الخدمة العسكرية فرض على كل فرد من أبناء الأمة.. رجلا كان أو امرأة كل فيما يسر له، وقد أمرنا المولى سبحانه وتعالى بذلك فى كتابه العزيز فى مواضع كثيرة فقال «كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.. وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون».. ولا تخلو الأحاديث النبوية أو السنة أو الاجماع من الإشادة بفضل الجهاد، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «رباط يوم وليلة فى سبيل الله خير من الدنيا وما فيها»، ولقد كان من أثر تفانى السلف الصالح فى هذا الواجب، أن ضربت المرأة المسلمة المثل الأعلى فى مشاركة الرجل فى خوض غمار الحروب حتى لا ينفرد الرجل بالشرف والمجد دونها.
كذلك لا يخلو كتاب من كتب المطالعة الأفرنكية للأطفال من تناول مواضيع الخدمة العسكرية، أو الواجب العسكرى، أو الوطن، أو الراية، وما ذلك إلا ليغرسوا فى نفوس النشء منذ نعومة أظفارهم حب الوطن وقدسية الدفاع عنه، فضلا عما تغذيهم به أمهاتهم من لبان الوطنية الصحيحة، والإيمان بشرف الدفاع عن الوطن، ولهذا يتساوى الجميع فى واجب الخدمة العسكرية، لا فرق بين غنى وفقير، أو عالم وجاهل، أو رجل وامرأة، بل الكل فى هذا الواجب سواء، يقدسونه ويعدونه شرفا لا يدانية شرف.
مدة الخدمة العسكرية
والخدمة العسكرية إجبارية فى معظم الدول، واختيارية فى بعضها، وتختلف مدتها باختلاف الظروف والأحوال، وبحسب ما إذا كانت الخدمة إجبارية أو اختيارية.. كما أن هناك من الدول ما تتبع نظاما وسطا يجمع بين الإلزام والتطوع فى نفس الجيش، ذلك بأن يسمح لفريق من الجنود بالتطوع للخدمة مدة أطول من المدة الإلزامية المقررة.
والقاعدة العامة هى أنه لا يجوز التعاقد مع الأفراد على مدة طويلة قبل اختيارهم وتجربتهم فى صفوف الجيش، لأننا إذا استثنينا من تهيئهم ثقافتهم للترقى إلى درجات ضباط الصفوف، أو من يعملون فى سبيل الحصول على هذه الدرجات، فإننا غالبا ما نجد المتطوعين ممن ينبذون الحياة المدنية وينخرطون فى سلك الجيش، متخذين من حياة الثكنات ملجأ يؤويهم وموردا يرتزقون منه، وعلى ذلك توحى إلينا الحكمة.. ألا نتعاقد مع المتطوعين إلا لمدة محدودة.. سنتين اثنتين مثلا، ثم لا نحتفظ بهم إلا عندما نتثبت من صلاحيتهم وحميد سلوكهم وحسن استعدادهم، ذلك لأن من نجدد عقود خدمتهم يكونون أفضل بكثير من المتطوعين لأول عهدهم بالخدمة، ويتوفر فيهم من الضمان وحسن الاستعداد ما لا يتحقق فى الآخرين، لأنهم يكونون قد اجتازوا الاختبار الذى يجعلنا نوليهم ثقتنا، وهم يؤلفون نواة صالحة وهيكلا بديعا للجيش.
أما نظام الخدمة الإلزامية لجميع الشبان، فهو لازم للدول المهددة فى كيانها.. وقد تختلف مدة الخدمة العامة فلا تكون واحدة للجميع، كما قد تختلف طريقة أدائها بالنسبة لهم (وذلك بشروط مخصوصة)، إلا أن لها ميزة أدبية لا يستهان بها، وهى أنها تحتم على كل فرد من أبناء الأمة أن يتدرب على حمل السلاح تحقيقا لصالح الدفاع عن الوطن والذود عن حياضه وقت الخطر،
ويجب عند تحديد مدة الخدمة العسكرية الاستئناس بعاملين أساسيين:
(أولهما) هو الوقت اللازم لتدريب الجندى.
(والثانى) هو العدد الذى يجب أن تحتفظ به الأمة من جنود تحت السلاح، ليكونوا أساسا تشاد عليه قوة الأمة المسلحة فى وقت قصير، يضاف إلى ذلك شرط ثالث هو مراعاة حالة الأمة الاقتصادية ومركزها المالى، فالبلاد الغنية فى الرجال، الفقيرة فى المال، تضطر إلى تخفيض مدة الخدمة العسكرية .. كما هو الحال فى ألمانيا .. وعلى عكس ذلك البلاد التى يقل فيها عدد المجندين أو يصعب تجنيدهم، فإنها تفضل إطالتها إذ إن من صالحها أن تطيل مدة الخدمة مع الاحتفاظ بجنود مدربين مقيدين مشغولين بأعمالهم على الدوام، بدلا من الاحتفاظ بجيش من العاطلين ممن تنقصهم الروح المعنوية وحسن التدريب.
ومهما طالت مدة الخدمة الإلزامية فلا ينبغى ألا تتجاوز المدة الضرورية للتدريب وغيره، فلا تصل إلى خمس سنوات مثلا، لأن مثل هذه المدة مرهقة ينفر الناس منها، فضلا عن أنها تقلل عدد المدربين على حمل السلاح ويخرج بعدها الجندى من الخدمة وقد نسي مهنته الأصلية، فلا يألف عملا سوى الجندية.
حجة قوية..
وفى الأمم ذات المجالس النيابية القوية.. كثيرا ما يتخذ النواب من الخدمة العسكرية.. وسيلة للتقرب إلى قلوب الناخبين والتأثير فيهم، فمن المتفق عليه أن إطالة مدتها فيه كثير من الأضرار بالعائلات إذ يحرمها من أبنائها وعائلتها مدة طويلة، فمن الطبيعى أن يضرب النواب على نغمة تقصيرها، فلا يجدون وسيلة لذلك دون أن يلجأوا إليها، ومن الحجج التى يقدمونها غالبا أنه يمكن تدريب الجندى فى بضعة شهور، وليس هناك سبيل إلى نقض هذه الحجة أو دفعها.. ولكن.. بشرط واحد، وهو أن يتفرغ الجندى طول مدة الخدمة للتدريب فلا يقوم بأية أعمال أخرى مما تستلزمه الضروريات العادية لحياته اليومية، على أن يقوم بها أفراد من المدنيين، أو من الجنود الذين جددوا مدة الخدمة العسكرية- والأخيرون أفضل.
وقد تبدو هذه المسألة لأول وهلة مجرد مسألة مالية بسيطة، ولكن الواقع غير ذلك، لأنها لا تحل المشكلة حلا كاملا، فإن هناك طائفة من الأعمال يجب أن يقوم بها الجندى بنفسه، تضيع عليه جزءا من الوقت المخصص للتعليم إلا أن بعضها يحقق الفائدة له كالطبخ مثلا، والبعض لا غنى له عن القيام به كنظافة أمتعته وثكنته..
تجارب الأمم..
ولقد دلت تجارب الحرب العظمى فى فرنسا وفى ألمانيا على أن الجنود الشبان الذين اشتبكوا فى القتال، وقلت مدة تدريبهم عن السنة، كانوا دون غيرهم كفاءة ومقدرة، كما كانت الخسائر فى صفوفهم فادحة جسيمة، كذلك شكا قادة الجيوش السويسرية من عدم الكفاية الفنية للجندى السويسرى لقلة مدة تدريبه، وذلك رغم ما اشتهر به من صفات شخصية ومعنوية ممتازة.
ونحن إذا دربنا جموعا من الرجال تدريبا فرديا، فإننا لا يمكن أن نؤلف من هؤلاء جيشا، ولا يمكن اعتبارهم كذلك، إذ لابد للجيش من هيبة القادة والمعلمين، الذين يتولون قيادته وتدريبه من ضباط وضباط صف، وهو ما يعرف بالكادر (أو الهيكل أو الملاك) ويجب فى نفس الوقت أن يكون تحت هذا الكادر عدد مناسب من الجنود المدربين لمدة طويلة، ليتسنى لرجاله اكتساب صفات القيادة والتشرب بروحها، حتى تصبح فيهم طبيعة ثانية، ولذلك لا تكون هذه “الكادرات” وافية بالغرض فى الجيوش ذات الخدمة القصيرة كما لا يكون التجنيد فى هذه الجيوش حسنا، فكثير من المجندين ينصرفون عن إتقان عملهم الذى يؤهلهم للترقى للدرجات العسكرية، ويعكفون على متابعة دراسة المواضيع الشخصية المتعلقة بمهمتهم الأصلية.
مركز الدولة السياسى
أما المسألة الثانية التى يجب الالتفات إليها، فهى مركز الدولة السياسى بالنسبة للدول الأخرى، فإن كانت مهددة فى كيانها، وجب عليها الاحتفاظ – بصفة دائمة- بعدد من رجالها تحت السلاح، ليدرؤوا عنها شر أية عدائية مفاجئة أو خطر مباشر، وكذلك لتزويد حدودها بالحاميات الضرورية ولضمان قيامها بتعبئة قواتها فى ظروف مناسبة.
وهناك رأى يتردد أحيانا يقول باستخدام جميع القوات العاملة بمثابة قوى ساترة إلى أن تتم التعبئة العامة.. ولكن خطر هذا الرأى لا يحتاج إلى دليل، لأن معنى القوة الساترة بذاته هو أن تقوم قوات بوقاية غيرها، إلى أن يتم إعداد الجيش الوطنى! وهل يعقل أن يتم هذا العدد، وأن تتجمع الوحدات، ويمتزج الجنود ببعضهم دون وجود نواة ذات عدد واف من جنود الجيش العامل؟ إن هناك فكاهة قديمة كانت شائعة بين رجال المدفعية فى الزمان السالف معناها : أنك إذا أردت أن تصنع مدفعا فما عليك إلا أن تأتى بثقب أو بتجويف ماسورة مدفع ثم تصب حول الثقب كمية من البرونز فتحصل على المدفع المطلوب!! وإذا كان من المستحيل صنع مدفع حول تجويف ماسورة.. فإن هذه الاستحالة تزداد إذا أردنا تأليف كتيبة أو آلاى بدون نواة من الجيش العامل. وإذن لابد من هذه النواة لأنها هى الهيكل الذى ينضم إليه من يستدعى من الجنود، كذلك لابد من امتزاج الجنود وتآلفهم ولن يتم لهم هذا إلا إذا أتحنا لهم الاندماج فى حياة مشتركة فى نفس الوحدة لتوثق الروابط بينهم ويتم الانسجام.
وكذلك لا غنى لنا عن الاحتفاظ بحاميات تعسكر فى ثكنات داخل البلاد ، فذلك ضرورى من الناحيتين المادية والمعنوية، فهذه الخامات تكون بمثابة المراكز الرئيسية التى يعرفها كل الرجال فيرتادونها لقضاء مدد التمرين المفروضة عليهم، كما يمارسون فيها واجبات وظائفهم كضباط، أو ضباط صفوف للجيش الاحتياطى، ويستذكرونها حتى فى غير الأوقات المقررة لهم، وفضلا عن ذلك فإن عدم الاحتفاظ بحاميات داخلية هو من الخطورة بمكان عظيم إذ يترتب على إهماله من العواقب الوخيمة ما لا يدخل تحت حصر..
وهناك مسألة أخرى ترتبط بهذا الموضوع وهى: هل تكون مدة الخدمة العسكرية واحدة لجميع المواطنين؟ ويمكن الإجابة على ذلك بالنفى، وبلا تردد، إذا كان الأمر مقتصرا على تدريب الجيش، وكانت سلامة البلاد لا تتطلب الاحتفاظ بعدد معين من الجنود تحت السلاح فى وقت السلم. كذلك تكون الإجابة بالنفى إذا كانت متعلقة بالمدة التى يقضيها الجنود فى الثكنة، لأن عددا كبيرا من الشبان يدخلون الخدمة بعد أن يكونوا قد نالوا قسطا من التعليم مما يسهل عليهم كثيرا استيعاب التدريب العسكرى، ويمكننا من تعبئتهم فى وقت قصير، فمن العدل أن نقدر لهم هذا المجهود المشكور فنكافئهم عليه، إما بإعفائهم مقدما من جزء من مدة الخدمة العسكرية، وإما بمنحهم إجازات إضافية، وعلى عكس ذلك يوجد من الشبان من يخالفون قوانين التعليم الإلزامى المعمول بها فى جميع البلاد المتمدينة، فيلتحقون بوحداتهم العسكرية وهم فى حالة من الأمية تجعل تدريبهم العسكرى صعبا، وتستغرق تعبئتهم وقتا طويلا، فمن العدل أن يبقى هؤلاء تحت السلاح مدة أطول، ليدركوا- على الأقل – ما فاتهم من التعليم العام بسبب تقصيرهم ومخالفتهم لقوانين الدولة.
أما إذا كانت هناك أسباب سياسية أو حربية تفيد الدولة بجعل مدة الخدمة العسكرية واحدة للجميع، ففى هذه الحالة يجب أن تختلف طريقة أدائها، على ضوء الاعتبارات المتقدمة، فالجنود الذين حضروا درسا فى التحضير العسكرى (أو التدريب العسكرى للشبيبة كما نسميه) قبل التحاقهم بالخدمة، يقدمون على غيرهم فى الترقى إلى درجات ضباط الصفوف ويسبقونهم فيه. كما يفرض على الأميين مثلا واجب استدراك ما فاتهم من التعليم وهذا زيادة عن واجبات الخدمة العسكرية.
أما فى مصر، فإننا نتبع نظام الخدمة العسكرية الإجبارية العامة، وقد أدخلنا بجانبه أخيرا، نظام التطوع فى بعض فروع الجيش التى تستدعى مرانا طويلا، وخبرة خاصة، كما فى بعض الوظائف الصناعية والفنية وغيرها، إلا أن مدة الخدمة الإلزامية هى خمس سنوات، وفى قانون الخدمة العسكرية كثير من الاستثناءات التى تحرم الجيش من العناصر المتعلمة والمفيدة، كما تفوت على العامة إدراك معنى هذا الشرف العظيم.. شرف الخدمة العسكرية.
ويرجع السبب فى هذه العيوب إلى أمرين أساسيين:
أولهما- طول مدة الخدمة الإلزامية، ولكن العمل جار على إزالة هذا العيب بيجعل المدة ثلاث سنوات، وهى مدة معقولة بالنسبة لحالة الجندى المصرى على العموم، ولتعقد المعدات الميكانيكية الحديثة.
والأمر الثانى- هو تلك النظرة التقليدية التى علقت بأذهان العامة منذ أمد طويل، لجهلهم بقيمة الرسالة التى يؤديها الجندى للوطن، وبحالة الجندى فى الجيش المصرى.
ما هى الخدمة العسكرية؟
وفى الختام.. يجب علينا ألا ننظر إلى الخدمة العسكرية على أنها مجرد تكليف واجب الأداء، أنما يجب أن ننظر إليها باعتبارها واجبا مقدسا، يؤمن بشرفه كل مواطن فيؤديه بنفس راضية مطمئنة، وأن يعتبر التخلف عنها بلا عذر شرعى عارا لا يمحى، كما يجب على كل من لم تمكنه حالته الصحية، أو تخلف عنها بعذر من الأعذار، أن يعد نفسه لأدائها فى أول فرصة، وعلينا أن نقوم بالدعاية لها، وهذا واجب أساسى فى عنق كل مواطن.. فالأم فى المنزل والمعلم فى المدرسة، والإمام أو القس فى الجامع أو الكنيسة، مسئول عن هذا الواجب العظيم، ومسئول كذلك عن إذكاء شعلة الوطنية المقدسة وشرح ما فى معنى الخدمة العسكرية من شرف، وبث ذلك فى نفوس الصغار والعامة، فالجندى هو الوحيد الذى يفتدى وطنه بأثمن ما لديه، وهو : حياته ودمه، فياله من شرف عظيم هذا الذى يتيح لكل منا أن يضع حجرا فى بناء استقلال البلاد العام، وفى صرح عظمتها ومجدها.
نشر فى يناير 1952