تريثت هنيهة حتى تضع قضية طيب الذكر «أحمد فؤاد نجم» التى رفعتها كريمته «نوارة» ، ضد الصديق الدكتور « محمد الباز» أوزارها ، وتنتهى على خير ، ويقينى لو كان أبو النجوم بيننا لما سمح برفع القضية ، و لتكفل بالرد على ما أصابه من قلم الباز شفاهة أو فى مقال، و لاحتضنه فى محفل عام، معاتبا ، وكفى الطيبين شر الخصام.
مثل نجم من جرب عذابات السجون، ماكان يرتضيها لأحد، ولانه مولود فى البراح، و كتب ماشاء وشاء له الهوى، ماكان يضيق على كاتب ولو انجرف ناقدا لنجم، هكذا كان يرد الصاع صاعين بلا بلاغات ومحاكمات ولا مزايدات .. هكذا عرفناه طائراً طليقاً لا تحد من حريته قضبان.
فرصة وسنحت لمراجعة كتاب حياة نجم، وما تيسر من سيرته، كتابه بيمينه كما يقولون، أتذكر أمس القريب وقد فجعنا فى رحيله، أكاد أسمع خبر وفاته والدموع فى عيني، هكذا أعلنوا الخبر على الشاشات، «الفاجومى مات، أخر خبر فى الراديوهات، وفى الكنايس، والجوامع، وفى الحواري، والشوارع، وع القهاوى وع البارات، الفاجومى مات، واتمد حبل الدردشة، والتعليقات، مات المناضل المثال، يا ميت خسارة على الرجال»..
«يا خسارة.. يا خسارة» ظل الرجل الثمانينى يردد كلماته باكيا، وهو يسير فى الجنازة التى شيعها عموم المصريين، يغالب دموعه ويجرى ناحية النعش يلمسه ويضعه فوق إحدى كتفيه، دون أن يكف عن ترديد الكلمة الوحيدة التى عبر بها عن رحيل الشاعر أحمد فؤاد نجم، «يا خسارة»، كل يوم تودعى حد من عيالك المخلصين يا مصر.
حزن ذلك المصرى المفجوع برحيل الفاجومى لا يقل عن حزن باقى المصريين الذين حولوا مواقع التواصل الاجتماعى وقتئذ ( 3 ديسمبر 2013 ) إلى سرادق عزاء فى وداع «نجم».
***
يعرف الفاجومى نفسه، «أنا فلاح مصرى، ومواطن عربى منتهك الأرض والعرض مكبل ومطارد.. أنا حفيد الفلاح الفصيح.. فلاح مصرى فاهم كل حاجة ولا أستطيع أن أبلع لسانى»..
إنه «آخر الصعاليك المحترمين»، «شاعر تكدير الأمن العام» أحمد فؤاد نجم، أحد أبرز شعراء العامية على الإطلاق فى النصف الثانى من القرن العشرين، الذى مثل أحد أهم الظواهر الشعرية السياسية المصرية، وأحد أبرز اليساريين المناضلين الذين دفعوا أثمانًا من أعمارهم خلف القضبان من أجل التعبير عن الروح النضالية لهذا البلد، مازجًا هموم الطبقة العاملة بالسخرية والحقيقة المرة للقهر.
لم ينفصل نجم يوما، الذى عرف بلقب «الفاجومي»، كلمة عامية مصرية تصف الشخص الذى يعتمد النقد اللاذع وسيلة للتعبير عن هموم الشعب المصري، وهو ما جعله يقضى حوالى 18 سنة من عمره بالسجون على فترات ما جلب له شهرة واسعة أيضًا.
و«تقديراً لمساهماته وأشعاره باللهجة العامية المصرية التى ألهمت ثلاثة أجيال من المصريين والعرب، فقد تميزت قصائده بحس نقدى ساخر وبتأكيدها على الحرية والعدالة الاجتماعية»، فقد نال جائزة الأمير كلاوس الهولندية قبل شهرين من رحيله الحزين، لكن القدر لم يمهله حتى يتسلم الجائزة التى كان مقررا لها العاشر من ديسمبر 2013 .
