لا يمكن نسيانها.
كانت خفّة الظل وتلقائية الأداء ضمن أسباب دخوله عالم الفن، كأنّه لاعب محترف عندما يشارك فى مباراة مع أكبر النجوم، لا بد أن يحرز أهدافاً فيها تزيد من رصيده الفنى وحب الجماهير له.
تاريخه الفنى ثرى جداً، فهو فنان مسرحى وسينمائى وتليفزيونى وإذاعى أيضاً.
إنه الفنان الجميل لطفى لبيب الذى يعدّ واحداً من عناصر الخلطة السحرية لنجاح الأفلام، ولذلك أطلق عليه البعض «ثانى أكسيد النجومية»، دائماً ما تراه فى حالة جديدة من التوهج الفنى لأنه لا يكل يوماً عن تقديم نفسه فى ثوب جديد مع كل عمل يدخله.
كان لى شرف إجراء حوار معه، كشف فيه عن الوجه الآخر لهذا الفنان من حيث الوطنية والثقافة والإنسانية.
لطفى لبيب لم يكن نجم شباك، ولكنه تميز بحضور فنى رقيق ثاقب؛ لا يعلو صوته لكنه يلامس القلوب ويترك أثراً لا يمحى.
عرفناه فى أدوار الأب والمدير والراوى، أدوار عبَّر من خلالها عن عمقه الإنسانى ببساطة وصدق، دون افتعال أو مبالغة، وكان يؤمن بأن الفن مسئولية، ويقول دائماً: «الرقابة والإبداع.. فيه ضمير لازم يتحرك».
وُلد لطفى لبيب فى 18 أغسطس عام 1947 بمحافظة بنى سويف، وظل يحلم بالفن حتى التحق بمعهد الفنون المسرحية بعد حصوله على ليسانس الآداب، قسم فلسفة، لكنه ترك كل شىء مؤقتاً ليشارك فى حرب أكتوبر 1973 ، رافعاً السلاح قبل أن يرفع راية الفن، وهو ما ظل فخوراً به طوال عمره. لم تكن الوطنية عنده شعارات، بل كانت سلوكاً ثابتاً ومواقف صلبة.
لم تكن رحلته الفنية سهلة، بل كانت مليئة بالتحديات والانتظارات. لكنه أصرَّ على أن يصعد سلم الفن خطوة بخطوة، حتى صار من أهم الفنانين الذين يجيدون أداء الأدوار الثانية بثقل الأبطال.
وفى هذه النقطة بالتحديد سألته: على الرغم من أنك لم تتصدر أفيشات السينما ولكنك دائماً تترك بصمة مع كل فيلم؟
أجاب ضاحكاً بفخر: أنا سعيد جداً بمكانتى الفنية، ولو تحدثنا بلغة الكرة، فأنا ألعب دائماً فى خط الوسط، ولكن الحمدلله أحرز أهدافاً.
بالفعل بالرغم من نجاح هذا العبقرى ليكون نجم الدور الثانى بتميز سواء فى السينما أو التليفزيون أو الإذاعة، فإن المسرح هو «الجوكر» الذى أحبه، لدرجة العشق؛ لأنه ابن من أبنائه، وقال عنه: إنه يمنحنى الصحة والقوة ويكسبنى الحيوية والنشاط.
وبالفعل، نجح لبيب فى تكوين رصيد مسرحى لافت مثل «المغنية الصلعاء» و«عريس بنت السلطان» و«كعب عالى» وغيرها من الأعمال التى رسَّخت مكانته المسرحية، وكانت آخر إطلالاته المسرحية، من خلال عرض «أهو ده اللى صار».
وبالطبع بجانب المسرح، لابد أن نتحدث عن تألقه ونجاحه على الشاشة الفضية، حيث تمتع ببريق سينمائى خاص، يزداد توهجه مع النجم الكبير عادل إمام، الذى قال عنه لبيب: أشعر بحالة من السعادة والنشوة كلما وقفت أمام الزعيم عادل إمام، فقد جمعتنا أعمل عدة، بداية من فيلم «النوم فى العسل» و«السفارة فى العمارة» الذى أعتبره بكل المقاييس درجة سلم كبيرة تمثل نقلة فى حياتى الفنية، وأيضاً شاركت معه فيلم «بوبوس».
قدم لبيب نحو 400 عمل فنى ما بين السينما والتليفزيون والمسرح، حيث عمل مع كبار النجوم، منهم محمود عبد العزيز ويسرا وغيرهما.
حتى فى تعاونه مع جيل الشباب كان يضيف لهم من وقاره وخبرته دون أن يفرض سلطته، بل كان يحتضنهم إنسانياً وفنياً.
