المفاجأة أنه فعل ذلك بتكليف من جمعية إنجليزية تعمل فى المجال الاجتماعى، ذكر السفير لقاءاته بالجولانى وما دار فيها، ولما عقب المسئولون السوريون لم يكذّبوا السفير السابق، بل أكدوا أنه التقى الجولانى فعلًا فى إدلب، ضمن زيارات وفود أجنبية كانت تتم لدراسة تجربة الحكم فى إدلب.
المفاجأة للكثيرين فيما ذكر «فورد» أنه هو شخصيًا وكان سفيرًا فى دمشق سنة 2013 عمِل على أن تُصنف «جبهة النصرة» باعتبارها منظمة إرهابية، وقد أخذت الخارجية الأمريكية برأيه. ومضت السنوات وتم تعديل اسم الجبهة فيما بعد لتصبح «هيئة تحرير الشام»، وكان محمد الجولانى ابن «تنظيم القاعدة» ثم «داعش» العراق على رأسها، ولما يئس الغرب سنة 2023 من إمكانية إبعاد بشار الأسد عن إيران تقرر استبداله بـ«هيئة تحرير الشام».
كان السفير السابق يلقى محاضرته فى معرض حديث الذكريات، ومن ثم ليس هناك ما يبرر اتهامه بالكذب ولا المبالغة، خاصة أن المصادر الرسمية السورية أكدت حكايته، وإن اختلفت التفاصيل.
السؤال المقلق فى المنطقة العربية هو مدى تدخل الغرب، عبر أجهزته فى إزاحة رئيس والدفع بآخر، وإمكانية تجهيز إرهابى فى شكل جديد ليصير مسئولًا رفيعًا.
المتابع لما جرى فى سوريا الشقيقة منذ يوم 27 نوفمبر العام الماضى، وحتى يوم 8 ديسمبر 2024، يعرف جيدًا أن الأمور لم تكن كما يُقال إنها ثورة انتصرت أو عملية تحرير سوريا. لكننا كنا بإزاء عملية تسليم وتسلم، تمت بطريقة ناعمة تمامًا، وليس صحيحًا ما تم تسويقه سياسيًا وإعلاميًا عن مقاومة تمت فى ريف إدلب وطرطوس وغيرهما. هناك مسئول روسى رفيع أعلن يوم 9 ديسمبر أن روسيا سحبت بشار الأسد فى التوقيت المناسب، وجنبت وحمت دمشق من حرب أهلية.
الواضح أن ما جرى كانت نتيجة توافق أمريكى- روسى- تركى- إسرائيلى، وكذلك سورى، هل كان قيام الرئيس بشار بتحويل أمواله إلى موسكو منذ بداية سنة 2024 مصادفة؟ ما ورد على لسان السفير الأمريكى السابق، قدم جديدًا فى بعض التفاصيل، لكن الجوهر معروف وبالمناسبة، حدث عدة مرات قبل ذلك منذ سنة 1953 حين لعبت المخابرات الأمريكية دورًا رئيسيًا فى الإطاحة بالزعيم الإيرانى محمد مصدق رئيس الوزراء، لأنه قام بتأميم حقول البترول، وقاموا بإعادة الشاه محمد رضا بهلوى مرة ثانية، المصادر الأمريكية نفسها تذكر كل شيء بالتفصيل، ليس مع «مصدق» فقط، هم مَن صنعوا نورييجا فى نيكاراجوا أمريكا اللاتينية، ثم الإطاحة به واعتقاله داخل الولايات المتحدة نفسها، والحكم عليه بالسجن هناك.
وليس بعيدًا عن الذاكرة الدور الذى لعبته إدارة الرئيس أوباما وكذا وزيرته هيلارى كلينتون، ومن قبلها إدارة بوش الابن والسيدة كونداليزا رايس من تخليق وصناعة أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربى»، التفاصيل والوقائع معروفة لمعظمنا، وقتها تم تخليق وصناعة أسماء تصدرت المشهد.. وكالعادة كشفت الأوراق حين اعترف الراحل د. سعد الدين إبراهيم –كان يحمل الجنسية الأمريكية وكان عضوًا فى الحزب الديمقراطى- بالدور الذى لعبه فى تمهيد العلاقة بين الإدارة الأمريكية منذ نهاية التسعينيات وجماعة حسن البنا بناءً على طلب الجماعة، حيث جرت لقاءات هنا فى السفارة الأمريكية ثم لقاءات هناك وأخرى فى إسطنبول، ببساطة ليس لنا أن نُفاجأ كثيرًا بما ذكره السفير السابق روبرت فورد.
