فى غمرة حديث العالم عن الدعوة السامة إلى تهجير فلسطينيى غزة إلى مصر والأردن، بعث لى صديق فلسطينى مقيم بالولايات المتحدة، مثمنًا الموقف المصرى الثابت، الذى أعلنه مرارًا الرئيس عبدالفتاح السيسى من هذا الملف الملغوم، وأرفق مع رسالته عبر الهاتف مقطع فيديو أنجزته ابنته الصغيرة ذات الموهبة الغنائية البديعة والتى لم يتجاوز عمرها الأربعة عشر عامًا وهى تشدو بقصيدة كوكب الشرق أم كلثوم «أصبح عندى الآن بندقية» على خلفية المشاهد المأساوية لعودة سكان غزة من جنوب القطاع إلى منازلهم التى تهدمت فى الشمال جراء القصف الإسرائيلى الهمجى طوال خمسة عشر شهرًا، لم تجد هذه الطفلة الصغيرة أفضل مما غنته سيدة الغناء العربى قبل ستة وخمسين عامًا من شعر نزار قبانى وألحان الموسيقار محمد عبدالوهاب، كى تعبر عن تلك المأساة المتجددة رغم أنها وُلدت فى أرض غير الأرض، وفى زمان غير الزمان الذى غنّت فيه أم كلثوم، وتتعلم فى مدارس الأمريكان وتتعرض لأبواق دعايتهم المملوكة غالبًا لليهود أو المناصرة لهم على الأقل، وهذه هى عظمة الفن الصادق وقيمة كوكب الشرق رغم أنها تكمل هذه الأيام خمسين عاما من الرحيل.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى أستمع فيها إلى تلك القصيدة منذ أحداث غزة التى بدأت فى السابع من أكتوبر 2023، فقد انتشر قبل أشهر مقطع فيديو آخر يغنى فيه طفل أردنى عمره اثنا عشر عامًا القصيدة ذاتها على خلفية مشاهد الدمار التى خلفتها آلة الحرب الإسرائيلية المتغطرسة، ولفت انتباهى فى المرتين قيام الطفلين باستبدال الشطر الذى تقول فيه أم كلثوم «عشرون عاما وأنا أبحث عن أرض وعن هوية» بحسب ما كتبه الشاعر نزار قبانى عام 1968 إلى «ثمانين عاما وأنا أبحث عن أرض وعن هوية» كناية عن استمرار المأساة الفلسطينية على مدى الأعوام التى قاربت الثمانين، وهى لفتة ذكية من طفلين جبلا على الوعى بالقضية وما آلت إليه منذ سنة 1948.
وقد أعادتنى هذه الملحوظة إلى ظروف وملابسات تلك القصيدة التى بعثت حية من جديد رغم مرور نحو ستة وخمسين عاما على اللحظة التى شدت بها سيدة الغناء العربى أم كلثوم القصيدة فى مثل هذه الأيام من فبراير 1969، لا سيما أن كل المعلومات المتاحة لا تتحدث إلا عن الدوافع التى أدت بالشاعر نزار قبانى إلى كتابة القصيدة فى مارس 1968 على إثر معركة الكرامة فى مخيم الرمل، حين أغارت إسرائيل على مواقع الفدائيين هناك، فألحق بها الفدائيون هزيمة كبرى، حفزت الكثير من الشباب الفلسطينى على الانخراط فى صفوف المقاومة والانتساب إلى الفصائل الفلسطينية وخاصة حركة فتح، لكن أحدًا لم يذكر كيف وصلت القصيدة إلى أم كلثوم، وما هى ملابسات تنفيذها حتى ظهرت إلى النور بعد عام تقريبا من كتابة قبانى للقصيدة.
