يًعد ملف توريد القمح، من القضايا الاقتصادية الحيوية التى تتداخل مع أمن مصر الغذائى، خاصةً أنه يمثل أحد المحاصيل الاستراتيجية فى حياة المواطن المصرى، نظرًا لكونه المصدر الرئيسى للخبز، الذى يشكل الوجبة الأساسية فى الغذاء اليومي، ومن خلال هذه النقطة، تبرز أهمية زيادة الإنتاج المحلى من القمح وتقليل الاعتماد على الاستيراد من الخارج، وخاصة أن مصر من أكبر الدول المستوردة للقمح على مستوى العالم، وهو ما يتطلب اهتمامًا كبيرًا بزيادة القدرة المحلية على إنتاج هذا المحصول المهم.
نقيب الفلاحين حسين أبوصدام يرى أن الحكومة وضعت خطة مدروسة لموسم توريد القمح الحالى، تشمل حوافز مالية للمزارعين من خلال زيادة سعر التوريد للأردب إلى 2200 جنيه، وهى خطوة وصفها بالإيجابية، مشيرًا إلى أن زيادة الأسعار من شأنها أن تساهم فى زيادة المعروض من القمح المحلى، وتُعزز التوريد إلى الصوامع الحكومية، مؤكدًا أن هذه الزيادة هى نتيجة لتوجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسى بتوفير الدعم اللازم للفلاحين، وهو ما يُعد خطوةً مهمةً للحفاظ على الأمن الغذائي، خصوصًا فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التى تمر بها البلاد.
وتُعد هذه الزيادة فى سعر التوريد بمثابة خطوة عملية للحد من تأثير التضخم وارتفاع أسعار مستلزمات الإنتاج، مثل الأسمدة والوقود، وهى من أبرز التحديات التى تواجه الفلاحين، وفى هذا الإطار، قال «أبوصدام»: «المزارعون يعانون من ارتفاع تكاليف الزراعة بشكل عام، خاصةً فى ظل زيادة أسعار الأسمدة الكيماوية التى تمثل أحد العناصر الأساسية فى الإنتاج الزراعى، إضافةً إلى ارتفاع تكاليف العمالة والنقل، وبذلك فإن الزيادة فى سعر التوريد، تُسهم فى رفع قدرة الفلاحين على الاستمرار إنتاجيًا وتحقيق هامش ربح مناسب يعوض لهم تلك التكاليف.
وأشار نقيب الفلاحين إلى أن موسم التوريد، يُعتبر فرصة اقتصادية مهمة للمزارعين فى مختلف أنحاء الجمهورية، حيث يحصل الفلاحون على دخل إضافى من خلال توريد محاصيلهم إلى الصوامع الحكومية، مشيرًا إلى أن الحكومة نجحت هذا الموسم فى التغلب على أغلب العقبات التى كانت تواجه المزارع فى توريد القمح، من خلال توفير نقاط تجميع قريبة من الأراضى الزراعية، مما خفف عنهم أعباء النقل والتكاليف، موضحًا أن المناخ المعتدل خلال موسم الزراعة ساعد على إنتاج محصول عالى الجودة، ومع إعلان الحكومة عن سعر توريد مجزٍ، بات هذا العام من أفضل المواسم التى مرت على الفلاحين فى السنوات الأخيرة، مواصلًا حديثه أن الفلاح لا يستفيد فقط من بيع القمح، بل أيضًا من مخلفاته، وعلى رأسها التبن، الذى شهد ارتفاعًا كبيرًا فى سعره هذا العام، ما وفر للفلاح دخلاً آخر يُعزز من القيمة المضافة وجدوى زراعة القمح ويحفزه على زيادة الإنتاج مستقبلًا.

على صعيد متصل، توجه الدولة نحو تعزيز منظومة الأمن الغذائى، حيث جاءت استعدادات موسم توريد القمح المحلى لهذا العام 2025 لتكشف عن حجم الجهد المبذول فى تطوير البنية التحتية للصوامع، والاعتماد على تقنيات متقدمة تُسهم فى تحقيق أقصى استفادة ممكنة من المحصول الاستراتيجى الأول فى مصر، وهو ما أوضحه الدكتور أشرف صادق، رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصوامع والتخزين، مؤكدًا أن الشركة بدأت التحضير لهذا الموسم مبكرًا، عبر خطة تنفيذية شاملة تضمنت تحديث منظومة الصوامع ورفع كفاءتها وتوفير البيئة المناسبة لاستقبال القمح المحلى من مختلف المحافظات.