فى السياسة ومع القوة العظمى –الولايات المتحدة تحديدًا– لا يجب أن نتوقف عند ظاهر الأمور، وليست هناك صداقة ولا عداء بالمعنى الأخلاقى والإنسانى الصادق والعميق، بل مصالح تتحقق حتى لو كانت مع الشيطان نفسه.
الولايات المتحدة شنت بعد 11 سبتمبر حربًا ضارية على حركة طالبان فى أفغانستان، وجاءت بنظام بديل، ولما فشل البديل تفاوضت فى العاصمة القطرية الدوحة مع «طالبان»، وسلمت لهم مرة ثانية أفغانستان فى بداية حكم الرئيس جو بايدن، وساعدت الرئيس الذى كان قائمًا وقتها فى الخروج الآمن من البلاد، بينما تركت عملاءها تفترسهم «طالبان».
لكن حديث السفير السابق فى مركز بالتيمور من تجربته فى تجهيز الجولانى، يجب أن يلفت انتباهنا مجددًا إلى عدة أمور أبرزها أن الجمعيات «الخيرية والإنسانية» فى بلاد الغرب، والتى تقدم بعض المساندة والدعم هنا فى مواجهة بعض الأزمات الإنسانية، ليست خيرية ولا إنسانية على طول الخط، بل تقوم بدور سياسى ومخابراتى أيضًا، حين يطلب منها ذلك لمساندة الدول والحكومات التى انطلقت منها، جمعية خيرية بريطانية، تطلب من سفير أمريكى سابق فى سوريا أن يسافر ضمن وفد لها إلى إدلب وعليه أن يدرس إمكانية الاعتماد على هيئة تحرير الشام فى أن تحكم سوريا بدلًا عن نظام البعث، وأن يكون الجولانى بديلًا عن بشار.. إعادة صناعة أو تدوير اسم وتاريخ بعينه.
من هنا يمكن أن ندرك إصرار الغرب على دعم ومساندة، أحيانًا تأسيس منظمات وهيئات «المجتمع المدنى» حول العالم، يقاتلون من أجلها ويمارسون الضغوط على الحكومات دفاعًا عنها، مثل هذه الجمعيات عند اللزوم تقوم بأدوار أخرى، من جمع وتوفير معلومات، فضلًا عن تقديم غطاء مدنى وأهلى، لبعض العناصر والعمليات المخابراتية والسياسية، التى يصعب القيام بها مباشرة.
لا يعنى ذلك التشكيك المطلق فى كل الجهود الأهلية أو المنظمات الخيرية، لكن أيضًا لدى هؤلاء جميعًا حسابات وربما أهداف وأدوار أخرى.
للتذكرة فقط، مشروع تأسيس وإقامة إسرائيل على أراضى فلسطين التاريخية، بدأ قبلها بأكثر من سبعين عامًا، عبر عدد من الجمعيات؛ أهلية، خيرية وإنسانية روسية وإنجليزية وألمانية وأمريكية وو..
بالنسبة لنا نحن فى مصر، فقد رأينا الأدوار التى لعبتها بعض الجمعيات فى سنوات الفوضى من نهاية سنة 2010 وحتى 2013 من دعم الفوضى والخراب والهدم.
جمعيات ومؤسسات ظلت تجمع تبرعات لسنوات بمئات الملايين من الجنيهات، حتى تراكمت الثروات والمنشآت، وفى لحظة الفوضى تبين أن عددًا غير قليل منها ساهم فى دعم الإرهاب والإرهابيين، بؤرة رابعة الإرهابية كانت تمول من بعض هذه الجمعيات، وهكذا ذهبت أموال المواطنين التى دُفعت بقصد الخير ونيْل الثواب إلى أيدى قتلة ولهدف القتل والتدمير.
