ذات يوم كنا نتوهم أننا أدركنا السبيل.. وما لبثنا أن أدركنا نهاية الطريق وقد قطعنا كل خطواته ضدنا!.. كل الانتصارات كانت هزائم لنا!.. دامت الرحلة واستمرت دون رغبة منا.. مبتدا دون منتهى.. تدفعنا الأيام على أمل انقضائها.. تهيئنا للنهاية ودفعنا حياتنا قربانا تحت أقدامها.. بطموح خطأ وتصويب صار مستحيلا.. ما كان شىء كفيل بنا.. كل ما مررنا به كان مجردا مما كنا نحلم به.. عملية تؤدى بنا إلى عملية لنفقد ذواتنا وكأننا كنا ننتقم من أنفسنا.. ورغم كل شىء لم نحصد شيئا!.. والغريب أن ما حصدناه كان وليد الصدفة أو على سبيل الهبة!.. كل شىء ذهب.. ملحمة انتهت باستشهاد بطلها على غير أرضه وفى غير معركة!.. هزم نفسه بنفسه!.. فلتكن اللعنة!.. حتى اللعنة لم يعد لها معنى!.. ربما لم يعد لها وجود!.
كل شىء غادرنا.. فارقنا الحلم وأتعبتنا اليقظة.. كم كنا نغالط أنفسنا ورفضنا الشفاء من المرض.. حروب وحروب لسنوات طويلة رغم أنها كانت من طرف واحد!.. انتهينا ولم تنتهِ الأشياء!.
رحلة لا تعرف الهدوء.. يهاجمك عدوك فى لحظات ارتداد تعصف بك.. رغم عصفها واختلال توازنك فى استقبالها إلا أنها قد تكون رسائل سلام بخليط من السذاجة والندالة تدفع للتوقف!.. للتأمل!.. للتفهم!.. تعجز عن الفهم فتلجأ للظن والفتور أو الحزن!.. لحظات صعبة من الحقيقة تحمل الكثير من الخوف.. فالمجهول مخيف حتى ولو كان الأسلم.. صدمات مصحوبة بدهشة غير مبررة لأوقات طويلة تصبح مصدرا للألم.. فرغم وضوح الدلائل والبراهين دائما داخلنا إنكار وحسرة!.. مجبرين على التغيير وهو الأصعب والأقسى.. ومع كل خطوة فى طريق فهم ذواتنا نفقد أشياء نحاول ترميمها بأخرى.. بغريب!.. تستمر فترات طويلة محاولة زرعه.. قد ترفض أجزاؤنا تقبله رغم أن به الحياة.. لكنها حياة بطعم جديد يحتاج لمثبطات مناعة وفقدان الإحساس للتثبت وتجرع المر.. دون الإفصاح عن آلامنا حتى لا تتفاقم.. قد نحتمل وقد ندفع للانهيار.. نبتر أجزاء تخلق فراغا.. نودعها وما زلنا نشعر بها بحرائق مشتعلة فى قلوب لم تعد موجودة!.. كل الأشياء تغتالنا رغم استسلامنا!..
كل يوم يقتل بداخلنا أشياء. حياة لا تريدها يُحكم عليك بالبقاء فيها.. غير مسموح لك بالمغادرة رغم ما حملته من محاولات فاشلة للتأقلم ومثلها للهروب من فوق أسوارها!.
هى حكايات لعموم البشر.. فلا تخجل أو تحاول المداراة.. فتلك الأرض امتلأت بأمثال من غدروا فى وضح النهار، وتركوا مشاعر فائضة دفعت للحديث والثرثرة.. ورغم وضوح الأفكار وامتلاك اليقين ما زلنا فى البحث عن ماهية الظلم!.. ننتظر أن تنتهى الحرب ولا تنتهى!.. الفراق ولا يحدث!.. السلام ولا يأتى!.. مجرد مشاعر مضطربة خلقت داخلنا الحكمة ودفعتنا للجنون!.. يعترينا الحزن ونحيا فى ظروف أكبر من طاقتنا.. عقوبة أبدية!.. كلٌّ قيد الإقامة الجبرية رغم انقضاء العقوبة!..
