والكتاب يُغطى سنوات من 1919 – 1936 للباحث العِلمى والمُستعرب اليكس ميخانيوفيتش جولدوبين، الذى رحل عن عالمنا فجأة، تاركاً ثمرة نشاطه العِلمى وعمله البحثى الاستكشافى الدؤوب الذى استمر أكثر من ربع قرنٍ، الكتاب يُركِّز على البحث فى موضوعٍ غاية فى الأهمية، وعلى درجة كبيرة من التعقيد، ولم تُطرح الفِكرة من قبل.
ففى تلك الحقبة الواقعة بين الحربين الأولى والثانية، وفى ظل تصاعد حركات التحرر الوطنى من نيران الاستعمار، بدأت تلك القوى الطبقية المجتمعية والسياسية تتشكل، تلك التى كان لها دور كبير فى حياة الدولة المصرية فيما بعد.
وقد استمرت هذه المعركة بالفعل بالنسبة للشعب المصرى قرابة الـ 34 عاماً، بداية من عام 1918 إلى عام 1952، حين جاءت ثورة يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر، التى قضت تماماً على الاستعمار والإقطاع الذى كان يعيث فى البلاد، فعلى الرغم من تغير الزعماء وتوالى الحكومات واحدة تلو الأخرى، بقيت إرادة وعزيمة الشعب المصرى قوية وأبية وشامخة، تواصل طريقها نحو التحرر من قيود ذلك الاستعمار وبراثنه.
إن هذا المؤلف الذى توصَّل لوضع قاعدة رئيسية لأعماله على مدار تاريخ نشاطه العلمى يتمثل أول عمل بحثى له فى المستعمرين الإنجليز فى مصر وثورة مارس 1919 بقيادة سعد زغلول، وكان موضوعاً لأطروحته للدكتوراه، وقد عكف فى السنوات الأخيرة من نشاطه العلمى على دراسة مشكلات التطور الاجتماعى والاقتصادى والسياسى فى المدينة المصرية، ونشر مقالتين فى هذا الموضوع فى عامى 1978 و1981، فى الكتاب الجامع للأعمال الأثرية المكتوبة وقضايا ثقافة الشعوب.
إن دراسة الحركة الوطنية فى مصر من مصادرها الأصلية فى القرن التاسع عشر حتى منتصف خمسينيات القرن العشرين تحتل مكانة بارزة فى إبداعات هذا المؤرخ، لأنه يدرُس بشكلٍ عميق ومستفيض تاريخ النضال الوطنى والسعى إلى نيل الاستقلال فى الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد خصص العالم المُبدِع أعماله الرئيسية لهذه الحِقبة من تاريخ مصر بداية من الأطروحات والرسائل العلمية، وصولاً إلى صدور أول دراسة بحثية حول هذا الموضوع الكبير.
إنه كتاب شديد الثراء فى دراسة تاريخنا، لدرجة أنه خُيِّل إلىَّ خلال قراءته أن كاتبه مصرى لشدة اهتمامه بالتفاصيل والشخصيات المهمة للحياة السياسية فى مصر، مثل إسماعيل صدقى الشخصية الديكتاتورية فى مطلع الثلاثينيات، وعلى ماهر رجل مصر القوى عشية الحرب العالمية الثانية، صحيح أنه لم يكن لديه ظهير شعبى، لكنهم حاولوا استغلال جماعة الإخوان لصالحهم.
إن الكاتب يتوقف أمام تفاصيل النهضة المصرية فى ذلك الزمان البعيد، ويُقدِّم معلومات مهمة عن أحزاب ذلك الوقت، ومدى تأثير المُلاَّك من الأتراك فى الحياة السياسية المصرية، وفى هذا الوقت كانت الطبقتان المهيمنتان على المجتمع المصرى طبقة الأتراك التى بدأت تفقد مزاياهاً، والطبقة السياسية، كما أن أعضاء حزب الأمة والوطنيين بالوفد يدلان على الذوبان القادم لتلك الفروق بين طبقات كبار المُلاَّك.
إنه كتاب شديد الأهمية فقد بدأ الشعب المصرى رحلة الكفاح والنضال فى الوقت الذى لم يكن لدى الغالبية العُظمى من هذا الشعب أدنى مستوى من الوعى السياسى والتنظيمى الضرورى، وفى الوقت الذى بدأت فيه للتو الطبقة العاملة والكادحة تمارس أولى درجات الوعى للمشاركة فى الحياة السياسية، كما كان التطور الاجتماعى للمجتمع المصرى لا يزال فى أدنى مستوياته نظراً لضعف التنوع الطبقى بين أفراد المجتمع.
وتمثلت القضية الرئيسية لدى طبقات الشعب المصرى كافة في: تحرير الوطن، والقضاء على ظُلم الاستعمار البريطانى وقيوده، والقضاء على الاحتلال العسكرى للبلاد، ومن ثم فقد كانت هناك حالة من التوحَّد والالتفاف الكامل فى هذا الوقت نحو هذه الأهداف الوطنية العامة.
يؤكد هذا الكتاب المهم أن الشعب المصرى قد أدى دوراً بارزاً ومهماً فى الحركة التاريخية الكبرى لثورة التحرير من الاستعمار، ويكفى القول إن الشعب المصرى كان من أوائل الشعوب التى تحدت مارد الاستعمار المتمثل فى الإمبراطورية البريطانية.
ويقول المؤلف إنه يحضره ما قاله لينين: بالطبع سيجيء ذلك اليوم فى تاريخ العالم عندما تستيقظ الشعوب المضطهدة والمُستعبدة على يدى الإمبراطورية البريطانية لكى تفيق من كبوتها وتبدأ معركتها الطويلة والثقيلة نحو التحرر من قيود الاستعمار وبراثنه.
إن هذا الكتاب مليء بالتفاصيل الجميلة من نضال الشعب المصرى ضد الاحتلال الإنجليزى فى سنواتٍ شديدة الأهمية، وترجمتُه مسألة كُنا فى أمس الحاجة إليها، وبيعه للجمهور بهذا السعر الرخيص قضية مهمة للغاية، بصرف النظر عن إقدامنا على القراءة، فمجرد وجود مثل هذا الكتاب مسألة مهمة للنضال الوطنى للحاضر وللمستقبل، للزمن الآتى بكل ما يمكن أن يحمله لنا من مفاجآت علينا مواجهتها جميعها.
إن الاهتمام بالتاريخ ودراسته واستيعابه، بل وحِفظه مسألة لا تقل أهمية عن الاهتمام بالحاضر وعن التطلع نحو المستقبل والزمن القادم.
أتمنى أن يُباع هذا الكتاب مع باعة الصُحف ليقرأه عامة الناس ومثقفوهم.