«إحنا مين؟».. سؤال ظل يطرحه عميد الدراما المصرية أسامة أنور عكاشة فى أكثر من عمل درامى ليرسخ فكرة الشخصية المصرية لدى المشاهد بطريقة غير مباشرة على مدار عقود من الزمان من خلال شخصيات أعماله المختلفة التى ما زالت تحيا بيننا حتى اليوم رغم مرور عشرات السنوات.
أسامة أنور عكاشة لا نستطيع أن نقول عنه إنه كاتب سيناريو عادى أو حتى مجرد «صنايعى يملك الموهبة». ولكنه مبدع حقيقى مهموم بالمجتمع والشارع المصرى، صاحب بصمة، فهو ليس «ترزى شاطر ينفذ طلبات الزبون ولكنه يملك «براند» خاصا باسمه».
«إحنا مين؟».. سؤال ظل يطرحه عميد الدراما المصرية أسامة أنور عكاشة فى أكثر من عمل درامى ليرسخ فكرة الشخصية المصرية لدى المشاهد بطريقة غير مباشرة على مدار عقود من الزمان من خلال شخصيات أعماله المختلفة التى ما زالت تحيا بيننا حتى اليوم رغم مرور عشرات السنوات.
أسامة أنور عكاشة لا نستطيع أن نقول عنه إنه كاتب سيناريو عادى أو حتى مجرد «صنايعى يملك الموهبة». ولكنه مبدع حقيقى مهموم بالمجتمع والشارع المصرى، صاحب بصمة، فهو ليس «ترزى شاطر ينفذ طلبات الزبون ولكنه يملك «براند» خاصا باسمه».
لذا كلما شاهدت أعمال عميد الدراما المصرية اكتشفت أبعادا جديدة فى الحوار، وكلما تعمقت فى تحليل الشخصيات وجدت نفسك كأنك أول مرة تشاهد العمل بمنظور جديد.
فمثلاً، مسلسل «ليالى الحلمية» من أنجح الأعمال الدرامية فى تاريخ مصر، ولكن مع تكرار المشاهدة بتعمق تكتشف أنه ليس مجرد عمل درامى ناجح، ولكنه مثل حصص التاريخ، كل حلقة حصة، تستطيع من خلالها معرفة تاريخ مصر فى حقبة زمنية بشكل درامى ممتع، ينسجها عميد الدراما المصرية الكاتب الكبير العظيم الراحل أسامة أنور عكاشة بشكل بسيط للمشاهد، رغم كمية العمق المرعب فى السيناريو، وهذا هو التفرد والإبداع الذى تميّز به أسامة أنور عكاشة، وكذلك السيناريست العملاق الراحل وحيد حامد.
مسلسل «ليالى الحلمية» لا أحد يستطيع أن يُرجع نجاحه إلى السيناريو فقط، لأن أى عمل مقياس النجاح فيه لا يتوقف على شخص، ولكن مجموعة العمل بالكامل هي التى تمنح النجاح، فما بالك عندما تتكلم عن عمالقة الاداء من فنانين بلغ عددهم 300 فنان فى أجزاء المسلسل وأحداثه التى كتبها عكاشة لـ300 شخصية بالعمل، ولا يمكن أن ننسى التفاهم الذى جمع عكاشة مع المخرج الكبير إسماعيل عبدالحافظ، وشكلا ثنائيا تاريخيا، ولا ننسى التصوير والديكور والإضاة والملابس والموسيقى، ومحمد الحلو فى غناء التتر، من كلمات الرائع سيد حجاب، وموسيقى المبدع ميشيل المصرى.
وعودة إلى التساؤل «إحنا مين؟»، فمن خلال متابعتى لأعماله الدرامية والسينمائية وأيضا التجارب الإبداعية الأخرى مع الكتابة الأدبية فى القصص القصيرة والرواية، فضلا عن كتبه النثرية، اكتشفت أن بداخل عميد الدراما المصرية صراع المثقف الحائر الذى لا يعرف لنفسه مرسى يستقر عليه ويطمئن له، وقد عبر عن هذا الصراع والحيرة كثيرا فى شخصيات أعماله الدرامية بسؤال مباشر على لسان أبطاله «أبوالعلا البشرى»، و«فضة المعداوى»، و«الدكتور مفيد أبو الغار» و«سليم البدرى» و«العمدة سليمان باشا غانم» ب«إحنامين؟».
