مشهد يفتك بالأخضر واليابس فى أخطر مناطق العالم وأهمها حيوية، حيث تنهال فيه الصواريخ الباليستية، والقنابل العنقودية، لتتحول سماء منطقة الشرق الأوسط، إلى ضباب دموى من أثر دوى الصواريخ، بينما تترقب أسواق المال العالمية ما ستسفر عنه التوترات التى تحيط باحتمالية غلق مضيقى هرمز وباب المندب.
الغريب، هو صلابة الذهب، وتأرجح مزاجه، فهذه المرة يقف فى موقع غير مألوف، فهو دائم التقلب حسب الأمور السياسية، يقف أينما تتوقف الآليات العسكرية وإنهاء الحروب والتوترات السياسية، فكانت الأخيرة أداة كافية لدفع أسعار المعدن الأصفر النفيس نحو مستويات تاريخية.
ولكن فوجيء المراقبون مع بداية تداولات الأسبوع بانخفاض تدريجى فى أسعار الذهب، وسط حالة من الهدوء النسبى فى الأسواق العالمية والإقليمية، فبينما تتصاعد المواجهة الإسرائيلية – الإيرانية، ودخول الولايات المتحدة اللعبة، ويتجه العالم إلى مرحلة من الترقب الاقتصادي، يظهر الذهب وكأن الحرب لم تبدأ لديه بعد، رغم تسارع وتيرة القلق والخوف عما ستقدمه الأيام المقبلة لنا جاء ذلك مدفوعاً بزيادة الطلب على الدولار كملاذ آمن للمستثمرين.
بحسب تقرير صادر عن منصة «جولد بيليون» المتخصصة فى تحليلات سوق الذهب فإن الذهب يتعرض لضغوط بيعية نتيجة تحول المستثمرين نحو الدولار بعد التوترات الأخيرة تحسب لزيادة أسعار النفط ما قد يؤدى إلى موجة تضخمية فتبقى أسعار الفائدة مرتفعة وتضعف جاذبية الذهب، وتزامن الأداء الضعيف للذهب مع تحذيرات صدرت عن بنوك كبرى، كان أبرزها بنك «سيتى جروب»، الذى خفّض توقعاته المستقبلية للمعدن الأصفر، مشيرًا إلى إمكانية هبوطه إلى ما دون 3000 دولار للأوقية (الأونصة)، بحلول نهاية 2025 أو مطلع 2026، نتيجة تراجع الطلب الاستثمارى، وتحسن مؤشرات الاقتصاد العالمى. وفى خضم هذه التحولات، تتعدد القراءات بين مَن يرى فى الذهب ملاذا آمنا وفرصة شراء، ومَن يحذر من موجة تصحيح قد تمتد سنوات. أما فى السوق المحلى المصري، فالمشهد يحمل نكهة خاصة ترتبط بسعر صرف الجنيه، وتوجهات المستهلكين، فى ظل التذبذب العالمي.
سعيد إمبابي، المدير التنفيذى لمنصة «آى صاغة» لتداول وبيع الذهب عبر الإنترنت، علّق على تقرير بنك «سيتى جروب»، قائلًا: «إن ما جاء فيه يعد إشارة مهمة على تغير المزاج الاستثمارى العالمى تجاه الذهب»، مشددًا فى الوقت نفسه على ضرورة النظر إلى هذه التوقعات فى سياقها الكامل، بعيدًا عن التفسيرات الأحادية، فالذهب لا يتحرك فقط بتوقعات أسعار الفائدة أو معدلات ونسب النمو، بل يتأثر بتشابك معقد من العوامل الاقتصادية والجيوسياسية، بدءًا من الحروب والنزاعات، إلى تحركات البنوك المركزية، وحتى تغير موازين الثقة فى النظام المالى العالمى».
وأشار مدير منصة «آى صاغة» إلى أن «سيتى جروب» خفّض تقديراته للذهب على المدى القصير إلى 3,300 دولار خلال 3 أشهر، مع توقعات بهبوط تدريجى إلى حدود 2,800 دولار خلال 6 إلى 12 شهرًا، وقد يصل إلى 2,500 – 2,700 دولار فى النصف الثانى من 2026، وذلك وفقًا لسيناريو «القاعدة الأساسية» لديهم، فإن هذه النظرة تقوم على فرضية قد لا تتحقق، وهى استقرار الأوضاع الاقتصادية وعودة النمو العالمى بوتيرة قوية، فى حين أن الواقع لا يزال يعجّ بالمخاطر، ومنها استمرار التوترات الإقليمية، لا سيما بين إسرائيل وإيران، وكذلك الحرب الروسية - الأوكرانية، والطلب القياسى من البنوك المركزية، الذى اشترت أكثر من 1,037 طنًا من الذهب خلال 2023، وهو ثانى أعلى مستوى تاريخيًا بعد 2022.

