ليس هناك أدنى مبالغة إذا قلنا إن ثورة الثالث والعشرين من يوليو 1952، وهى تغير واقعنا السياسى والاقتصادى والاجتماعى، غيّرت أيضا من ذائقتنا الفنية، وخلقت مناخا مشجعا كى تبدع فيه أسماء، ربما كانت بداياتها سابقة على قيام الثورة، أو على الأقل مواكبة لها، كحال كل من صلاح أبو سيف ويوسف شاهين وعاطف سالم وبركات فى مجال السينما على سبيل المثال، أو تلك النهضة المسرحية التى أخذت تؤتى ثمارها مع مطلع الستينيات، سواء من حيث المحتوى والتوجه، أو من حيث الطاقات المسرحية، التى تصدرت حالة الحراك التى عاشها المسرح المصرى فى تلك الفترة.
أما فى الغناء، ورغم بقاء الأسماء الكبرى كأم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش، فإن حضورهم على الساحة كان أيضا مختلفا، لكن الأهم أن جيلا جديدا من الموسيقيين الشباب آنذاك قد أخذ على عاتقه إيجاد تغيير حقيقى فى الذائقة السمعية المصرية ومن ثم العربية، هذا الجيل قاده باقتدار كل من محمد الموجى وكمال الطويل ومنير مراد وبليغ حمدى، متخذين من صوت عبدالحليم حافظ واجهة لهم، أو قاعدة انطلاق لتقديم الموسيقى التى يريدونها.
لكن العندليب، هذا الشاب الريفى البسيط، لم يكتفِ بأن يكون فقط واجهة جيله من الموسيقيين، وإنما أراد كذلك أن يكون واجهة النظام بأكمله، أو قل إنه أراد أن يكون لسان حال هذا التغيير نفسه، ومعبرا عن توجهات ثورة الثالث والعشرين من يوليو، حتى إن جيل الخمسينيات والستينيات كان يتعرف على مبادئ الثورة، إما من خلال خطب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وإما عبر صوت عبدالحليم، وهو يغنى «على راس بستان الاشتراكية» أو «صورة صورة» أو «بالأحضان» أو «ريسنا ملاح ومعدينا»، إلى آخر تلك الأغنيات التى مثلت المرحلة الأبرز فى مشوار عبدالحليم الغنائى، إلى أن حدث ما حدث فى يونيو 1967، فانهار المشروع الغنائى الحليمى، أو كاد بعد أن ودع كل من صلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودى تحديدا مرحلة البراءة السياسية، أو إذا شئت أن تسميها مرحلة السذاجة السياسية، فلا ضير عليك.
أما عبدالحليم الشخص، فلا أظنه أنه كان على الدرجة ذاتها من البراءة أو السذاجة، وإنما كان يعرف بذكائه الفطرى أنه بحاجة إلى غطاء سياسى يحمى دولته الغنائية، أو على الأقل يضمن به مكانًا بارزًا بين الكبار، عبدالوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش؛ ولذك فقد سعى جاهدًا، ليبيع لنا فكرة أنه وثيق الصلة بشخص الرئيس عبدالناصر، من أول مناداته بلفظ «يا بابا» على الرغم من فارق السنوات البسيط بينهما، ثم الغناء له بالاسم، على الرغم من أنه كان يستطيع الغناء للمبادئ لا للأشخاص، وصولا حتى إلى درجة التملق، وقد حكى الأستاذ هيكل لأديبنا الكبير يوسف القعيد واقعة طاقم رابطات العنق التى أراد أن يهديها حليم لعبدالناصر بعد إحدى رحلاته بالخارج، فما كان من ناصر إلا أن أحرجه بل وعنّفه، وقال له إنه سوف يأخذ واحدة فقط، على ألا يكرر حليم ذلك مرة أخرى.