جاءت مشاركة لطفى لبيب فى فيلم «طير أنت» دعماً للفنان أحمد مكى فى أولى بطولاته المطلقة بالسينما، لا سيما وأنه ساهم فى اكتشافه، وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً.. وانطلق مكى بعدها كواحدٍ من نجوم السينما.
كما شارك مع الثنائى محمد هنيدى وحنان ترك فيلم «جاءنا البيان التالى» فى دوره الشهير «فخرى» وأعاد التجربة مع هنيدى من خلال فيلم «رمضان مبروك أبو العلمين حمودة».
كما شارك أيضاً النجم هانى رمزى فى فيلم «نمس بوند»، ويعد فيلم «الثلاثة يشتغلونها» مع الفنانة ياسمين عبد العزيز من الأعمال التى حققت نجاحاً جماهيرياً.. وهنا دفعنى الفضول لأطرح عليه السؤال: كيف يكون التواصل مع الأجيال دون صدام؟
أجابنى بتلقائية شديدة: بالطبع هناك اختلاف فى وجهات النظر، ولكننا نتفق على أن يظهر العمل فى أبهى صوره، وليس بالضرورة أن تكتسب الأجيال الجديدة من خبرات من سبقهم، ولكن الأهم أن يعبروا عن أنفسهم بطريقة صحيحة.
وإذا انتقلنا إلى الأعمال التليفزيونية، فسنجد له بصمة واضحة فى علامات تليفزيونة مهمة، منها «الرحايا» بطولة النجم نور الشريف، وأيضاً مسلسل «الأب الروحى» بجزأيه، وشارك فى مسلسل «الخواجة عبد القادر» مع الفنان يحيى الفخرانى وأيضاً مسلسل «صاحب السعادة» مع الزعيم عادل إمام، ومع كل عمل طلَّ علينا لبيب كان يطلق إفيهاته التى لا تُنسى، من أشهرها: «يا جماعة ده إحنا ولاد عم»، من أشهر جُمله في فيلم «السفارة في العمارة» مع الفنان عادل إمام.
وكذلك إفيه «ارحم أمى العيانة» من فيلم «عسل أسود» مع الفنان أحمد حلمى، وغيرها من الجُمل التى تحولت إلى لزمات شعبية تتردد حتى الآن.
ما قد لا يعرفه الكثيرون، أن هذا الفنان الكبير كانت له بصمة مميزة ومؤثرة فى الفن الكنسى، إذ قدم أدواراً بطولية فى عدد كبير من الأفلام ، أبرزها: «المتوحد»، و«السائح عبد المسيح المناهرى»، و«الأنبا برسوم العريان»، و«حياة مارمينا العجائبى»، و«الله محبة»، و«قلوب عطشى» وغيرها من الأعمال التى تُعرض داخل الكنائس، وقدَّم فيها أداءً روحانياً صادقاً جعل له محبة خاصة.
الفنان القدير لطفى لبيب هو صاحب الأداء «السهل الممتنع» وأيضاً لديه معايير صعبة فى اختيار الأدوار، حيث قال لى بالنص: «لا بد أن أقدم أدواراً توافق مجتمعى وتؤثر فى جمهورى".
ثم تطرق لبيب بكل حب للحديث عن مرحلة من أهم مراحل حياته، التى اعتبرها وساماً على صدره وشرفاً كبيراً له؛ حيث قال: شاركت فى حرب أكتوبر ٧٣ التى أسفرت عن انتصار عظيم نفخر به جميعاً، وتعلمت من الجيش الصبر والمثابرة، وتعلمت أيضاً المعنى الحقيقى للوطنية، وألا أهاب الموت، بل القلق على مَن نحب من تقلبات الدهر، فحماية الوطن وسلامته أولوية، وحقاً فإن الرئيس عبد الفتاح السيسى، كان هدية السماء لشعب مصر.
ثم تحدث عن مصر بكل فخر، قائلاً: لا أخاف على مصر؛ لأنها فى يد الله الذى أعطانا رئيساً محارباً وطنياً لا يغمض له جفن.
برحيل لطفى لبيب، فقد الوسط الفنى ضميراً هادئاً، ورمزاً للصدق، وفناناً تشعر أنه أحد أفراد أسرتك. لم يكن لطفى لبيب يبحث عن البطولات المطلقة، بل عن الأثر.. وترك أثراً كبيراً، نقياً، خالداً.
وداعاً أيها الفنان الطيب...
ستظل ابتسامتك علامة، وستظل كلماتك تتردد...
وسيظل فنّك منارة، تشهد بأنك مررت من هنا.