أصبحت الشبكات المعلوماتية والبنية التحتية الرقمية أهدافًا رئيسية، والحدود الجغرافية لم تعد عائقًا أمام القتال.. تكفى ضغطة زر لاختراق أنظمة دولة بأكملها
«الحرب الرقمية» أو «السيبرانية»، مصطلح بات عاديًا تداوله خلال السنوات القليلة الماضية، بعدما أصبحت هناك معارك تُدار من وراء الشاشات، وخطورتها لا تقل عن خطورة المعارك التقليدية، وإن كانت أسلحتها مختلفة كثيرًا، غير أن «الهزيمة والنصر» حاضران فى نهايتها. ومع تبادل الضربات بين إيران وإسرائيل، بدأ البعض يتحدث عن «الحرب الرقمية» والذكاء الاصطناعى.
المهندس عمرو صبحى، خبير أمن المعلومات والتحول الرقمى، قال: أصبحت الشبكات المعلوماتية والبنية التحتية الرقمية أهدافًا رئيسية، والحدود الجغرافية لم تعد عائقًا أمام القتال. تكفى ضغطة زر لاختراق أنظمة دولة بأكملها، وشلّ قطاعاتها الحيوية، وإحداث أضرار استراتيجية قد تفوق تلك التى تُحدثها الغارات الجوية التقليدية.
فـ«الحرب الرقمية» هى شكل من أشكال الصراع غير التقليدى، تعتمد على الهجمات الإلكترونية والاختراقات السيبرانية وشلّ البنية التحتية الرقمية والاتصالات، بهدف الإرباك، أو التجسس، أو التدمير عن بُعد. تشمل أدواتها: الفيروسات، برامج الفدية، الذكاء الاصطناعى، وهى الحروب السيبرانية المتقدمة التى سلاحها (جهاز كمبيوتر)، ليست القنابل والدبابات والسفن الحربية.
وتُدار الحرب الرقمية من خلال وحدات سيبرانية متخصصة ضمن الأجهزة الاستخباراتية والعسكرية. تُستهدف المنشآت الحيوية مثل محطات الكهرباء، أنظمة الطيران، الأنظمة المصرفية، وأجهزة الاستخبارات. وتتم العمليات بشكل متكامل يشمل مراحل جمع المعلومات، محاكاة الثغرات، الاختراق، وتدمير البنى الرقمية أو تعطيلها.
«صبحى» أضاف: توجد أمثلة حقيقية على ذلك، منها «Stuxnet» وهو فيروس أصاب منشآت نووية إيرانية، ويُعتقد أن الولايات المتحدة وإسرائيل وراءه، وSolarWinds Hack وهى عملية تجسس روسية حدثت فى 2020، عندما اخترقت روسيا عشرات الوكالات الأمريكية، كذلك هناك الهجمات على أوكرانيا، حيث تعرضت أوكرانيا لسلسلة من الهجمات شملت قطع الكهرباء وتعطيل أنظمة حكومية، ويُعتقد أن روسيا هى الفاعل لهذا الاختراق، وكذلك هناك هجمات على البنية التحتية الأمريكية مثل اختراق خط أنابيب Colonial Pipeline عام 2021.
وأوضح أن الذكاء الاصطناعى لم يعد عنصرًا مساعدًا فى الحروب، بل أصبح ركيزة أساسية يتمحور حولها التكتيك العسكرى والهجومى فى النزاعات الحديثة، خصوصًا فى الصراع الدائر بين إيران وإسرائيل.
فى الأسابيع الأخيرة، رُصدت هجمات بطائرات مسيّرة إسرائيلية استهدفت منشآت إيرانية يُعتقد أنها ذات طابع نووى أو استخباراتي. ما يميز هذه الهجمات أنها لم تكن عشوائية أو موجهة يدويًا فقط، بل كانت مزودة بأنظمة ذكاء اصطناعى قادرة على التحليق لمسافات طويلة، وتحديد الأهداف بدقة عالية بعد تحليل الصور والخرائط الحرارية والتضاريس فى الزمن الحقيقي. هذا النوع من الاستهداف الذكى يقلل من احتمالية فشل المهمة ويُضاعف التأثير، حيث إن هذه الطائرات تحوّل تكنولوجيا الذكاء الاصطناعى التى تعطيها كافة الحق فى اتخاذ القرار دون الرجوع إلى غرفة عمليات ودون تدخل أى عنصر بشرى، مما يقلل احتمالية الفشل بنسبة تتعدى 99 فى المائة.
