رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

يوم الثقافة العربية.. الاحتفاء بالهوية والانتماء


4-8-2025 | 22:21

.

طباعة
بقلـم: أمانى عبدالحميد

فى زمن تشتد فيه الحاجة إلى التمسك بالجذور وتجديد الوعى بالذات، حددت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو» يوم 25 من شهر يوليو ليصبح «يوم الثقافة العربية». المنظمة اختارت يوم تأسيسها لتخلق فيه مناسبة فارقة، ليس فقط للاحتفال بما أنجزته الحضارة العربية من إنتاج فكرى وفنى وعلمي، بل لتجديد العهد مع مشروع ثقافى جامع يضع الهوية فى مقدمة أولويات التنمية. مما دفع عددا من الدول العربية كى تحذو حذوها وتبدأ عاما جديدا من الحفاوة بهوية الأمة وتراث شعوبها العربية.

 

 

عندما اختارت «الألكسو» هذا اليوم، كانت تدرك أن الثقافة العربية تمثل أكثر من لغة جامعة أو تاريخ مشترك؛ إنها النهر الذى تدفقت فيه الحكمة، من شعراء العصر الجاهلى إلى فلاسفة الأندلس، ومن نقش الكتابة الأولى إلى صرخات الإبداع فى شوارع الرباط وبغداد والقاهرة. هى ذاكرة الجماعة العربية كما ترويها نتاجات الفن والأدب والموسيقى والمعمار والتراث الشعبى واللغة. لذا عندما يحل هذا اليوم كل عام فإنه يتحول إلى فرصة سنوية لمراجعة المسار، وتبادل التجارب، وبناء سياسات ثقافية تتسم بالشجاعة والاستباق. فالثقافة لم تعد حقلا نخبويا منغلقا على المثقفين فقط، بل مجال للتنمية، ومصدر للقوة الناعمة والتأثير الدولي.

وفى ظل الواقع المتغير، تبقى الثقافة هى خيط الضوء الذى يمكن أن تعبر به الأمة العربية المجهول. شريطة ألا يتحول إلى مجرد يوم احتفالى شكلي، بل تذكير جوهرى بأننا أمة حية، تقرأ وتكتب وتحلم، وتدرك أن الهوية ليست حائطا نتحصن خلفه، بل جسر نعبر به إلى العالم، دون أن نذيب ذاتنا.

ومن أجل ذلك كان لا بد من التأسيس لثقافة جديدة تؤمن بالإنسان العربى وتمنحه الأدوات لاكتشاف ذاته وسط عالم سريع التبدل. ثقافة تعترف بالاختلاف وتراهن على الإبداع، وتضع الإنسان فى صدارة مشروعها. فالهويات لا تُحفظ بالشعارات، بل بالأفعال، بالكتب، بالموسيقى، بالقصيدة، بالصورة، بالعمل الذى يدافع عن ذاكرة الأمة ويصنع وجهها فى مرايا الزمن. خاصة مع تزايد الحراك الثقافى وتصاعد حملات التشكيك المتواصلة؛ حيث تبرز دوما قضية الهوية الثقافية بوصفها البوصلة التى تحدد اتجاهات الأمة وتحمى طريقها المزدحم بموجات العولمة ذات التأثيرات المتصاعدة. فالهوية تحمل بين طياتها حضوراً متصلاً من الوعى واللغة وليست مجرد قيد أو شعار للتباهي.

ومن أجل تسليط الضوء على الإنسان العربى وقدرة ثقافته على عبور الأزمات التى تعتصره، وأملا فى تجديد العهد مع الوعى والانتماء والجذور والهوية بشكل سنوى، وهو ما تحاول جاهدة «الألكسو» تحقيقه منذ تأسيسها فى يوم 25 يوليو 1970، أى بعد 55 عاما؛ حيث رأت أهمية وضع ميثاق ثقافى جامع يقود نهضة معرفية قادرة على الاحتفاء بالثقافة العربية وتعزيز حضورها فى الفضاء الإقليمى والدولي، وتأكيد دورها كركيزة أساسية فى بناء الإنسان وتعزيز الهوية والانتماء.

وما بين الرؤى الحكومية والتوجهات الإقليمية تبرز عدد من المبادرات التى يقودها مبدعون فى كل موقع؛ سعيًا وراء تعزيز الهوية العربية والقومية، كى لا تضيع وسط موجات التغريب والتزييف المشتعلة حول العالم، خاصة عوالم التواصل الافتراضية. وفى المقدمة تأتى مصر كدولة تهتم بتراثها وهويتها العربية بشكل غير مسبوق؛ حيث قررت وزارة الثقافة المصرية التعاون الكامل مع «الألكسو» وكافة الجهات العربية المعنية بهدف دعم البرامج والمبادرات التى تعزز من مكانة الثقافة العربية وتفتح آفاقا جديدة أمام المبدعين، ولا سيما الشباب، خاصة أن المنظمة العربية تساهم فى حماية التراث الثقافى العربي، وتعزيز المحتوى الثقافى الرقمي، وتفعيل آليات التعاون بين الدول الأعضاء.

