الإجابة قطعًا لا... فأجدادنا العظماء كانوا قادرين على إنتاج وتسجيل العلوم، وتطوير التكنولوجيا وتوطينها فى شتى المجالات، بما فيها المجالات الهندسية والطبية، والزراعة والرى، فكانت الزراعة فى مصر القديمة متقدمة للغاية، مما يعكس إبداع وقدرة المصريين القدماء على الابتكار فى زراعة المحاصيل المختلفة فى منظومة متكاملة ومعتمدة على نظام رى معقد، لتوفير الغذاء، وكذلك استخدامها فى صناعة الدواء ومستحضرات التجميل وللأغراض الصناعية، مثل صناعة النسيج، والذى كان صناعة متقدمة للغاية تكنولوجيًا، حتى بالنسبة لوقتنا الراهن.. كما تكشف دراسة البرديات المصرية القديمة، وخاصة بردية موسكو المحفوظة فى متحف موسكو للفنون، عن مساهمات المصريين القدماء فى تأسيس علوم الرياضيات وحساب المثلثات.. وهذا الفهم المتقدم للهندسة والرياضيات يفسر كيف تمكن المصريون القدماء من تحقيق زوايا قائمة دقيقة فى تصميماتهم المعمارية، كما هو واضح فى بناء الهرم الأكبر للملك خوفو، الذى يعد شاهدًا على براعتهم فى الرياضيات والهندسة.
كما توصل أجدادنا العظماء إلى تقنيات النانو تكنولوجى، فاللون الأزرق المصرى Egyptian Blue هو مادة متميزة استخدمها المصريون القدماء فى العمارة والفنون، ويتميز بعدم احتوائه على طبقة زجاجية ولونه الأزرق المتجانس الناتج عن بلورات سيليكات الكالسيوم والنحاس CaCuSi4O10، وقد ظهر لأول مرة خلال الدولة القديمة (2613–2181 قبل الميلاد).
لهذا وضعت الدولة المصرية وجمهوريتها الجديدة المنطلقة منذ ثورة 30 يونيو المجيدة، قطاع تكنولوجيا المعلومات على رأس أولوياتها، كقاطرة للتنمية والوصول بمصر إلى مصاف الدول المتقدمة، وهذا ما أكده الرئيس السيسى مرارًا وتكرارًا، وظهر جليًا فى خطاب التنصيب الذى ألقاه سيادته فى أبريل من العام 2024، بقوله: «تبنى استراتيجيات تُعظِّم من قدرات وموارد مصر الاقتصادية.. وتعزز من صلابة ومرونة الاقتصاد المصرى فى مواجهة الأزمات مع تحقيق نمو اقتصادى قوى ومستدام ومتوازن.. وتعزيز دور القطاع الخاص كشريك أساسى فى قيادة التنمية.. والتركيز على قطاعات الزراعة، والصناعة، والاتصالات وتكنولوجيا المعلومات.. والسياحة».
ومن هنا نرى، بل نؤكد، أن إنتاج وتوطين التكنولوجيا هما السبيل الوحيد إلى تحقيق هذه الرؤية، وخاصة فى عالمنا الحالى الذى شهد، وما زال يشهد، أزمات عاصفة ومتتالية بوتيرة عالية، بدأت بجائحة صحية عالمية فى مارس 2020، وتلاها حرب فى شرق أوروبا فى فبراير 2022، وأزمة كبرى فى الشرق الأوسط، بدأت فى أكتوبر 2023، وحرب تجارية غير مسبوقة بدأت تأخذ منحى خطيرًا، منذ بدء الرئيس ترامب فترة ولايته الثانية فى يناير 2025.
وأعتقد أن سرعة الانتهاء من بناء هرم التنافسية الوطنى أصبح أمرًا بالغ الأهمية وضرورة قصوى، وذلك لتحقيق رؤية الدولة المصرية التنموية، ولمواجهة التحديات غير المسبوقة والتى فُرضت على العالم، منذ جائحة كورونا، وما تلاها من أزمات جيوسياسية وتجارية.. ولتحقيق الهدف النهائى للتنافسية، وهو توفير مستوى معيشى مرتفع للمواطنين، على الحكومة، جنبًا إلى جنب مع القطاع الخاص، الاستمرار فى الاستثمار فى المرافق الإنتاجية التى تشكل قاعدة هرم القدرة التنافسية، وكذلك على الحكومة الإسراع فى إنشاء البيئة التمكينية والأطر التشريعية التى تشجع القطاع الخاص المحلى على إدخال المزيد من الاستثمارات فى هذا المجال، فضلًا عن جذب الاستثمار الأجنبى المباشر.