وكشفت عدة تقارير عن محاولات اختراق لأنظمة التحكم الصناعية فى إيران –مثل تلك المستخدمة فى منشآت الطاقة والماء– باستخدام برمجيات هجومية مدعومة بالذكاء الاصطناعى. هذه البرمجيات لا تهاجم مباشرة، بل تقوم أولًا برصد سلوك النظام، وتحلل نمط الدفاعات، ثم تُولّد هجومًا متكيّفًا يلتف على جدران الحماية فى اللحظة الأنسب، مما يجعل كشفه أو صده فى غاية الصعوبة.
من الجهة المقابلة، تحاول إيران تطوير أنظمة تعتمد على الذكاء الاصطناعى لرصد وتتبع الطائرات المسيّرة الإسرائيلية، وتحليل البيانات الواردة من أجهزة الاستشعار عبر الحدود. وتُستخدم هذه الأنظمة فى توقع مسار الهجوم وتفعيل أنظمة التشويش أو الردع بشكل شبه آلى.
«صبحى» ذكر أن الذكاء الاصطناعى اليوم لم يعد مجرد أداة دعم لوجستى أو تحليل بيانات فى مراكز القيادة، بل أصبح الفاعل الرئيسى فى اتخاذ القرار العسكرى اللحظى. وأنظمة التعلم العميق تستطيع تمييز النمط الدفاعى وتختار أنسب توقيت للهجوم، بل وتُعدّل مسار العملية لحظة بلحظة دون تدخل بشرى.
حول أن طهران وتل أبيب هما أول تجربتين لهذا النوع من الحروب؟ أكد «صبحى» أن هذه ليست المرة الأولى، فقد شهدنا محاولات سابقة، أبرزها الهجوم الشهير بـ «Stuxnet» الذى استهدف المنشآت النووية الإيرانية عام 2010، ويُعتقد أن إسرائيل والولايات المتحدة كانتا خلفه. لكن هذه المرة، نرى تكاملًا وتزامنًا بين الهجمات السيبرانية والضربات العسكرية التقليدية.
وأشار خبير أمن المعلومات والتحول الرقمى إلى أن الحرب الحالية قد تكون من آخر الحروب الكلاسيكية بالمعنى التقليدى. فالتطور التكنولوجى الكبير، وظهور أسلحة هجينة تجمع بين الطائرات المسيّرة، والأنظمة الذاتية، والذكاء الاصطناعى، يعنى أن مسرح الحرب المستقبلى سيكون إلكترونيًا أكثر من كونه ميدانيًا.
وأوضح وفقًا للمعلومات المعلنة وتقارير أمنية دولية، استخدمت إسرائيل أدوات تجسّس متقدمة، بعضها قائم على الذكاء الاصطناعى، لاختراق شبكات الاتصالات وأنظمة إدارة البيانات داخل إيران. وتم زرع برمجيات مراقبة فى أجهزة محمولة للضباط والعلماء، مما سمح بجمع معلومات حيوية وتنفيذ هجمات دقيقة عن بُعد. وبينما تميل حرب أوكرانيا وروسيا إلى الحفاظ على الطابع الكلاسيكى من ناحية الحشود العسكرية والضربات الصاروخية، فإن الحرب بين طهران وتل أبيب تتخذ شكلًا أكثر تطورًا من حيث الطائرات المسيّرة، والاعتماد على الذكاء الاصطناعى، والضربات السيبرانية. ويمكن القول إن الأخيرة تقدم نموذجًا أكثر وضوحًا لمستقبل الحروب الهجينة. وهنا قال خبير أمن المعلومات والتحول الرقمى، إننا «أمام لحظة تحول تاريخى فى طبيعة الحروب، ولم يعد الأمن السيبرانى مجرد رفاهية، بل ضرورة سيادية».