بعيدًا عن الجمعية الإنجليزية، التى وجهت نشاطها من لندن نحو مدينة إدلب فى سوريا، إدلب تحديدًا، حيث هيئة تحرير الشام، فإن السفير روبرت فورد، يستحق التوقف أمامه، ليس هو شخصيًا، لكن الحالة التى يمثلها. هذا الرجل غادر موقعه فى دمشق وعاد إلى بلده، لكنه لم يخرج من المجال العام، الخروج للمعاش لا يعنى الموت، بل الاستفادة من خبراته وتجاربه، ومنه شخصيًا، لصالح ما تراه دولته وأمنها القومى.
المؤكد أن سفره إلى إدلب سنة 2023، كان قراره الشخصى، لكن هناك جهات ومؤسسات فى الدولة لا بد أنه تم التنسيق معها، على الأقل لتأمينه، وربما قام بمهمته مكلفًا، وما تلك الجمعية سوى غطاء «مدنى وإنسانى» ليقوم بتلك المهمة.
الدبلوماسى ورجل الدولة لا يُحال إلى المعاش، قد يحدث ذلك بالنسبة للوظيفة وللمنصب، لكن لا إحالة إلى المعاش فى خدمة المجتمع والدولة والدفاع عن مصالحها العُليا.
بالتأكيد بعض المهام تكون سرية ولا يعرف عنها الكثيرون شيئًا، لكن فى وقت معين، يعلن ذلك للرأى العام، بلا غضاضة وبلا حرج، حتى يعرف الجميع ما حدث، وما يقوم به ربما فى الدولة ومؤسساتها.
وإذا كان ذلك يحدث فى الدولة العظمى وعلى مستوى الدول الكبرى، فإن الدول الأخرى بحاجة إلى مثل هذه الأدوار من رجالاتها، طوال الوقت، بغض النظر عن الموقع الرسمى أو المسمى الوظيفى.
بعيدًا عن هذا الجانب فإن التجارب حول العالم كله، تقول إن النظام الدولى يمكن أن يؤثر على بعض الدول فى اختيار شخص ما والإطاحة بآخر، لكن القوى الكبرى، مهما تعاظم نفوذها، لا يمكنها أن تقيم نظامًا فى بلد ما، ولا أن تضمن استمراره أو بقاء القائمين عليه.
إقامة نظام سياسى ناجح وقوى يقتضى وجود مؤسسات راسخة وعتيقة فى المجتمع والدول، ويتطلب كذلك حدا معينا من التوافق الوطنى والرضا الاجتماعى، وهذا لا يمكن أن يحدث بتدخل دولى ولا بقوة أو دولة عظمى.. وهنا المعضلة، لذا فإن ما يأتى به الظرف الدولى والأجنبى، يمكن أن يكون مؤقتًا وعابرًا.
حدث أن دفعت الظروف الدولية أسماء بعينها وأطاحت بأسماء أخرى جرى ذلك فى إفريقيا وآسيا وحتى أوروبا، فضلًا عن أمريكا اللاتينية، لكنهم لم يقيموا نظامًا دائمًا أو ناجحًا.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتى سنة 1990 أتاح الضغط الدولى صعود الرئيس الروسى «بوريس يلتسين»، رغم كل مآخذ الروس عليه، لكن يلتسين لم ينجح فى بناء نظام أو دولة قوية، حدث النهب الاقتصادى لروسيا وجرى تعمد إضعافها فى المحافل الدولية، لكن النظام القوى ولد مع الرئيس «فلاديمير بوتين» وعادت روسيا لتلعب دورًا عالميًا، صحيح ليس كما كان زمن الاتحاد السوفيتى، لكنها قوة مؤثرة ورغم الضغوط الشديدة عليها وتعرضها للحصار منذ بداية حرب أوكرانيا لكنها ما تزال متماسكة وقوية.
وهكذا فإن معظم الأسماء فى مختلف البلدان التى تم فرضها باصطناع ظروف تدفع إلى الموقع الرفيع، لم يتمكنوا من الاستمرار والنجاح، لأن بناء الدول يحتاج إلى جهد آخر ورجال آخرين.
ليس المهم الصعود إلى السلطة، ولكن المهم بناء نظام قوى يلبى احتياجات المواطنين ويضمن سيادة وقوة الدولة، صيانة حدودها وأراضيها، حماية تلك الحدود بأيدى أبنائها وليس بقواعد أجنبية، تنازلات هنا وتفريط هناك.. ذلك هو التحدى الحقيقى ومعيار النجاح.