لذا لم يكن مستغربا أن يطل د. أحمد هنو، وزير الثقافة، ليعلن عن مواكبة الدولة المصرية احتفالات «الألكسو»، مهنئا المثقفين العرب بكلمات معبرة، قائلا: «لكل يد كتبت، ولكل عقل فكر، ولكل روح أبدعت... أنتم صوت هذه الأمة وضميرها الذى لا يغيب». ففى يوم المثقفين العرب فى كل مكان تتجسد الثقافة كما ينبغى لها على حد وصف «د. هنو»، بقوله: «ليست ترفا ولا هامشا.. هى حصن حقيقى يصون الأمة من التآكل.. وعنوان لتقدمها.. وأداتها الأهم فى الدفاع عن قيمها وهويتها.. وبناء مستقبلها». كما يرى فى العمل الثقافى المشترك السبيل إلى تعزيز التضامن العربى من أجل مواجهة التحديات الفكرية والاجتماعية إلى جانب مواكبة الرقمنة الراهنة ذات الدور المتنامى فى مصر والمنطقة العربية. وإن أشاد «د. هنو» بدور المنظمة العربية فى ترسيخ حضور الثقافة العربية عالميا. مؤكدا أن مصر، بتاريخها الثقافى الممتد وبدورها الإقليمى الفاعل، ستواصل دعمها لكل المبادرات التى تهدف إلى تحقيق نهضة ثقافية عربية شاملة تقوم على الإبداع والتنوع والانفتاح على المستقبل دون التفريط فى الأصالة والجذور، خاصة أن مصر ظلت دوما فى طليعة الأمم التى تعى تماما أهمية العمل الثقافى المشترك كجسر للتكامل العربى والتنمية المستدامة. وأشار وزير الثقافة إلى حرص الدولة المصرية على تعزيز أواصر التعاون مع «الألكسو» وكافة المؤسسات الثقافية العربية، فى سبيل دعم المبادرات التى تمنح الشباب منصة للتعبير والإبداع، وتحفزهم للانخراط فى صناعة الوعى الجمعي، لا سيما فى ظل التحديات الرقمية التى باتت تتطلب وعيًا ثقافيًا مركبًا. كما نوه الوزير بالدور المحورى الذى تلعبه المنظمة العربية باعتبارها ركيزة استراتيجية فى صون التراث وتعزيز حضور الثقافة العربية على الساحة العالمية. مؤكدًا أن مصر، بثقلها التاريخى والحضاري، ستبقى داعمة لأى نهضة ثقافية عربية شاملة، تؤمن بالتنوع وتحتكم إلى الأصالة، دون أن تنغلق على المستقبل.

لذا حرصت مصر على الاحتفاء بيوم الثقافة العربية بشكل ثرى ومستمر مع بداية العام. كتكريم رموز فنية وأدبية، تنظيم مهرجانات وفعاليات محلية وعالمية، واستثمار الفنون والتراث لإبراز التراث الثقافى العربى فى سياق معاصر، تعكس وحدة الثقافة العربية وقوة التواصل بين الأجيال. وعلى سبيل المثال، أطلقت مصر أول نسخة من «يوم الثقافة المصرية» فى 8 يناير 2025 تحت رعاية الرئيس عبدالفتاح السيسى. من أجل تكريم رموز الأدب والفكر والفن والمسرح والموسيقى، فى احتفالية أكدت أهمية الثقافة المصرية فى المشهد العربي. وخلالها قررت وزارة الثقافة اعتبار عام 2025 هو «عام أم كلثوم» بمناسبة الذكرى الخمسين لرحيلها. وقررت تواصل الاحتفال بها طوال العام عبر سلسلة من حفلاتها الفنية سواء داخل مصر أو خارجها، وبمشاركة أبرز الأصوات العربية لتقديم تراث الأغنية بأساليب عصرية تُحافظ على أصالته.