الدكتورة إيمان على، مدرب الأمن السيبرانى والذكاء الاصطناعى، أكدت أن الأحداث الراهنة بين إسرائيل وإيران ليست مجرد عمليات عسكرية تقليدية، بل شهادة حيّة على طبيعة الحرب الجديدة. وإسرائيل لم تقصف فقط، بل سبقت قصفها باختراقات أمنية مكثفة، دفعت ببعض الطائرات المسيّرة إلى الإقلاع من داخل الأراضى الإيرانية نفسها، وهو ما يشير إلى أن الحرب لم تعد تُدار من تل أبيب فحسب، بل من داخل طهران، أو على الأقل من داخل أجهزتها المصابة بفعل التسلل المعلوماتى والتقنى. ولم يعد من الممكن الفصل بين الصاروخ الذى يسقط فوق منشأة، وبين البريد الإلكترونى الذى فُتح قبل ذلك بأسابيع، ليبدأ من خلاله تسريب البيانات وتحديد الإحداثيات والأماكن.

وأضافت «على» أن إيران، بدورها، تقاتل بأسلوب مشابه؛ لا تردّ فقط بصواريخ تقليدية، بل بحملات اختراق تشنّها وحدات متخصصة مثل الجيش الإلكترونى الإيرانى، مستهدفة الأمن السيبرانى الإسرائيلى الذى تديره وحدة مثل الوحدة 8200 الشهيرة.
وأوضحت «هنا تحديدًا، نرى كيف تحوّلت الحرب إلى معركة على الإدراك، وعلى ما يظنه الناس، وما يثقون به، وعلى الصورة الذهنية التى تُبنى فى لحظة، وتهدم واقعًا سياسيًا بأكمله. وقد رأينا أيضًا تعليقات مُرتادى وسائل التواصل الاجتماعى على نشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى، أفيخاى أدرعى مقطع فيديو يظهر يده المرتجفة خلال تصويره فيديو يشحذ فيه الروح المعنوية، ليخرج هو بفيديو جديد ردًّا على ما وصفه بـ«الذباب الإلكترونى الإيرانى»، وهنا تتجسّد الحرب الحديثة التى تستخدم التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعى إما للتراشق اللفظى، أو الأخبار الكاذبة، أو تثبيط الروح المعنوية أو العكس، أو حتى نشر الشائعات.
وأكّدت أن الذكاء الاصطناعى أصبح جزءًا لا يتجزّأ من الحروب الحديثة، وهو ما تؤكده، ليس كمساعد تقنى فقط، بل كمحرّك أساسى للحرب، وباتت الجيوش الحديثة تستخدمه لتحليل صور الأقمار الصناعية، وتحديد الأهداف، واقتراح مسارات الهجوم، بل إن أنظمة مثل «لافندر» (Lavender) التى استخدمها جيش الاحتلال، أظهرت قدرة الذكاء الاصطناعى على تحديد آلاف الأهداف المحتملة، مما يقلل من دور العنصر البشرى فى اتخاذ قرارات الاستهداف.
وأشارت مدربة الأمن السيبرانى إلى أنه لم يعد الإنسان هو المتحكّم الوحيد فى إطلاق النار، بل هناك منظومة كاملة تراقب وتقيّم وتختار، وهو ما تجسّد بوضوح فى حادثة اغتيال العالم النووى الإيرانى محسن فخرى زاده، الذى تمت تصفيته باستخدام رشاش آلى يتم التحكّم فيه عن بُعد، فى عملية تُعد نموذجًا صارخًا لهذه «النسخة المستقبلية من الاغتيال». فى هذا السياق، لا تبدو الحروب القادمة مجرد معركة بين طرفين، بل مواجهة بين وعى بشرى هشّ، وعقل آلى لا يعرف إلا الأوامر.
«المشهد الآن ينذر بشىء أكبر من مجرد صراع سياسى»، كما ترى خبيرة الذكاء الاصطناعى، ونحن أمام لحظة انتقال جذرية فى تاريخ الحروب، تُهدّد بإلغاء الحدود القديمة بين الدولة والمعلومة، بين الجغرافيا والسيادة، بين الإنسان والآلة. فى الماضى، كانت الدولة تُحكَم عبر السيطرة على الأرض، أما اليوم، فالدولة التى لا تُسيطر على شبكاتها، وعلى بياناتها، هى دولةٌ محتلة وإن بدت حرة.

