فقد يعود سيناريو الكساد الكبير إلى الواجهة مما يلقى بظلاله على الاقتصاد العالمى فى وقت حساس يتعامل فيه العالم مع الضغوط التضخمية وارتفاع أسعار الفائدة والحروب التجارية، وهنا يبرز السؤال العالق دوماً هل هذه هى نهاية القصة؟
قطعياً لا، فقد تحولت الأزمة من صراع سياسى إلى صراع مباشر، مما أدى إلى تأرجح ملف الطاقة ومع زيادة عدم اليقين السياسى والاستراتيجي تزيد المخاطر، ولقد تشابكت قواعد الاقتصاد الكلى فهذه الأحداث ليست محلية؛ بل تمتد آثارها لأسواق الطاقة والتجارة العالمية والسيولة المالية ومع تعطل الإمدادات تقف الدول النامية والمستوردة للطاقة والغذاء لتتكلف زيادة باهظة فى أسعار وفاتورة الواردات وزيادة العجز والضغط على العملات المحلية وارتفاع تكاليف الشحن والتأمين وتعطيل ملف التنمية.
وتسعى القوى الكبرى بلا شك لتغيير قواعد اللعبة السياسية والاقتصادية فى عالم تشكل فيه موارد الطاقة عصب الحياة الصناعية وتبرز الصراعات الجيوسياسية كأحد العوامل المؤثرة فى الاستقرار الاقتصادي والغاز والنفط ليست مجرد سلع تجارية بل هى أيضا أداة من أدوات القوة والنفوذ على الساحة الدولية وسبب مباشر للصراعات.
ومن هنا تجد تأثيرها يتعدى حدود طريقها وتؤثر بشكل مباشر وغير مباشر لتشمل الاقتصاد العالمى بأسره وترسم خرائط السياسة الدولية وتفرض تحديات وفرصاً جديدة أمام الصراعات الجيوسياسية.
ووضعت الحرب بين إيران وإسرائيل العالم أو الاقتصاد العالمى وأسواق الطاقة أمام محنة جديدة وكأن المآسى لا تنتهى. ورغم حالة النقم العالمى فإن الأوضاع تنذر بالخطر وموجة جديدة ترهق الأسواق التى لم تسترح منذ فترة خصوصاً الدول المستوردة للطاقة.
لذا فعلى الدول جميعها نامية أو ناشئة كبيرة أو صغيرة أن تعيد حساباتها فهى أمام اختبار جديد للتوازن الاقتصادي. والشرق الأوسط على موعد مع الاختبار الدائم، والعالم معه يعانى من مشاكله الاقتصادية بسبب التضخم وتراجع النمو.
فالكل يعرف أن كل خطوة لعدم اليقين الاقتصادى تؤخر الاقتصاد العالمى خصوصاً فى هذا المكان من العالم، فالشرق الأوسط الذى يقبع فيه النفط والغاز ويعطى ثقلاً للاقتصاد العالمى وسلاسل الإمداد وفى نفس الوقت الخوف والأزمات. ولاشك أن 30 في المائة من إجمالى النفط يمر بحرا ومن خلال نقل 20 مليون برميل من النفط من مضيق هرمز. وهذا الممر يمر به سنويا حوالى 21 ألف ناقلة نفط عملاقة مما سبب حالة من الإرباك وقت الحرب، وتوقع لقلة المعروض وارتفاع الأسعار للطاقة مما يجعل الدوائر تدور مرة أخرى ليدخل العالم نفسه فى سرداب مظلم اقتصاديا.
فالعاصفة لم تمر دون تأثير اقتصادى فلقد عاش العالم لحظات محورية مع تصاعد التوترات الجيوسياسية إلى مستوى غير مسبوق، الأمر الذي جعل الدول المحيطة تفكر فى اقتصاد الكلفة أو اقتصاد الحرب، فالشظايا تطال الأسواق العالمية وعلى رأسها أسواق الطاقة، مما يعيد تشكيل خرائط البنية الاقتصادية العالمية التى أصبحت تطل من نافذة ضيقة جداً.