وعلى الرغم من الدور الذى تلعبه وزارة الثقافة، فإن عملية بناء الهوية الثقافية معقدة وتحتاج إلى سنوات طويلة من خلق تيار الوعى بين مختلف الأجيال. وهو ما كشف عنه المفكر الراحل ذو الأصل الفلسطينى إدوارد سعيد فى كتاباته، بقوله إن الهوية الثقافية، فى جوهرها، هى مشروع يومى لصياغة الذات والوعي، وهى بذلك تتجاوز الخطابات الرسمية لتسكن تفاصيل الحياة اليومية، والخيال الجمعي، ولغة الفن، وعناوين الكتب، وأغانى الأطفال، وصمت المسنين. وعلى الرغم من المبادرات والمحاولات المبذولة، يظل هناك تساؤل مطروح: هل نحن نُولد بهويتنا أم نخترعها كل يوم؟ هل نحن امتداد للتاريخ فقط أم بداية جديدة تُكتب الآن؟ تلك الأسئلة التى طرحها الأدباء والمفكرون ليست فلسفة بعيدة، بل مرآةٌ نرى فيها واقعنا ووجه الغد. وفى يوم الثقافة العربية، لا بد أن نجدد العهد مع ذواتنا، مع لغتنا، وذاكرتنا، وأغنيتنا القديمة، ومع الأرض التى تحفظ أسماءنا حين نغيب.

لذا من الطبيعى الحديث عن مفهوم الهوية خلال العقود الأخيرة كرد فعل على التحديات التى فرضتها العولمة وثورة الاتصال ومحاولات طمس الخصوصيات الحضارية. وهو الدافع الذى أدى إلى تزايد عدد من المبادرات داخل الوطن العربى والتى قد تمنح الثقافة العربية أجنحة تحلق بها.

كذلك المبادرة التى أطلقتها مكتبة الإسكندرية وتحمل عنوان «ذاكرة العرب» كمحاولة لحفظ التراث الشفهى والرقمى باعتباره عمقًا لهويتنا الثقافية. ومهرجان «الهوية العربية فى زمن الرقمنة» الذى عقدته العاصمة الأردنية عمّان؛ حيث قام بطرح سؤال الهوية عبر الأدوات الحديثة.

كما برزت على السطح مبادرة «هوية» كمنصة أطلقتها د. ريهام عرّام، المديرة العامة لشركة «iCulture» للصناعات الإبداعية، كأول منصة عربية رقمية تهدف إلى نقل المعرفة الأكاديمية حول التراث إلى الجمهور العام، لا سيما الشباب، بلغة حديثة، عبر محتوى بصرى وتفاعلى يربط بين الأجيال. والجميل أن «د. عرّام»، بخلفيتها الأكاديمية ومسيرتها الطويلة فى إدارة الثقافة والتراث، جمعت بين الحقلين الرسمى والمجتمعي. فهى مدرّبة معتمدة من قِبل منظمة اليونسكو الدولية، وتؤمن بأن التراث ليس الماضى فحسب، بل هو ما نمنحه من حياة فى الحاضر ليبقى معنا فى المستقبل.

لذا شهد يوم الثقافة العربية إطلاق سلسلة من المبادرات فى مختلف الدول العربية، من بينها تنظيم معارض للكتاب والمخطوطات فى تونس وبيروت وبغداد، وإقامة أمسيات شعرية وغنائية تستعيد التراث العربى الأصيل، وتحتفى بلغة الضاد، إلى جانب عقد ملتقيات فكرية تناقش تحديات الثقافة فى العصر الرقمي، وسبل دعم الصناعات الثقافية، علاوة على تنفيذ برامج تفاعلية مع الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعى، لدمجهم فى حوار حضارى مفتوح.

وهو الهدف الأساسى الذى تأسست من أجله المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم «الألكسو» كإحدى المنظمات التابعة لجامعة الدول العربية. فهى معنية بالنهوض بالثقافة العربية عبر تطوير مجالات التربية والثقافة والعلوم على المستويين الإقليمى والقومى، إلى جانب التنسيق المشترك فيما بين الدول العربية الأعضاء. تأسست بموجب المادة الثالثة من ميثاق الوحدة الثقافية العربية؛ حيث تم الإعلان رسميا عن قيامها بالقاهرة يوم 25 يوليو 1970.

فى إطار السعى لتعزيز الهوية العربية وصون التراث، تتبنى البرامج الثقافية العربية مجموعة من الموجهات الاستراتيجية، تشمل دعم وحدة الثقافة والعمل العربى المشترك، وحماية التراث فى فلسطين والعراق، وتعزيز الحوار الحضارى مع العالم، لا سيما الإفريقى والأوروبي. كما تولى اهتمامًا بتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وتنمية ثقافة الطفل، والنهوض بالصناعات الثقافية، وإنشاء سوق ثقافية عربية مشتركة. وتتصدى هذه البرامج لتحديات العولمة والملكية الفكرية، وتسعى لبناء قاعدة بيانات للتراث الثقافي، وإبراز المضمون الثقافى فى الإعلام، بما يرسخ مكانة الحضارة العربية فى الوعى الإقليمى والدولي.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة