فى تطور جديد تشهده الحرب الروسية الأوكرانية، اتفقت روسيا وأوكرانيا على وقفٍ محدودٍ لإطلاق النار لمدة 30 يومًا، فى خطوةٍ مهمةٍ نحو خفض التصعيد منذ بدء الحرب الشاملة قبل أكثر من ثلاث سنوات. لكن بعد ساعاتٍ قليلةٍ، تبادل الطرفان الاتهامات.. فهل يتسبب انعدام الثقة بين البلدين فى تصعيدٍ آخرَ للصراع؟
بعد مكالمةٍ هاتفيةٍ استمرت لأكثر من ساعتين ونصف الساعة، لوضع النقاط على الحروف، توصل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين مع نظيره الأمريكى دونالد ترامب إلى اتفاقٍ بوقف استهداف منشآت الطاقة الأوكرانية لمدة 30 يومًا. وبالرغم من آمال واشنطن فى التوصل إلى وقفٍ شاملٍ لإطلاق النار فى أوكرانيا، إلا أن المحادثات أسفرت عن وقفٍ محدودٍ لإطلاق النار، حيث اشترطت موسكو وقف إرسال المساعدات العسكرية الأجنبية وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا للموافقة على هدنةٍ شاملة، وهو ما رفضه الجانب الأوكرانى وحلفاؤه الأوروبيون، وفقًا للكرملين. ومن جانبه، وافق الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكي، بعد محادثةٍ هاتفيةٍ مع نظيره الأمريكي، على قبول عرض روسيا بوقفٍ متبادلٍ للهجمات على أهداف الطاقة كخطوةٍ نحو وقف إطلاق نارٍ أوسع. كما أجرى الجانبان تبادلًا للأسرى، حيث أطلق كل منهما سراح 175 جنديًا فى صفقةٍ تحت وساطة الإمارات العربية المتحدة. وقالت موسكو إنها أطلقت سراح 22 جريحًا أوكرانيًا إضافيًا كبادرةِ حسنِ نية.
وبالرغم من الأجواء الإيجابية التى تبعث على التفاؤل نحو اتفاقيةِ سلامٍ دائم، إلا أنه بعد ساعاتٍ قليلةٍ، تبادلت أوكرانيا وروسيا الاتهاماتِ بشن هجماتٍ على البنية التحتية للطاقة لكل منهما، مما يُسلّط الضوء على انعدام الثقة بين البلدين ومدى هشاشة أى اتفاق. حيث قالت موسكو إن أوكرانيا ضربت مستودعًا للنفط فى جنوب روسيا، بينما قالت كييف إن روسيا ضربت مستشفياتٍ ومنازل، وقطعت الكهرباء عن بعض السكك الحديدية. وكانت الضربات ضد منشآت الطاقة جزءًا رئيسيًا من جهود كل دولةٍ لإضعاف الأخرى. ويقول الخبراء إن روسيا شنت هجماتٍ متكررة على شبكة الكهرباء فى أوكرانيا لخنق موارد الطاقة التى تغذى اقتصادها، وفى النهاية تقويض مجهودها الحربى من خلال جعل الحياة صعبة قدر الإمكان على المدنيين، وإغراقهم فى البرد والظلام، مما يحطم معنوياتهم. بينما تهدف ضربات أوكرانيا على المنشآت الروسية إلى خفض عائدات صناعة النفط الروسية المترامية الأطراف، والتى تم استخدامها لتمويل جيش البلاد، حسب ما ذكره تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
وخلال المكالمة “الإيجابية” بين ترامب ونظيره زيلينسكي، طرح الرئيس الأمريكى فكرةَ سيطرة الولايات المتحدة على محطات الطاقة الأوكرانية، وهى فكرة جديدة قال خبراء الطاقة الأوكرانيون إنها ربما غير قابلةٍ للتنفيذ. وأوضح زيلينسكى لاحقًا، خلال مؤتمره الصحفي، أنه لم يواجه “أى ضغط” من ترامب بشأن هذه الفكرة، قائلًا إنها تقتصر على محطةٍ واحدة، وهى “زاباروجيا”، أكبر محطةٍ للطاقة النووية فى أوروبا، والتى تسيطر عليها روسيا حاليًا. وأضاف أن المكالمة، التى تُعد المحادثةَ الأولى بينهما منذ واقعة البيت الأبيض، كانت “الأكثر أهميةً فى الآونة الأخيرة”. وقد تتسع قائمة الأهداف المحمية من الضربات فى وقف إطلاق النار الجزئى لتشمل البحر الأسود.