ولا يشمل هذا مرافق البنية التحتية المادية، مثل الطرق والموانئ والسكك الحديدية والمراكز والمدن اللوجستية الذكية، ولكن أيضًا، يشتمل على المرافق الإنتاجية المتضمنة أحدث المصانع وخطوط الإنتاج، بما يتوافق مع آليات ونظم الثورة الصناعية الرابعة وما بعدها، والبحوث والتطوير سواء البحوث الأساسية أو التطبيقية، من خلال الجامعات البحثية الحديثة، المرتبطة ارتباطًا عضويًا مع القطاع الخاص، العامل فى مجالات الصناعة والزراعة والتجارة والخدمات، والمدعومة بكوادر فنية عالية التأهيل. هذا لجعل الدولة قادرة على إنتاج التكنولوجيا لتوظيفها لإنتاج منتجات وخدمات أكثر ابتكارية وقادرة على الوصول لأسواق جديدة خارج حدود السوق المحلى أو حتى الإقليمي. ويشمل ذلك أيضًا إعداد المهارات البشرية اللازمة للابتكار وإدارة المرافق الإنتاجية.
كما يشمل هذا الأمر تطوير منظومة إنتاج السلع والخدمات بكفاءة وجودة وأسعار تنافسية لتلبية احتياجات الأسواق المحلية والدولية. من المهم أيضًا تسويق مثل هذه السلع والخدمات عالميًا لزيادة الصادرات وتقليل الواردات، من خلال نظام تجارى فعال، مما يؤدى إلى تحقيق توازن تجارى أفضل؛ لأن الإنتاجية العالية والميزان التجارى الجيد سيؤديان فى النهاية إلى تكوين الثروة للأفراد والمؤسسات. وهذا من شأنه أن يساعد فى تحقيق هدف الدول الأسمى، وهو رفع مستوى الحياة لمواطنيها فى كافة المجالات.
ومن هنا تجدر الإشارة إلى ما قدمه الباحثان Egemen Sertyesilisik وBegum Sertyesilisik فى كتابهما المنشور فى عام 2021 «نمو الإنتاجية فى قطاع التصنيع» نموذجًا لاستعادة القدرة التنافسية فى فترة ما بعد الأزمات. يعتمد نموذجهما المقترح، على مفهوم أن الوصول لاقتصاد مرن وقادر على امتصاص الصدمات ممكن تحقيقه من خلال تطوير منظومة لديها القدرة على الاكتفاء الذاتى داخل بلد ما أو منطقة جغرافية ما، مع تقليل الاعتماد على الدول الأخرى كلما أمكن. وهذا لتقليل تأثير الأزمات العالمية على المستوى الوطنى، وتحسين مرونة الاقتصاد العالمى من خلال تعزيز مرونة اقتصادات الدول بشكل فردى. كما أشار الباحثان إلى أن المنظومة الصناعية هى الركيزة الأساسية فى تحقيق هذا الهدف. ويمكن لتلك المنظومة الصناعية تحقيق المرونة اللازمة، ومن ثم تحقيق القدرة على امتصاص الصدمات، من خلال جعلها منظومة ذكية وأقل ضررًا على البيئة. لذا تحتاج الدول إلى تطوير صناعات ذكية تعتمد على مفاهيم إعادة التدوير وابتكارية فى ذات الوقت. لأن من شأن الأنظمة الذكية أن تساعد فى وجود منظومة إنتاجية فعالة وكفؤة وصديقة للبيئة. علاوة على ذلك، فإن توطين مفاهيم التدوير ضمن منظومة الإنتاج سيساعد فى تعزيز الاستخدام الأمثل للمواد الخام ويقلل التأثير الضار على البيئة. أيضًا، سيفتح هذا الأمر آفاقًا جديدة للابتكار فى جميع المجالات المتعلقة بالمنظومة الصناعية لزيادة كفاءتها وفاعليتها ومرونتها وقدرتها التنافسية.
كما أن بناء بنية تحتية قوية ومرنة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لا يقع فى نطاق الرفاهية، وهذا لمعالجة الطلب المتزايد للأفراد والشركات والحكومات على الخدمات الرقمية التى تعتمد كليًا على البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. كانت الهواتف الذكية وأجهزة الحاسبات وأجهزة الحاسبات المحمولة والاتصال بالإنترنت من الأدوات الهامة للبشرية لمواصلة الحياة أثناء تفشى الفيروس. عندما أصبح فيروس كورونا حقيقة واقعة، فى مارس 2020، كان هناك خلل كامل فى كل جانب من جوانب حياتنا. كان علينا أن نكون منفصلين اجتماعيًا وجسديًا، ولكننا متصلون فعليًا. لقد شهدنا جميعًا تغييرًا هائلًا فى الطريقة التى ندير بها حياتنا. من التعليم إلى العمل إلى التجارة إلى الرعاية الصحية إلى الخدمات الحكومية إلى الإمدادات الغذائية إلى إدارة المرافق. كان علينا الاعتماد على أجهزة الحاسبات والهواتف الذكية والبرامج والبوابات الإلكترونية ومراكز البيانات والاتصال للقيام بأنشطتنا على المستويين الاجتماعى والاقتصادى. ولقد أثبتت الأزمة الصحية أن البلدان التى كان لديها استثمارات كبيرة فى البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات قبل الوباء، أنها كانت أكثر مرونة أثناء مكافحة تفشى المرض، والتعامل مع عواقبه الاجتماعية والاقتصادية بكفاءة، ومنها مصر دون شك.
كما أنه من الضرورى التأكيد أن الشركات الصغيرة والمتوسطة هى المحرك الأول للتوظيف، والمساهم الرئيسى فى الناتج القومى فى جميع أنحاء العالم. وبالتالى، فإن دور الشركات الصغيرة والمتوسطة هو دور مهم وفاعل فى التكتلات الاقتصادية، نحو بناء دول أكثر تنافسية. ولا سيما أن تلك التكتلات تساعد الشركات الصغيرة والمتوسطة فى توحيد الجهود، ومواجهة التحديات المرتبطة بالنمو والقدرة على التصدير، وتحمل ضغوطات المنافسة العالمية.
ولتحقيق هذا الهدف، ولضمان وجود شركات صغيرة ومتوسطة أكثر مرونة واستجابة للمتغيرات المحلية والعالمية، يجب أن تمتلك هذه الشركات الصغيرة والمتوسطة التكنولوجيا اللازمة لإدارة عملياتها التجارية، ونطاق أعمالها الداخلى والخارجى، بمن فى ذلك موردوها وعملاؤها.
يجب أن يكون لدى تلك الشركات من أول يوم حسابات منتظمة ومدققة، ونظم لمراقبة المخزون والإنتاج، ونوع ما من الشمول المالي.. أيضًا، يجب أن يكونوا قادرين على تنويع مورديهم، وبناء علاقات تجارية فعالة مع المنظومة الداعمة لهم، مثل الاتحادات الصناعية والتجارية، والجهات المانحة، والهيئات الحكومية ذات الصلة، بالإضافة إلى عملائهم وأقرانهم من الشركات الصغيرة والمتوسطة.
علاوة على ذلك، يجب أن تكون الشركات الصغيرة والمتوسطة مبتكرة فى الأساس، سواء على مستوى المنتج، أو على مستوى منهجية وآلية الإنتاج، أو على مستوى العملية التسويقية، من خلال الاستعانة دومًا بعمالة ماهرة والعمل على عدم التفريط بها، وتوطين التكنولوجيات الملائمة (Appropriate Technologies) لزيادة القيمة المضافة لكل نشاط تقوم به، لتعظيم العائد على التشغيل، وتحقيق الربحية، والتطور، والنمو المستدام.
كما أظهر لنا الوباء، وكذلك التوترات الجيوسياسية اللاحقة، أننا بحاجة إلى أنظمة إنتاج وتصنيع أكثر ذكاءً، تتناسب مع الديناميكيات المتطورة للسوق. لم يتم تصميم معظم أنظمة التصنيع فى جميع أنحاء العالم لتكون مرنة أو قادرة على امتصاص الصدمات بما يكفى لتلبية متطلبات السوق المعقدة، خاصة أثناء الأزمات العالمية الكبرى.
لذلك، هناك حاجة متزايدة لامتلاك أنظمة تصنيع ذكية وخضراء، للتعامل بكفاءة أكبر مع المتغيرات الكثيرة من حولنا. فمثلًا، يجب ألا يتم إصلاح أنظمة التصنيع فقط عندما يكون لدينا خلل فى التشغيل، أو تتم صيانتها وفقًا لجدول زمنى صارم روتينى لا علاقة له بمتطلبات الإنتاج أو العمل. يجب أن تكون أنظمة التصنيع ذاتية الإدارة ويمكن ملاحظتها عن طريق إضافة أجهزة استشعار إليها، للتنبؤ تلقائيًا بأى أعطال محتملة، وإعادة جدولة إجراءات الصيانة وفقًا لحالتها ومتطلبات الإنتاج، كما يجب أن تكون خطوط الإنتاج مرتبطة بأدوات تحليل البيانات.
إلى جانب أنظمة الإنتاج والتصنيع الذكية، أصبحت هناك ضرورة لوجود نظام لوجستى ذكى، أو حتى وجود نظام لوجستى أكثر تعقيدًا، ذاتى التفكير وقادر على اتخاذ القرار بدون تدخل بشرى. الاضطراب الكبير الذى شهدناه فى سلاسل التوريد العالمية أثناء الأزمات، أجبرنا على إعادة التفكير فى نظم اللوجستيات الأكثر مرونة.
لذا أصبح نظام اللوجستيات ذاتى التفكير موضوعًا تحت البحث الدقيق مؤخرًا فى الدراسات الحديثة، حيث أدى تقدم التقنيات الرقمية المختلفة إلى تسريع وتيرة العمل على تطوير هذه المنظومة اللوجستية المعقدة.. هذا من أجل وجود نظام لوجستى تنبؤى، قادر على العمل فى بيئة معقدة ومليئة بعدم التيقن.
إن تطور التقنيات الرقمية، بما فى ذلك الذكاء الاصطناعى، والروبوتات، وتحليلات البيانات الضخمة، والطائرات بدون طيار، والمركبات ذاتية القيادة، وإنترنت الأشياء الصناعى (Industrial Internet of Things - IIoT)، وإدارة المخزون بمفهوم JIT، من شأنه أن يجعل النظام اللوجستى قادرًا على أن يكون أكثر استجابة للمتغيرات، ولديه قدرة كبيرة على اتخاذ القرارات بدون تدخل بشرى كبير.
وكذلك فإن ربط التكتلات التجارية مع بعضها بعضًا من الممكن أن يساعد فى تحسين مرونة أنظمة التصنيع وقدرتها على امتصاص الصدمة.
وهذا كله لن يتأتى إلا بالاستفادة من التقنيات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعى، وتحليلات البيانات العملاقة، والتعلم الآلى، وشبكات الاتصالات المحدثة عالية السرعة، بما يؤدى لرفع كفاءة كل من منظومة الإنتاج ومنظومة تدفق المنتجات للسوق، وإدارة المخزون، وفى نفس الوقت تطبيق تدابير صارمة لمراقبة الجودة على المنتجات النهائية.
مما سبق، فلقد أصبح علم إدارة التكنولوجيا بمثابة حجر الزاوية لكل من الدول المتقدمة والنامية، لتحقيق النمو والتقدم بطريقة مستدامة فى حقبة ما بعد جائحة كورونا أو أى أزمة عالمية كبرى أخرى، كما كان دومًا هو الحال منذ الثورة الصناعية الأولى فى أواخر القرن الثامن عشر وحتى وقتنا الراهن.
لذا علينا جميعًا التكاتف والتكامل نحو تحقيق رؤية الدولة المصرية، بالعلم والبحث والتطوير، وإنتاج وتوطين التكنولوجيا، لتكون مصرنا الغالية ضمن الكبار، كما كانت دومًا وستظل.