واستمرت نفس الحيرة مع بطله حسن النعمانى «صلاح السعدنى» فى مسلسل «أرابيسك» في أزمة الهوية، عندما قال «إحنا من.. عرب أم فراعنة أم متوسطيون أم «بزراميط»؟!
وجاءت إجابة المصرى أسامة أنور عكاشة على لسان أحد شخصيات مسلسل «أرابيسك»، عندما رد الأستاذ وفائى الذى قام بدوره الفنان الكبير حسن حسنى، قائلا: «ساعة ما نعرف إحنا مين.. هنعرف إحنا عايزين إيه؟».
شخصيات «ليالى الحلمية» الرئيسية ستجدها كلها تحمل صراعات داخلية بداية من «سليم البدرى» ابن الباشاوات، رغم أن والده كان أصله فلاحا، والشخصية المصرية كانت بداخله، وهو ما كشف عنه أسامة أنور عكاشة فى أكثر من مشهد بشكل غير مباشر، مثلما أخفى «المناضل الوطنى طه السماحي يعيش فى الفيلا ولم يسلمه للشرطة» أو فى مشهد النكسة عندما كان فى باريس بعد التأميم، ولكن الشخصية المصرية ظهرت فى المشهد بإحساس عالٍ ، وكــذا رفضه التعامل مع الكيان الصهيونى، ومنح معلومات للمخابرات المصرية، ، هذه المشاهد قد تمر على المشاهد ببساطة، ولكنها مقصودة فى كتابة لإبراز الهوية المصرية عند الباشا والذى رفض أسلوب ابنه على فى إدارة لاعمال بعد عصر الانفتاح وتاكيده على ممية الصناعة، وليس رجل الأعمال الذى هدف إلى الربح بأى طريقة حتى لو غير مشروعة.
عميد الدراما المصرية لم يرسم الشخصيات المثالية فى أعماله، ولكن كان يرسم شخصيات من الواقع بدقة متناهية كل ما تحمله من أخطاء وعيوب، وكان أبرزها فى ليالى الحلمية «بسة وخمس» أو الفنانين محمد متولى وعهدى صادق النموذجين السيئين للشخصية المصرية الذين قاما بكل شيء سيئ، بداية من أعقاب السجائر، والعمل مرشدين لـ«القلم السياسى»، مرورًا بالتعامل مع الكامب الإنجليزى، ومرورا بالتحولات التى حصلت للمجتمع، شركات نقل، والزواج من معلمة غنية، والتستر باسم الدين، والعمل فى العملة، وشركات توظيف الأموال، وبيع الوهم للمواطنين، ورغم كل الجرائم التى قاما بها ستجد أن عكاشة بمشهد واحد جعلك تتعاطف معهما عندما ذهب «بسة» للإنجليز للإبلاغ عن مكان وجود الفدائى «طه السماحى»، ولكن فجأة تظهر هوية المصرية لـ«بسة» ويرفض الإبلاغ عن «طه السماحى» يعلى عكاشة من الشخصية المصرية المدفونة بداخلنا جميع وللعلم أسامة أنور عكاشة كان من أوائل الكتاب والمفكرين الذين حاربوا المتسترين باسم الدين وأصحاب الفكر المتطرف الذين يدعون إلى الإرهاب فى كل أعماله، وهذا ظهر فى الجزأين الرابع والخامس مع شخصية توفيق البدرى والذى قام بها علاء مرسى.