ومع كل صفعة تحاول النفس الفهم رغم أن الفهم صعب، لكنها محاولات بائسة للإقناع والتخطى.. تمنح نفوسنا الراحة والرضا.. ورغم ترديدنا عبارات الرضا لا أحد يرضى بشكل تام وإن حاول وأوشك على النجاح غيره يثنيه عن هذا الطريق!.
ومع محاولات التجاوز والتجاهل والتغافل يكتسب سلوكيات جديدة قد تدفعه للبقاء على عكس طبيعته.. قد يجد فى الدموع الراحة أو الصراخ أو محاولات تنظيم النفس!.. أو ربما يكف عن البكاء فما عاد يريحه!.. أو الصمت ملاذا!.. ملاذات وملاذات فى طرق شتى ومتاهات فى خضم اللاشىء!.. بربما وعسى أن يكون!.
ونتساءل لما كل هذا؟!.. لأن كل شىء يُسابقنا ويتآمر علينا حتى جراحنا لا تسمح لنا بفراغ من الألم!.. محاولا الصمود والوقوف حتى لا تميل.. وقد تتجه لذاتك محاولا المقاومة، لكن لا تملك الخلود إليها كثيرا، فعليك دائما تذكر أعدائك رغم أنهم السبب فيما أصابك!.. وقد يصبحون وقود مقاومتك فكل يراقب غيره وغيره يراقبه!.
هكذا كان وجودنا على الأرض!.. مجموعات متنافرة متناغمة!.. مقاومات ومقاومات.. كل يبحث عن سلاح المقاومة.. وأبله منْ يفقد سلاحه بمنحه لعدوه أو حتى يُسقطه من يده.. فلا حياة بدون سلاح.. كل يفرض العجز على غيره.. لا يدفع به للانشقاق عن الحياة بل يدفع به ليكون التابع وهو السيد!.. فلا سيد بدون تابع!.
هى الحكاية الأزلية منذ الإنسان الأول الذى كان عليه أن يقتل غريمه، ثم ما لبث أن أبقى عليه ليمارس عقد التسيد والزعامة.. مرغوب فى وجوده لكن بشروطه لإذلاله والتشفى فى آلامه طوال الوقت.. غير مسموح له بمغادرة ساحة المعركة.. سواء بتغفيله وسلب حريته.. أو بالقوة والتسلط.. وفى حالات أخرى تجد منْ يتفهم الفكرة ويقدم نفسه طواعية فى خدمة السيد تحت دعاوى الحب أو التضحية أو من أجل منافع؛ ليحظى بصك الطاعة من أجل الحياة كما فى حياة القطيع!.. وتتنوع متطلبات خدمة السيد ما بين مفتول العضلات لدواعى البلطجة أو للخدمة.. فالخلية تحتاج لكلا النوعين!.. وإن أردت أن تنسحب عليك الانسحاب من كل ملذات الحياة ولن تترك فراغا.. فالقطيع أعدادهم فى ازدياد وسمة البطالة الغالبة.. مع كلّ يبحث عن السعادة والراحة أو السلامة من كل شر!.. بطاقات تهدر وأيام هالكة وبلا وقت لفهم ميكانيكية الحياة.. ومن يفهم يعجز ويصاب بالخرس أو ينسحب ويلقى حتفه غير مأسوف عليه.
نتبدل ونتبدل فى لحظات وحالات من الاعتداء علينا مجبرين أو مختارين.. لا يهم فكل مصاب بلحظات الارتداد سواء قاوم الكسر أم لا.. فعقله يرفض التصديق دائما!.
محاولين العيش بمسميات تحفظ ماء وجهنا.. مطالبين بكثير من اللامبالاة فى مواجهة هموم تراكمت ويأس وضيق قد نحظى بها أو لا نحظى.