وأضاف «إمبابي» أن مؤسسات مالية كبرى مثل «جولدمان ساكس» و«بنك أوف أمريكا» لا تزال تتبنى سيناريوهات أكثر تفاؤلًا، إذ تتوقع «جولدمان» وصول الذهب إلى 3,700 دولار بنهاية 2025، بل وحتى 4,000 دولار فى منتصف 2026، إذا ما استمرت التوترات أو تباطأت وتيرة التيسير النقدي، وشدد «إمبابى» على أن «سيتى جروب» نفسه لم يغلق الباب أمام الصعود، إذ أبقى احتمال ارتفاع الذهب فوق 3,500 دولار قائمًا بنسبة 20 فى المائة، إذا ما تفاقمت التوترات أو تغيرت السياسات النقدية بشكل مفاجئ.
وفى سياق حديثه عن العوامل المؤثرة على حركة المعدن الأصفر، أشار سعيد إمبابي، إلى أن أحد أبرز المحركات خلال المرحلة المقبلة سيكون اتجاه الفيدرالى الأمريكى لخفض أسعار الفائدة، وهو ما سيشكل دعمًا صريحًا لسوق الذهب، لأن خفض الفائدة على الدولار لا يعنى فقط ضعف العائد على أدوات الدين الأمريكية، بل يعنى مباشرة زيادة جاذبية الذهب، لأنه أصل لا يدرّ عائدًا، وبالتالى تصبح تكلفة الفرصة البديلة لحيازته أقل.
كما لفت سعيد إمبابى إلى عامل آخر بالغ الأهمية فى دعم أسعار الذهب، يتمثل فى اتجاه البنوك المركزية حول العالم للتحوط عبر زيادة احتياطياتها من الذهب، وهو ما أدى إلى تعزيز الطلب العالمى على المعدن النفيس، وفى ظل تزايد حالة عدم اليقين الاقتصادى والجيوسياسي، بدأت البنوك المركزية، خاصة فى الأسواق الناشئة، تتجه بقوة نحو الذهب باعتباره أصلًا آمنًا للتحوط وتنويع الاحتياطي، بعيدًا عن تقلبات الدولار أو اليورو.
واختتم حديثه، قائلا: «من وجهة نظرى، أى انخفاض فى أسعار الذهب سيكون تصحيحًا ومؤقتًا، ولن يغير من الاتجاه العام طويل الأجل، الذى لا يزال صاعدًا، خاصة مع عودة الذهب إلى الواجهة كأصل استراتيجى فى أوقات الأزمات» – على حد تعبيره.
بينما قال لطفى منيب، نائب رئيس شعبة الذهب والمجوهرات بالاتحاد العام للغرف التجارية: إن اندلاع الحرب بين إسرائيل وإيران أدى مباشرة إلى ارتفاع مؤشرات الذهب عالميًا، مدفوعًا بموجة شراء قوية من المستثمرين الأفراد والمؤسسات الباحثة عن الأمان، وكان التوقع السائد أن يستمر هذا الصعود مع عودة التداول، لكن المفاجأة كانت فى أن الأسعار انخفضت بشكل غير متوقع، وهو ما أربك حسابات كثير من المستثمرين.

وأوضح «منيب» أن هذا السلوك غير التقليدى يرجع إلى أن المشهد العالمى الآن ليس تقليديًا، بل «استثنائى بكل المقاييس»، وقال: رغم أن الحرب الإسرائيلية - الإيرانية خطيرة، بل وتشبه فى أبعادها بدايات حرب عالمية، فإن تراجع مواقف بعض الدول التى أبدت دعمًا، ثم انسحبت لاحقًا، أعطى انطباعًا بأن الحرب محسومة لصالح طرف معين، وبالتالى لم تعد تصنف فى أعين المستثمرين حربا عالمية شاملة تستدعى الهلع والاندفاع نحو الذهب، كما أعطى هذا الانطباع للمستثمرين هو عدم وجود رد فعل دولى قوى أو جماعي، وعدم حدوث خلل فى إمدادات الطاقة أو فى الممرات البحرية حتى الآن، وما نعيشه الآن هو مزيج غريب، حرب ساخنة، لكن رد فعل استثمارى بارد، وهذا ما أدى إلى تراجع الأسعار رغم أن الظروف النظرية توحى بالعكس.
وشدد على أن العلاقة بين الذهب والحرب ليست نظرية فقط، بل واقعية ومتكررة تاريخيًا، وأن كل تصعيد عسكرى أو أزمة كبيرة تدفع دائمًا نحو زيادة الطلب على الذهب، وهو ما نتوقع حدوثه خلال الأيام القادمة إذا صعدت إيران ردودها بقوة.