وأوضح د. صادق أن الشركة القابضة للصوامع – وهى الكيان المسئول عن إدارة وتطوير الصوامع الحديثة فى مصر – رفعت من طاقتها الاستيعابية الإجمالية إلى ما يتجاوز 4.2 مليون طن من القمح، موزعة على 75 صومعة وهنجرًا ونقطة تجميع على مستوى الجمهورية، وتم إعداد هذه المنشآت لتكون على أعلى مستوى من الجاهزية الفنية والبيئية، باستخدام نظم تحكم إلكترونية متقدمة، تشمل وحدات تبريد وتهوية وأنظمة مراقبة بالكاميرات وأجهزة قياس رقمية للوزن والرطوبة، بما يضمن الحفاظ على جودة القمح وعدم تعرضه لأى فاقد أو تلف.
وأشار أشرف صادق إلى أن الشركة تعمل فى تناغم تام مع وزارتى التموين والزراعة، من خلال غرفة عمليات مركزية تم تشكيلها مع انطلاق موسم التوريد، إضافة إلى غرف فرعية على مستوى المحافظات، لتلقى البلاغات الفورية والتعامل مع أى طارئ قد يطرأ على خطوط التوريد أو الاستلام، لافتًا إلى أن هذه المنظومة تسمح بمتابعة دقيقة لحركة الأقماح داخل الصوامع، وسرعة التدخل فى حال حدوث أية أعطال أو تكدسات.
وأكد د. أشرف، أن المستهدف الرسمى هذا العام هو استلام أربعة ملايين طن من القمح المحلى، مقارنة بنحو 3.7 مليون طن تم استلامها العام الماضى، وهى أرقام تعكس الثقة المتزايدة من الدولة فى قدرة الصوامع المصرية على تخزين كميات أكبر من المحصول، مضيفًا أن الطاقة الاستيعابية لصوامع الدولة تصل إلى 3.5 مليون طن، بالإضافة إلى 530 ألف طن صوامع الموانئ، فضلًا عن صوامع جهاز مستقبل مصر، التى بدورها توفر مرونة كبيرة للتعامل مع أى زيادات محتملة فى كميات التوريد، خصوصًا فى ظل المؤشرات المبكرة التى تبشر بموسم استثنائي.

وأضاف رئيس الشركة القابضة أن معدل التوريد مبشر، مؤكدًا أنه تم توريد 2 مليون 800 ألف طن فعليًا، وهو رقم مرتفع مقارنة بنفس الفترة من العام الماضى، ويعكس نجاح الحوافز الحكومية المقدمة للفلاحين، إلى جانب تطور عملية التسليم وسهولتها، متابعًا قوله «إن عددًا من المحافظات الزراعية الكبرى تصدرت معدلات التوريد، وعلى رأسها الشرقية، البحيرة، كفر الشيخ، الدقهلية، والمنيا»، مما يعكس انتظام الزراعة وسهولة حركة النقل.
وأوضح د. أشرف صادق، أن الشركة حرصت على التوسع فى إنشاء صوامع جديدة هذا العام، حيث دخلت الخدمة عدد من الصوامع فى الفيوم، بنى سويف، أسيوط، وسوهاج، ما أسهم فى تقليل المسافات التى كان يقطعها الفلاحون سابقًا لتسليم المحصول، وبالتالى قلّص من تكلفة النقل وقلل من نسب الفاقد، مشيرًا إلى أن هذه الصوامع الجديدة مجهزة بالكامل وفق معايير حديثة، ومتصلة بنظام تحكم مركزى يسمح بمراقبتها على مدار الساعة.
وعن خطط الطوارئ، أكد الدكتور صادق، أن الشركة القابضة للصوامع لديها خطة بديلة فى حال زيادة كميات التوريد عن المتوقع، تشمل التوسع فى استخدام الصوامع المتنقلة، والتنسيق مع جهات أخرى مثل البنك الزراعى المصرى ووزارة الإنتاج الحربى لتوفير مساحات إضافية للتخزين، مع وجود وحدات طوارئ قادرة على الانتقال السريع لأى منطقة تشهد كثافة توريد مفاجئة.
كما أكد رئيس الشركة القابضة، أن أحد أكبر الإنجازات التى تحققت فى السنوات الأخيرة هو تقليص الاعتماد على الشون الترابية، التى كانت تسبب فاقدًا كبيرًا فى القمح يصل أحيانًا إلى 15 فى المائة بسبب التعرض للرطوبة والتقلبات الجوية، موضحًا أن نسبة الفاقد فى الصوامع الحديثة لا تتعدى 0.5 فى المائة، مما يوفر كميات ضخمة كانت تُهدر سابقًا، وبالتالى يُسهم بشكل مباشر فى خفض فاتورة الاستيراد وتحسين جودة رغيف الخبز المدعوم.
وشدد «صادق» على أن الفلاح الآن أصبح يُدرك الفرق بين منظومة التوريد الحالية ونظيرتها فى الماضى، حيث كانت الطوابير طويلة، والإجراءات معقدة، والحوافز المالية غائبة تتسبب فى عزوفه عن التوريد، بينما يومنا هذا، بات يحصل على مستحقاته خلال 48 ساعة فقط من التسليم، عبر آلية دفع إلكترونى أو عبر البنوك الزراعية، وهو ما اعتبره الدكتور أشرف أحد الحوافز المحورية التى شجعت الفلاحين على الالتزام بالتوريد، بالإضافة إلى الصوامع الحقلية التى يسرت عليه عملية التسليم ورفعت الدولة عنه عبء وتكلفة النقل، وذلك لضمان راحة المزارعين، وسرعة تداول المحصول، وتجنب أى تكدس قد يؤثر على جودة القمح.