ويستمر تعذيبنا؟!.. وتتساءل أين السبيل؟!. الغريب أن الكل لا يجد مكانا يذهب إليه.. الأماكن شاغرة ومحدودة بل نادرة.. وكأن أماكننا أطبقت علينا كالسجون المحكمة!.. رغم أننا قد نكون منْ صنعناها بحسن النية!.. فصارت الفرض الذى يكفر ذنوبنا.. لا مفر؟!.. فلنجأ لحياة القنفد داخلها بأشواك وعزلة تحمينا؟!.. لكن إلى متى علينا القبوع والمكوث؟!.. فالمدة بخسارة الوقت وتكبد الثمن الباهظ!.. لا حرية فى المكوث أو الانسحاب أو التنقل!.
مجبر على التعاطى مع أناس مهما تغافلت وأغمضت عينيك عن وجودهم يهاجمونك كالكابوس!.. ناهيك عن يقظتك التى يخترقونها بضجيجهم الصارخ.. مناوشين أو محاربين لهدر طاقتك وطرحك أرضا طوال الوقت!.. وتتساءل لماذا لا يرحلون بما سلبوا وغنموا؟!.. سؤال ساذج؟!.. هى سعادة الجلاد مع الضحية.. عقدة التفوق رغم زيف التفوق!.. فيخلق الإجبار رغبات فى الكره أو الموت دون قرار القتل الذى تحكمه القوانين.. فيكفى التعذيب لإشباع الرغبات المشوهة ولا يكفى الصبر لحين تغير الأوضاع!.
متأرجحين بين التسامح فى بدايات أعمارنا لضعف استيعابنا وتكذيبنا لكل صفعات الارتداد.. ومع تراكم الخبرات وتوالى الانتهاكات وتقدم أعمارنا، ما نلبث أن نكفر بكل تسامح ونتحول لانتقامات يتحكم النضج والجانب الأخلاقى فى جنوحها.. لكنها موجودة ربما لو استمر الحال لصارت واقعا حسب الضياع النفسى الحادث.
رغم التكرار والتوالى لكن لا أحد يعتاد!.. وكأن كل مرة هى الفريدة من نوعها!.. بشعور مختلف!.. بمعانٍ جديدة، بملاحظة لعنونة عامة من الخذلان!.. وبمرور الزمن تسأم التفاصيل.. تبحث عن الإيجاز والتدبر للخروج من قيد الخبيث الذى أحال حياتك لقفص حديدى.. ورغم دافعية الفهم للتحرر، لكن الطوق الحديدى والأصفاد والأغلال التى تحيط بك من رأسك لأخمص قدميك تحول بينك وبين الحرية.. وتردد ما فائدة لحظة الارتداد إذن؟!.. أما كانت غير يقظة بعد غفلة وبعدها تنتفض الفريسة فى وجه ذلك القاتل؟!.. لكنها مجرد عبارات ومحاولات داخل النفس لم تخرج بعد.. لا تملك مقومات الخروج حتى بعد رحيل قاتلها!.. فلا تزال المقيد الضعيف.. تركك لا أنت ميت ولا حى!.. صار كل شىء مستعصيا.. طرف لا يريد أن يرحل وآخر لا يملك حريته.. إلى أين وصلنا.. نحو الهاوية المجمدة!.. رغم نجاح محاولات القتل!.. ربما لأن الموت كان ببطء فكان الرحيل على شاكلته!.. ربما كان طول البقاء سببا فى العجز عن الإزاحة فصار أمرا اعتياديا!.. استمرار لاكتمال النقص.. عجز فى الهجر والبقاء.
فى تيه نتساءل أكانت صدمات الارتداد للاختباء أم الهروب؟!.. أم لعودة الحال لما هو عليه؟!. بكثير من الألم.. بمزيد من السقوط نحو أرض صلدة، ولا يعنى الاصطدام سوى مزيد من الإصابة.. يقولون إن تكرار السقوط يولد الصلابة.. وأقول إن كثرته تصيبنا بالوهن والعجز وتجعل داخلنا خوفا دائما من غامض وسقوط إلى قاع لا يأتى!.. للخطوة الأخيرة متأهبين.. رغم الألم حالمين.. على حافة الاحتضار بهيئة غضب انتظار يطول!.. ننادى ألا من هجر فيزول الأثر بشفاء من علل لمرفأ سكون!.. خيبة لحظة!.. نصرة لحظة أيما تكون!