أتذكر جيدا، كانت آخر كلمات نجم التى ألقاها عقب إحياء أمسية شعرية بالعاصمة الأردنية عمان، إنه يرى ما حدث فى 30 يونيو موجة ثالثة للثورة، وأن مصر «مامتتش» ...!
***
«زى النهاردة من كام سنه مفيش لزوم للعـد والحسبنة/ اصل الحكايه عد عمرك يا جحا/ قال يوم مفلس وخمسه سته عكننه/ فلس ... فلس ... فلس يحيا الفلس والجدعنة».
كان اليوم 22 مايو من عام 1929، وكانت قرية «نجم» بمحافظة الشرقية على موعد مع ذلك الطفل «المعجون بماء عفاريت» ليس لشقاوته فقط، بل لأن مجيئه إلى الحياة شهد أيضاً عدداً كبيراً من الكوارث العائلية، تعددها له أمه كلما ضاقت بشيطنته، فتلعن «اليوم الأسود» الذى ولد فيه، ففى الصباح جاءها الخبر بأن أباه يريد أن يتزوج عليها وفى الظهر مات زوج أختها العروس الشابة، وفى الأصيل انفجر موقد الجاز فى وجه جارتها الحسناء الشابة ولقيت مصرعها فى لحظات يا كبدى..!
فى المساء كانت آلام الوضع الرهيبة فوق كل احتمال، لأن المولود الشقى أبى أن يخرج إلى الحياة برأسه وأصر على النزول بقدميه وعجزت الداية عن سحبه فنقلوا الأم إلى المستشفى وهى بين الحياة والموت وهناك تبين أنها حامل فى توأم. أخرجوا الولد الشقى، ثم أخرجوا بعده توأمه، وكانت طفلة غاية فى الجمال، لكنها خرجت إلى الحياة ميتة، يقول ساخرا من نفسه «وتلاقيك إنت اللى قتلتها جوه يا مجرم يابن المجرم»..!
بهذا الاتهام تختم الأم فى كل مرة سردها لأحداث «اليوم الأسود» الذى شهد خروج هذا الطفل المشاغب إلى الحياة. ومثلما رفض الشقى النزول الى الحياة بطريقة طبيعية وفضل أن ينزل إليها ماشياً فقد عاش عمره كله ماشيا فى بلاد الله خلق الله يلاطم الحياة وتلاطمه ويأبى أن يلتزم بقوانينها يفعل مايحلو له حين يحلو له مهما كانت العواقب.
كانت الأم فلاحة مصرية جميلة، أمية لاتقرأ ولا تكتب لكنها موهوبة بالفطرة، تجيد الكلام ورواية الأحاديث والنوادر والأمثال، وتصوير الشخصيات تصويراً لاذعاً وصادقاً يبعث الضحكة من الأعماق وحين يغلبها الشجن تغنى بصوت جميل مواويل حزينة.
تزوجت ابن عمها ضابط الشرطة الوسيم المعجباني، فعايشت الخوف من أن يتهدم عشها فوضعت «13 بطنا، منها 4 مِجوز» –توأم- وكان شاعرنا عضواً فى «المجوز الرابع والأخير» نزل إلى الدنيا متهماً بارتكاب جريمة قتل توأمه داخل رحم أمه!
رحل والده وهو فى السادسة من عمره، فانتقل للعيش ببيت خاله بالزقازيق وتلقى تعليمه فى الكتّاب مثل عامة المصريين، ثم وضع فى ملجأ أيتام، وهناك كان أول لقاء له مع العندليب «عبد الحليم حافظ» ثم ترك الملجأ فى سن السابعة عشرة وعاد إلى قريته قبل أن ينتقل للقاهرة للعيش مع شقيقه قبل أن يرسله للقرية مرة أخرى.