ولقد أصبحت الأسواق العالمية تسعر نفسها بناء على السيناريوهات الكارثية المحتملة وليس على الواقع فقط، وهنا نقول إن أمن الطاقة أصبح رهين الجبهتين الإيرانية والإسرائيلية بل أصبح أمن الطاقة مهددا بتحول الصراع من صراع الظل إلى نار المواجهة، وهنا نقول إن العالم أصبح يعيش تحت وطأة الضغوط الخاصة بعدم استقرار الإمدادات، كما أن العالم مازال تحت ضغط الرسوم الجمركية والطلب على النفط يتأثر بالنشاط الاقتصادى لذلك تشكل التوترات الجيوسياسية عائقا أمام هذا النشاط.
وهنا تسير أسواق الطاقة على حد السيف بين يوم وآخر وتظل أعصاب المستثمرين مشدودة والخوف من غلق المضايق الحيوية.
فمن خلال عدم القدرة الإنتاجية بالتوازي مع ارتفاع أسعار ناقلات النفط والطاقة ذاتها يعود سيناريو الركود التضخمى من جديد وتباطؤ النمو الاقتصادي لاسيما الدول المستوردة للطاقة. ولقد أصبح الشرق الأوسط فى مرمى نيران التحولات الجذرية فى هذا المشهد العبثى فالصراع لا يشمل فقط الجانب الاستراتيجي والفكرى والسياسى وإنما يطال كل الملفات الاقتصادية والكلمة الأولى للطاقة. كما أن الاقتصاد العالمى أصبح أمام سيناريوهات مفتوحة.
فأحوال العالم ليست مضمونة كما قال ويروم باول، لذلك لم يضعف أمام تهديدات ترامب فهو يرى التضخم وتراجع النمو الاقتصادي وصناعة النقل واللوجستيات مهددة والعالم يحتاج إلى استراحة محارب إما أن يذهب أن العالم إلى الكساد الكبير.
إن الاقتصاد العالمي ما كان ينقصه أزمات، فكفانا أزمات وعواصف منذ الجائحة حتى الآن ومع عودة التوترات الجيوسياسية تباعا إلى الواجهة، مما يثقل كاهل الاقتصاد العالمي بـأعباء جديدة وهو بالتأكيد في غنى عنها وستجعل الأسواق تتحمل الثمن الباهظ الذي تتكبده بالفعل فما زال صناع القرار في العالم يصارعون الوضع النقدي الذى خلفته الجائحة ثم الحرب الروسية الأوكرانية وقد جاءت الحرب بين حركة حماس والكيان الإسرائيلي بمحنة جديدة يشهدها الاقتصاد العالمي على الأصعدة المالية والنقدية وتفاقم مزيد من الديون الخارجية المتراكمة، هو ما يترك آثاره الأكثر قسوة على اقتصادات دول العالم واكتملت الحالة بالحرب الإيرانية الإسرائيلية.
فمع اندلاع الحرب في الشرق الأوسط واجه محافظو البنوك المركزية اتجاهات تضخمية جديدة، فضلاً عن توجيه ضربة للثقة الاقتصادية في وقت أعربوا فيه عن أمل متزايد في احتواء أزمة التضخم، فتصاعد الأحداث يزيد الشعور بعدم الأمان والاستقرار العالمي والذي آثارته الحروب وسوف تأخذ وقتاً حتى يتم تحديد مدى تأثيرها اعتماداً على الوقت الذى سوف تستغرقه الحرب بالرغم من تأثر أسواق النفط والغاز والأسهم تأثراً قوياً وقراءة الأحداث الاقتصادية أو التنبؤ بها حالياً شيء صعب؛ لكن التداعيات موجودة بالفعل والسوق الأمريكية التي لاتزال تحاول التكيف مع أوضاع التضخم وسياسات الفيدرالي الأمريكي وأسعار الفائدة التى لم يتوقعها كل المحللين وخبراء الاستثمار في العالم.
كل مصدر لعدم اليقين الاقتصادي يؤخر العالم في اتخاذ القرار ويزيد من المخاطر وإدارتها خصوصاً الأماكن التي يقبع فيها النفط والغاز وهي الأماكن التي تعاني الخوف والأزمات المتتالية.
والسؤال المهم الذي يطرح نفسه بقوة هل ظروف الصراع والحروب الجديدة ستجعل حالة التوازن العالمي تخرج عن الوضع المألوف والتوترات التجارية، فالمنطقة التي يحتدم فيها الصراع أمامها معضلة السياسة النقدية وسعر الفائدة، بالإضافة إلى ضربة الثقة للاقتصاد العالمي، خصوصاً سلاسل الإمداد والشحن العالمي وإذا كانت تصريحات مديرة صندوق النقد الدولي، أن الصراعات تمثل كارثة وتهدد بإضافة مزيد من القتامة على أفق الاقتصاد العالمي بالفعل وكيف سيتطور الموقف، وكيف سيؤثر على الأوضاع خاصة في أسواق الطاقة، وإذا كان الأمر سابقاً لأوانه؛ لكن جرس الإنذار يدق بالتوابع وأن غيمة الاقتصاد العالمي الحالية جعلت الوضع يبعد عن الإشراق.