واللافت أن صحف «دار الهلال» كانت أول الخيط فى ظهور هذه القصيدة بصوت أم كلثوم، ففى السادس والعشرين من مارس 1968 وبعد أيام من كتابة قبانى لقصيدته أجرت معه مجلة «الكواكب» التى كان يرأس تحريرها فى ذلك الوقت الأستاذ رجاء النقاش حوارًا أعرب فيه الشاعر الكبير عن أعزّ أمنياته، حين قال بالنص: «من أحلامى الجميلة أن تصدح أم كلثوم بإحدى أغنياتى»، وكأنه كان يلقى بكرة أحدث قصائده فى ملعب كوكب الشرق، وقد قال لى لاحقًا الزميل سيد فرغلى الذى عاصر هذه الفترة وهو -بالمناسبة– عراب الصورة الشهيرة التى تظهر فيها أم كلثوم ممسكة بخرطوم الماء تروى حديقة فيلّتها بالزمالك إنه نقل تلك الرغبة القبانية إلى أم كلثوم عقب نشر الحوار، فكان جوابها: وأنا أيضا أحب شعر نزار، لكن لم يحِن الوقت بعد، وفى يناير1969 وفى طريقه إلى الخرطوم قرر قبانى أن يعرج على القاهرة فى زيارة قصيرة وفى نفسه شيء، وفور وصوله إلى مصر هاتف سيدة الغناء العربى فى بيتها عاقدًا العزم على تهنئتها على حفلاتها المتتالية لصالح المجهود الحربي، وتصادف أن ردّت عليه بنفسها وشكرته على التهنئة ودعته لتناول الشاى معها فى فيلّتها، وفى تلك الزيارة أسمع نزار أم كلثوم بعضًا من قصائده ومن بينها قصيدته الأحدث –فى حينها– والتى تحمل عنوان «طريق واحد»، والتى يقول مطلعها: «أصبح عندى الآن بندقية، إلى فلسطين خذونى معكم، إلى ربى حزينة كوجه مجدلية، إلى القباب الخضر والحجارة النبية».. استوقف أم كلثوم تعبير الحجارة النبية وأثنت عليه، ثم دعته ليكمل: «عشرون عاما وأنا أبحث عن أرض وعن هوية، أبحث عن بيتى الذى هناك، وعن وطنى المحاط بالأسلاك، أبحث عن طفولتي، عن رفاق حارتى، عن كتبى، عن صورى، عن كل ركن دافئ وكل مزهرية».
وفى حديث له عبر الإذاعة السورية فى السبعينيات وأعادت بثّه أكثر من مرة بعد ذلك يكمل قبانى ما دار فى تلك الليلة، ويقول إنه اقترح عليها أن ينقل لها القصيدة بخط كبير حيث اعتاد على تدوين قصائده بخط صغير، فردت أم كلثوم: قبل كل شيء مَن تقترح يقوم بتلحين هذه القصيدة؟ فسُرّ الرجل فى نفسه وهو يدرك أنها قررت غناء القصيدة، وأن حلمه القديم على وشك التحقق، لكنه كان من اللباقة واللياقة أن قال لها: سيدتي، كما ترين، أنت التى ترين مثل هذه الأمور ولا رأى لنا قبل رأيك، فقالت: أنا أعتقد أن عبدالوهاب عشق تلحين القصائد، فردّ نزار: لا شك فى هذا، أن رأيك هو الصواب، عبدالوهاب يلحن الشعر ويفهمه، فقامت كوكب الشرق على الفور بمحادثة عبدالوهاب تليفونيا ودعته للحضور إلى منزلها لتبدأ منذ تلك اللحظة خطوات التنفيذ للحن الذى قام أندريا رايدر بتوزيعه وقيادة الأوركسترا المكون من أكثر من 60 عازفًا وفق ما ذكره قبانى فى الحوار الإذاعى المذكور لتدخل أم كلثوم استوديو 35 بالإذاعة لتسجيل الأغنية فى فبراير 1969، والذى يستمع إلى هذه القصيدة اليوم يشعر وكأنها تحاكى ما يحدث الآن فى فلسطين، بل وكأن أم كلثوم تقولها صريحة فى وجه ترامب: لا لن أترك أرضى «ثمانون عامًا وأنا أبحث عن أرض وعن هوية، أبحث عن بيتى الذى هناك، وعن وطنى المحاط بالأسلاك».
ورحم الله سيدة الغناء العربى فى ذكرى رحيلها الخمسين، وقاتل الله مَن يصر على ظلم هذا الشعب.