ولا نستطيع أن ننكر أن عبدالناصر قد استفاد أيضا من صوت عبدالحليم وشعبيته فى تمرير أفكاره الثورية وتعزيز مكانة مصر على مستوى الوطن العربى، لكنه لم يفعل ذلك فقط مع عبدالحليم، وإنما مع كل طاقة فنية مصرية حقيقية تستطيع أن تكون جزءا من قوة مصر الناعمة، حدث ذلك مع أم كلثوم وعبدالوهاب، وحتى إسماعيل ياسين نفسه، وليس العندليب وحده، لكن المدهش أن عبدالناصر، وعلى المستوى الشخصى، لم يكن ميالا لعبدالحليم، على حد قول معاصريه، ومن بينهم الإعلامى الراحل وجدى الحكيم، الذى قال أكثر من مرة إن الرئيس كان يفضل فريد الأطرش صوتا وشخصا على عبدالحليم، والأكثر دهشة أن ناصر لم ينتصر للعندليب فى أى من معاركه الكبرى مع منافسيه، خذ لذلك مثلا معركته الشهيرة مع كوكب الشرق أم كلثوم بعد حفل عيد ثورة يوليو عام 1964، صحيح أنه سعى للفصل بين القوتين بعد ذلك، بأن أمر بأن تكون لعبد الحليم حفلته بالإسكندرية، على أن تبقى أم كلثوم بحفلتها الرئيسية والرسمية فى القاهرة، لكنه ترك «الست» تقلم أظافر هذا الجواد الجامح، وتكشف له عن حجمه الحقيقى أو قوته الفعلية، حينما سعت أم كلثوم إلى منع أغنيات حليم من الإذاعة، ولم يتدخل ناصر على الإطلاق فى تلك المعركة التى لم تنتهِ إلا بنصيحة من المشير عبدالحكيم عامر لحليم، بأن عليه أن ينهى الأمر بنفسه، وهو ما حدث بالفعل حينما قام بتقبيل يد أم كلثوم فى الصورة الفوتوغرافية الشهيرة، مقدما لها اعتذارا واضحا أنهى به هذه الأزمة.
أما معركة عبدالحليم الشهيرة مع فريد الأطرش بخصوص حفل عيد الربيع فى أبريل 1970، حين تصارع الاثنان على إذاعة حفليهما على الهواء تليفزيونيا، فقد انتصر عبدالناصر بصورة علنية لفريد الأطرش، وقرر إذاعة حفلته على الهواء مباشرة، بينما يتم تسجيل حفل عبدالحليم وإذاعته فى سهرة اليوم التالى، وعندما ترك عبدالحليم العنان للسانه كى ينال من فريد الأطرش فى الصحافة اللبنانية، بعد أن قرر عبدالناصر منح فريد وسام الاستحقاق من الدرجة الأولى، وصلت رسالة واضحة إلى العندليب بأن يكف يده ولسانه عن فريد، فتراجع الرجل عن كل تجاوزاته الصريحة، وقال إن تصريحاته فُهمت عن طريق الخطأ أو تم تأويلها على غير ما كان يريد، مع أن عبارات حليم كانت واضحة، حين قال لمجلة الحوادث اللبنانية بالنص: «فريد الأطرش أكبر فنان (مجرح)، أنا ماسك عليه كلام قاله فى بيروت والكويت عن مصر، وأستطيع أن أؤذيه أذية بالغة إذا كانت المنافسة بين الفنانين بالشكل ده، ولو أننى تكلمت عما حصل على الوسام، الحكاية بسيطة، كنت أقدر بمنتهى البساطة أحط فى جيبى (ريكوردر) صغير وأسجل كلامه وأخرب بيته، لكن هل هذا التصرف أخلاقى؟»، وهذه هى ذاتها التصريحات التى لامه بسببها الكاتب الكبير رجاء النقاش فى مقاله الأسبوعى «كلام فى الفن»، المنشور فى مجلة الكواكب بتاريخ 28/4/1970، فى ذروة أزمة إذاعة حفلى فريد وعبدالحليم التى انتصر فيها عبدالناصر لفريد الأطرش.