التعمق فى شخصيات «عكاشة» يحتاج إلى مجلدات وليس مقالات، ولكن لكى نتعرف عليها أكثر يجب علينا أن نتعرف بعمق على شخصية عميد الدراما المصرية أسامة أنور عكاشة نفسه، ونتعرف أكثر على هذا الإنسان البسيط الذى وُلد فى 27 يوليو عام 1941 بمحافظة طنطا، وحصل على ليسانس الآداب من قسم الدراسات النفسية والاجتماعية بجامعة عين شمس عام 1962. وعمل بعد تخرجه أخصائيا اجتماعيا في مؤسسة لرعاية الأحداث، ثم عمل مدرسا فى مدرسة بمحافظة أسيوط، وذلك فى الفترة من عام 1963 إلى عام 1964، ثم انتقل للعمل بإدارة العلاقات العامة بديوان محافظة كفر الشيخ، وذلك فى الفترة من عام 1964 إلى عام 1966، وانتقل بعدها للعمل أخصائيا اجتماعيا فى رعاية الشباب بجامعة الأزهر، وذلك من عام 1966 إلى عام 1982، عندما قدم استقالته ليتفرغ للكتابة والتأليف.
وفى لقاء تليفزيونى نادر له، قال: إنه كان يستمتع بالقراءة قبل أي شيء آخر وهو فى سن صغيرة، لذا قضى معظم وقته منعزلا عن الآخرين، مفسرا ذلك بأن الإنسان يجب أن يكون لديه استعداد فطرى وموهبة تساعد مع مكتسبات الحياة والخبرة على الإبداع، ووفاة والدته وهو صغير كانت سببا فى ان يتزوج فى سن مبكرة وهو عنده 21 سنة.
كانت بداية أسامة أنور عكاشة مع الأدب، وظهر هذا فى تميزه فى كتابة الحوارات الطويلة ذات العمق، والتى تمكن من خلالها من سرد تاريخ مصر عبر عصور عدة، وعلى لسان شخصيات تختلف فكريًّا، ونجح فى تشريحها نفسيا، وتطوّر مع الأحداث، لتظهِر فى بداية العمل على حال ومع النهاية تكون فى حالة أخرى، تاركا انفعالاته تحرك السيناريو غير متقيّد بزمن معين، كما هو معتاد فى فى الكتابة السينمائية.
هناك جانب آخر، لم يتم إلقاء الضوء عليه فى حياة «عكاشة»، وهو الجانب الأدبى عنده، مثل رواية «أحلام فى برج بابل» التى صدرت عام 1984، هذه الرواية تتناول حياة رجل ترك القاهرة كلها ليبحث عن ميلاد جديد له عبر واقع حلم ظل يراوده وهو البحث عن برج بابل، وتسوقه الأيام لاكتشاف المكان المنشود، حيث يبدو البرج بعيدا كخاطر يخفق فى لجة الزمن، وخلال موقعه الجديد يحاول أن يتعرف على معنى وجوده فى الحياة، وحين لا يجد جوابًا صريحًا يتسرب داخله تيار بارد من رعب وحشى يتخلق فى رحم الوحدة.
وله مجموعة قصصية صدرت عام 1985 بعنوان «مقاطع من أغنية قديمة»، يتحدث فى نصوصها عن شاعر خلال مرحلتى الطفولة والمراهقة، فتجده في حالة العجز والتمرد والذل والضعف، واحيانا الدفاع والنكوص، وكأنه عاش طفولة بائسة أقرب إلى الاحتقار، وتجده الشاب الثائر الذى عانى مرارة الاعتقال وقاسى أنواع العذاب.
بالطبع له أعمال أخرى، ولكن عندما أركز فى فكرة «أحلامٍ فى برج بابل» و«مقاطع من أغنية قديمة» أجد نفس المضمون بشكل تفصيلى في شخصياته فى أعمالة الدرامية
والسينمائية.
ومن أشهر أعماله الدرامية، «رحلة أبو العلا البشرى, وضمير أبلة حكمت, وليالى الحلمية، والنوة، والشهد والدموع, والراية لبيضا، وأنا وأنت وبابا فى المشمش، وزيزينيا, وأرابيسك, وعفاريت السيالة, وما زال النيل يجري.. والمصراوية » وغيرها من الأعمال التى أثرت فى تاريخ الدراما، ومن أعماله السينمائية فيلم «الطعم والسنارة سنة» و«كتيبة الإعــدام» و«تحت الصفر» و«الهجامة» و«دماء على الأسفلت».