لاشك أن الاقتصاد العالمي بالأصل يمر بصدمات عنيفة متتالية تجعل الاقتصاد أكثر ضعفاً من حيث النمو والتشظي واتساع الفجوات وأسعار الفائدة، ومن المتوقع أن تظل مرتفعة أطول من أجل كبح جماح التضخم، وهنا يدفع الأبرياء في العالم الثمن لأن أي تبعات للصراعات الجيوسياسية سيؤدي بشكل مباشر الي معضلة اقتصادية جديدة تؤثر علي النمو الاقتصادي العالمي.
كما أن التداعيات السلبية للصراعات الجيوسياسية يربك الاقتصاد العالمي خصوصاً المؤشرات الخاصة بالصناعات الدفاعية الأوربية وهبوط أسهم شركات الطيران في العالم وانخفاض أرباحها بنسبة 27 إلى 48 في المائة خصوصاً الطيران الأوروبي بسبب المخاوف وارتفاع تكاليف الوقود.
لقد جعلت الحروب سواء كبيرة أو صغيرة حجماً والكبيرة تأثيراً وصلابة في عزوف المستثمرين على مستوى العالم عن المخاطرة بأموالهم وسط الاشتباكات العسكرية فى المناطق المتوترة التي فاقمت من حالة الغموض السياسي في الشرق الأوسط.
ولقد ألقت الحروب الدائرة بظلالها القاتمة على أوضاع الاقتصاد العالمي المنهك والمهلك أصلاً الذى لايزال يحتاج إلى وقت للتعافى والتقاط الأنفاس، هذا هو الاقتصاد العالمي كله فى دوائر مغلقة.
ولقد أعلن صندوق النقد الدولي أن توقعاته لخفض النمو الاقتصادي العالمي في العام المقبل وصلت إلى 2.9 في المائة وبتراجع يبلغ 0.1 في المائة، فقد بدأت آثار الصراع والأنباء الاقتصادية المستجدة تحل على اقتصاد العالم، فهناك آثار فورية طالت قطاعات بعد اندلاع هذه الحروب الجديدة التي تصر فيها إسرائيل على سياسة الكراهية، ولقد رفض وتجنب بيار أوليفيه غوريتشا، كبير اقتصاديي صندوق النقد الدولي، الإجابة على سؤال بشأن تداعيات الحرب الجديدة على اقتصاد المنطقة والاقتصاد العالمي من خلال اجتماعات صندوق النقد الدولي، وقال إنه من المبكر جداً الحديث عن هذا الشيء، لأنه ليس لدينا أرقام بعد، وأدلى أيضاً مسؤول في البنك الدولي بتصريح مشابه ولقد رفضت المصارف والمؤسسات الدولية المالية العالمية التعليق حتى الآن حول تداعيات الصراع بالنسبة للقطاع المصرفي.
ووسط هذه الأجواء وتفاقم حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي وتصارع الأحداث الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط، وستظل أسعار النفط في اهتزاز وتذبذب مع استمرار الصراع في الشرق الأوسط مع شح المعروض، بالإضافة إلى اتجاه الأنظار إلى إيران ودورها فى سوق الطاقة، فالاقتصاد الأمريكي مثلا له مخاوفه عبر عنها جيروم باول، رئيس الفيدرالى الأمريكي، قال: «إن هناك ضبابية شديدة وإن صافى الاستثمارات المباشرة العالمية والأمريكية غير مطمئن وأن التضخم مازال يمسك فى ذيل العالم».
فالعالم أمام سيناريو غامض محفوف بالمخاطر والأساسيات فى السياسة النقدية تبنى على التطورات الاقتصادية والعالم يتطور فى الصراعات الجيوسياسية وتأثيرها وارتفاع الأسعار وأن العالم أمام سيناريو محفوف بالمخاطر، ومن هنا نقول إن نافذة الاقتصاد العالمى والأسواق المالية والتجارية للعالم أصبحت ضيقة جداً.