على الصعيد الأوروبي، أكدت القارة العجوز رفضها وقف تسليح أوكرانيا، وسط المساعى الهادفة إلى وقف الحرب. وأعلنت الحكومة الألمانية أنها تسعى إلى تقديم شحنات أسلحةٍ إضافيةٍ لأوكرانيا خلال العام الجاري، تصل إلى مليارات الدولارات. فى حين رحَب كل من بريطانيا وفرنسا بإرسال قواتٍ تتراوح بين 10 إلى 30 ألف جندى إلى الأراضى الأوكرانية، لردع أى هجومٍ روسى مستقبلى على كييف، فى خطوةٍ تهدف إلى تأكيد النفوذ الأوروبى فى القارة، فى ظل مغازلة بوتين لترامب والاتفاق على تعزيز قنوات الحوار الدبلوماسى بين الولايات المتحدة الأمريكية والدب الروسي.
فى هذا السياق، قال بسام البني، الكاتب والباحث السياسى من موسكو، إن اتفاقية وقف إطلاق النار التى أعلن عنها ترامب وبوتين بعد مكالمةٍ هاتفية هى عبارة عن هدية من بوتين لترامب، كى لا يخرج من المكالمة خالى الوفاض. كذلك، استخدم الرئيس الروسى مصطلح “الشراكة” بدلًا من “الندية” عند ذكر العلاقات مع واشنطن. ويبدو أن أوكرانيا لم تلتزم، وأكبر دليل على ذلك أنها استهدفت مستودعًا للنفط فى منطقة كراسنودار الروسية صباح اليوم التالي. فى المقابل، تُظهر روسيا، من خلال هذه الاتفاقية، أنها فعلا جادة فى تحقيق السلام الحقيقى الشامل، الذى تسعى إليه مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكنها لن تقدم أى تنازلات لواشنطن دون تحقيق مكاسبَ استراتيجيةٍ واضحة.
وبسؤاله عما إذا كانت الاتفاقية ستمهد لإنهاء الحرب بشكلٍ كامل، يرى “البني” أن ملامح انتهاء الحرب لم تبدأ بالتشكل بعد، وأن انتهاءها سيستغرق من شهرين إلى ثلاثة على أقل تقدير، لأن الأوروبيين مستعدون لفعل أى شيءٍ من أجل نسف المفاوضات الروسية الأمريكية والتقارب الروسى الأمريكي، حيث يجدون أنفسهم وحيدين فى الميدان، خاصة إذا اتخذ ترامب قرارًا بوقف التسليح وإرسال المعلومات الاستخباراتية العسكرية إلى أوكرانيا وأوروبا. وذلك يعنى أننا سنكون أمام مرحلةٍ من المفاوضات الصعبة، لكن فى النهاية ستخضع أوروبا للرغبة الأمريكية، إذا لم يختلف الروس والأمريكان على ملفات عديدة يناقشونها فيما بينهم، مثل العمل المشترك فى القطب الشمالى وسحب القوات الغربية المنتشرة على حدود أوروبا الشرقية بعد عام 1997، ذلك بجانب نقاط عديدة، منها السعى إلى تحقيق الحياد الأوكراني، حيث كانت توجد مادة فى الدستور الأوكرانى تُقر بأن البلاد حيادية، وذلك بعد استقلالها عن الاتحاد السوفيتي، ولكن بعد تخليها عن الحيادية ونقضها لمعاهدات سابقة، اضطرت روسيا إلى الدخول فى عملية عسكرية خاصة، لمنع حلف “الناتو” من جعل أوكرانيا ساحة لتقدّمهم فى الحرب مع روسيا.
وعن رغبة أوروبا فى إرسال قواتٍ إلى الأراضى الأوكرانية، أشار “البني” إلى نقطة مهمة، وهى أن روسيا ترفض جملة وتفصيلاً قيام بريطانيا وفرنسا وألمانيا بنشر قواتِ سلام على الأراضى الأوكرانية. كما تعتبر موسكو أى قواتٍ أجنبية تدخل إلى الأراضى الأوكرانية هدفًا مشروعًا لها، مما قد يشعل حربًا عالمية ثالثة غير مرغوبٍ فيها من كل الأطراف. وروسيا اليوم فى حالة قوةٍ تسمح لها بألَّا تضع أى اعتبارٍ لكل التصريحات الأوروبية الرامية إلى التأكيد على وجودها، ورغبتها فى المشاركة فى المفاوضات، ويُعزى ذلك إلى عدم امتلاكها ثقلاً عسكرياً.