وكان أسامة أنور عكاشة مقلًا فى أعماله السينمائية، لأنه كان شغوفًا أكثر بالدراما، ويرى أنه يستطيع أن يقول كل شيء لديه خلال 30 حلقة، على عكس فيلم لا يتعدى زمنه 120 دقيقة.
كما كتب عددا من المسرحيات منها «القانون وسيادته»، و«البحر بيضحك ليه»، و« الناس اللى فى التالت».
مثلما كان هناك ارتباط فنى ثنائى بين عميد الدراما المصرية وعمدة الدراما المصرية إسماعيل عبدالحافظ، كان هناك ارتباط آخرعند أسامة أنور عكاشة، وهو ارتباط المكان علاقة ثنائية بينهوبين البحر ومحافظة الإسكندرية رغم أنه لا ينتمى إليها.
يتفرد أسامة أنور عكاشة بالتعمق فى الشخصيات بشكل مخيف، ويستطيع أن يرسم نماذج غاية فى الشر، مثلما قدم شخصية حافظ رضوان «يوسف شعبان» فى مسلسل «الشهد والدموع»، ورغم كراهية الشعب المصرى بأكمله لتلك الشخصية، ولكن «عكاشة» كتب مشهدا فى الجزء الثانى محفورا فى وجدانى لما له من دلالة كبيرة وعظيمة، أنه مهما كان إنسان يحمل من شر فهناك دائما نقطة ضعف مهما كانت قوته وسطوته، وهو مشهد بين «حافظ رضوان» وابنته ناهد «الفنانة نسرين» جاء فيه:
حافظ رضوان: أنتِ بتقولى إيه يا ناهد.. هو فيه حاجة تخلى الأب مش أب وبنته مش بنته؟
ناهد: أيوه.. لما مشاعر الحب اللى بينهم تنتهى.
حافظ: عايزة تقولى إنك مبقتيش تحبينى يا ناهد.. بتقوليها لى فى وشى يا بنتى.
ناهد: بقولها لك فى وشك أحسن ما أفضل أقولها بينى وبين نفسى وأتعذب بيها.. بقولها لك علشان ترد على كل الأسئلة اللى جوايا.
حافظ: إيه هو اللى جواكِ يا ناهد؟ ملا دماغك بإيه أحمد ابن زينب؟
ناهد: اللى قالوه ده.. صح ولا لأ؟
حافظ: عمك شوقى والحق القديم؟
ناهد: أيوة يا بابا.
حافظ: لو قلتلك محصلش.. تصدقينى؟
ناهد: لو قلتها بإخلاص وصدق حصدقك.
حافظ: مش هاقولها.. بالعكس.. كل اللى قالوه صح.. كل اللى سمعتيه حصل
بس برضو مش عاوزك تكرهينى.. أنا أبوكى يا ناهد.. أبوكى
غصب عنك وغصب عن أى حاجة بتحصل فى الدنيا.
هذا المشهد من أهم مشاهد «الشهد والدموع» إن لم يكن أهم مشهد وبه دلائل خطيرة جدا، فهذا الشخص الجبار له نقطة ضعف، وهى ابنته ناهد التى يراها النقطة البيضاء فى حياته مبنية على الحب، والحب هو سر الحياة.
حافظ لم يستطِع الكذب على ابنته، رغم أنها قالت له «لو قلت محصلش بإخلاص وصدق حصدقك» ورغم هذا رفض إنه يكذب عليها، وقال لها الحقيقة وقال «بس برضو مش عايزك تكرهينى».
هــذا المشهد مكتوب بإحساس عــال وإسماعيل عبدالحافظ أخرجه بطريقة مؤثرة جدا جعلتنا نتعاطف مع «حافظ» رغم كل أفعاله، لأنه انكسر انكسارا مذلا ومهينا، ولخّص أسامة أنور عكاشة الحياة كلها فى رسالته التى قالها على لسان عم جعفر لـ«حافظ» فى نهاية المسلسل: منه له جاى رايح منه له..
منه له جاى رايح منه له.