وألمح رئيس الشركة القابضة على أن منظومة الصوامع فى البلاد شهدت طفرةً غير مسبوقة خلال العشر سنوات الأخيرة، حيث انتقلت مصر من دولة تعانى من فاقد ضخم فى القمح وتخزين بدائى، إلى دولة تمتلك واحدة من أحدث شبكات الصوامع فى الشرق الأوسط، قائلًا: «كل طن ننجح فى تخزينه جيدًا يعنى رغيفًا آمنًا على مائدة كل مواطن، ويعنى تقليلًا لفاتورة الاستيراد، ودعمًا مباشرًا لأمننا الغذائى».
وفى إطار متصل، أشاد الدكتور نادر نورالدين، أستاذ الأراضى والمياه بجامعة القاهرة، بموسم القمح الحالى، مؤكدًا أنه يُعد من بين الأفضل خلال السنوات الأخيرة، من حيث الجودة والنوعية، فقد ساهمت الظروف الجوية المستقرة هذا العام، خصوصًا خلال شهرى مارس وأبريل، فى تحسين خواص الحبة وزيادة نسبة امتلاء السنابل، فضلًا عن تقليل معدلات الإصابة بالأمراض، وهو ما انعكس على ارتفاع نسبة البروتين وانخفاض الرطوبة فى الحبوب، وهى مؤشرات بالغة الأهمية فى تقييم جودة المحصول، مشيرًا إلى أن هذه التحسينات المناخية قد جاءت دون تدخل مباشر، ما يُبرز أهمية التوقيت الزراعى الملائم والإدارة الذكية للمواسم.
وفى إطار تحليل المشهد بناءً على الأرقام الرسمية المُعلنة، قال نادر نورالدين إن مصر قد تقترب هذا العام من تحقيق هدف توريد نحو 5 ملايين طن من القمح المحلى، وهو رقم يُعتبر قفزة مقارنة بالمواسم السابقة، ويُبشر بفاعلية السياسات الزراعية والتحفيزية المطبقة حاليًا، لكنه يؤكد أن الأرقام النهائية التى ستُعلن فى ختام الموسم وحدها ستكون المعيار الحقيقى للحكم على نجاح الجهود المبذولة، مشددًا على أهمية التقييم القائم على الحصيلة الشاملة للتوريد، لا على المؤشرات المبكرة وحدها.
أما فيما يخص السعر، فأكد د. نورالدين أن السعر الذى أُعلن هذا العام لتوريد القمح، والبالغ 2000 جنيه للإردب بدرجة نقاوة 23.5، يُعد سعرًا عادلًا ومجزيًا للمزارعين، خاصةً عند الأخذ فى الاعتبار أن الفلاح يستفيد أيضًا من بيع «التبن»، وهو من المخلفات الزراعية ذات القيمة فى السوق المحلى، مما يعزز من مجموع العائد النهائي. ويرى أن هذا التسعير المنصف يسهم فى ترسيخ الثقة بين المزارعين والحكومة، ويدفعهم للتوريد طوعًا، وهو عنصر جوهرى فى استراتيجية تحقيق الاكتفاء الذاتى وتقليص الاعتماد على الاستيراد.
وتوقف الدكتور نادر نورالدين عند مشروع «مستقبل مصر» كمثال بارز على المشروعات الزراعية العملاقة التى تلعب دورًا جوهريًا فى دعم استراتيجية الدولة لتحقيق الأمن الغذائي، مشيرًا إلى ان المشروع، الذى يقع فى منطقة الضبعة، يمتد على مساحة تُقدر بمليون فدان، ويعتمد على أحدث تكنولوجيا الرى والزراعة، كما يتميز بطبيعته الصحراوية التى تم تحويلها إلى أراضٍ صالحة للزراعة بفضل جهود التهيئة والاستصلاح.
وأشار إلى أن «مستقبل مصر» قد بدأ يُسهم فعليًا فى الإنتاج، لا سيما فى محصول القمح، بفضل دور الدولة فى توفير البنية التحتية، وشبكات الرى الحديثة، والميكنة الزراعية، واختيار أصناف محسنة من التقاوي، ويمثل هذا المشروع حجر الزاوية فى مشروعات التوسع الأفقي، خاصةً أنه يوفر مساحات ضخمةً لإنتاج المحاصيل الاستراتيجية، فى توقيت تتصاعد فيه الضغوط العالمية على أسواق الحبوب نتيجة للتوترات الإقليمية والتغيرات المناخية.