رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الرئيس انور السادات يكتب.. شخصية جمال عبدالناصر


23-7-2025 | 20:33

.

طباعة
بقلـم: أنور السادات

كان ذلك فى شهر نوفمبر 1956، وكانت مصر تخوض أشرف وأعنف معركة من أجل الحرية والبقاء، ضد قوى شريرة مغرورة.

كانت القنابل تتساقط على الوادى الأمين من كل جانب، فالأعداء فى مكرهم كانوا قد بنوا خطتهم على إرهاب شعب مصر، لكى يتخلى عن زعيمه جمال، فيكون ذلك هو بدء استعمار جديد وسيطرة جديدة وإذلال جديد.. ولكن شعب مصر صمم على أن يقف خلف زعيمه، فإما النصر أو الموت.

وكنا جلوسًا حول الرئيس، نقلب الأمر على وجوهه، حينما أُنبئت بأن مولودًا لى على وشك أن يطأ أرضنا التى يغشاها دخان المعركة، ويحمى فى جوانبها وطيس القتال...

 

ولم أحفل بالنبأ..

ولكننى حين أُخبرت أنه ولد، وأن علىّ أن أختار له اسما، وجدتنى أنفعل بخاطر ملأ نفسى رضا ونشوة.. لقد قلت فى نفسى: «أسميه جمال... فإذا عشت بعد هذه المعركة، كتبت له قصة الصراع الذى وُلد فى إبانه، وحكيت له عن عمه جمال.. وإذا مت فى هذه المعركة، فسيهتدى يومًا إلى مغزى هذه التسمية، فى وقت هذه المعركة التى خضناها جميعًا من وراء عمه جمال.

وقد كتب الله النصر لمصر بقيادة جمال.. وبدأت أكتب القصة، وأحكى لابنى جمال عن عمه جمال.

«إن حديث ثورة 23 يوليو يا بني، حديث شيق على ما فيه من قسوة وشجى، برغم ما فيه من ألوان الصراع، صراع بدأ من قبل أن تبدأ الثورة فى الداخل، وهو اليوم حديث العالم كله فى الخارج.

«وكما سبق أن قلت مرارًا، فإن ثورة 23 يوليو حدث تاريخي، له شخصيته المستقلة تمام الاستقلال عن كل ما سبقه من ثورات مماثلة.. وله طابعه ومميزاته التى لن يستطيع أن يدركها إلا مَن عاش فى البيئة المصرية، أو تعرف عليها عن فهم ودراسة.

«وفى هذا القرن الذى نعيش فيه، حدثت ثلاث ثورات، كانت كلها تكاد تكون مؤدية بعضها إلى البعض.. فبعد الحرب العالمية الأولى، وعلى أثر الهزيمة التى مُنيت بها تركيا، قام مصطفى كمال أتاتورك بثورته المشهورة، لكى يجدد شباب تركيا.

«وأيا كانت الوسائل التى اتبعها، وأيًا كانت أيضًا طريقة فهمه لبعث تركيا، فإن مصطفى كمال استطاع خلال فترة حكمه أن يرسى قواعد كثيرة لنهضة تركيا وقوتها واستقلالها، الذى يفرط فيه حكام تركيا اليوم على صورة مؤسفة.

«وجاءت بعد ذلك ثورة موسولينى فى إيطاليا، الثانية فى الترتيب بعد ثورة تركيا، وهى قد قامت –أى الثورة الفاشستية الإيطالية– عقب الهزيمة فى الحرب العالمية الأولى أيضًا..

«والذى يهمنى فى هذا المقام هو ما صرح به موسولينى مرارًا وأثبته المؤرخون، بأن ثورة إيطاليا الفاشستية إنما كانت نهجًا من المدرسة الكمالية، أى مدرسة كمال أتاتورك.

«ثم كانت الثورة الثالثة فى ألمانيا بقيام هتلر، وهو الذى لم يكن يخفى إعجابه على الإطلاق بموسولينى وثورته، بل إن هتلر لا يفتأ يعلن أن موسولينى هو أستاذه الذى سار على نهجه وتتبع خطاه.

«نخرج من هذا الاستعراض المبسط بنتيجة، هى أن هذه الثورات التى وقعت فى النصف الأول من هذا القرن، إنما كانت كلها من مدرسة واحدة.

«ولكنك حين تأتى إلى ثورة 23 يوليو المصرية، والتى وقعت فى مستهل النصف الثانى من هذا القرن، فإنك تجد عملًا جديدًا، بل منفصلًا تمام الانفصال عما سبقه من ثورات وقعت من قبله فى القرن العشرين نفسه.

«وهناك ثورة أخرى وقعت قبل تلك الثورات الثلاث، فى هذا القرن نفسه، وخلال الحرب العالمية الأولى، وهى الثورة البلشفية فى روسيا، ولم أشأ أن أجعلها من تلك الثورات الثلاث اللاحقة لها، لأنها مدرسة قائمة بذاتها فى وطن له ظروفه التى شكلتها محنه وآلامه..

«إلا أن الباحث يرى ويلمس أنه ما من شك فى أن هذه الثورات الثلاث على اختلاف ظروفها، كانت تستهدف أول الأمر مصلحة الشعوب التى قامت فيها، ثم جاءت بعد ذلك الانحرافات، ففشلت منها اثنتان، هما الفاشستية فى إيطاليا، والنازية فى ألمانيا، وتتعثر اليوم الثالثة فى تركيا.

«وأعود إلى ثورة 23 يوليو، فأقول إن هذه الثورة حدث جديد تمامًا يا بني، عما سبقه من أحداث فى القرن نفسه.. وأسباب هذا الاختلاف ترجع فى أساسها إلى أن ثورة 23 يوليو الأخرى مدرسة قائمة بذاتها، استمدت كل مقوماتها من طينة شعب مصر وظروفه وعاداته وأخلاقه.

وسبب آخر أساسى له عمقه ومغزاه، هو أن ثورة 23 يوليو اتخذت من المُثل العليا شعارًا تمسكت به وحافظت عليه، برغم ما سببه ذلك التمسك من تعويق لسير هذه الثورة، واندفاعها فى وقت من الأوقات.

«ولنأخذ مسألة قيادة هذه الثورة على سبيل المثال.. فنحن لا نعلم فيما نعلم من تاريخ الثورات فى هذا القرن، أو فيما سبق من قرون، أن قائد ثورة من تلك الثورات يتنازل عن مركزه كقائد بمحض إرادته، ليدفع برجل آخر إلى قيادة هذه الثورة، ولا يكتفى بذلك، بل يخدم تحت أمره هذا الذى دفعه جنديًا شريفًا مخلصًا.

«إن ما نعلمه عن تاريخ الثورات هو عكس ذلك على خط مستقيم، فقد كان قُواد الثورات ولا يزالون يخلون لأنفسهم الطريق بالقتل والاغتيال والإرهاب.

«فالتاريخ يقرر مثلًا أن من عيوب مصطفى كمال أتاتورك المشهورة، هو أنه لم يبقِ على زميل أو صديق عاونه إلا وقتله..

«والتاريخ يذكر أيضًا حمام الدم الذى خاضه هتلر بنفسه وبيده وموسولينى أيضًا لم يمتنع عن القتل إلا حين قتل...»!

«أما فى هذه الثورة... ثورة 23 يوليو يا بني، وهى التى أخذت نفسها بالمثل، فإننا نرى جمال عبدالناصر الرئيس المنتخب للهيئة التأسيسية للضباط الأحرار سنتين متتاليتين، يسعى قبل قيام الثورة إلى إقناع الهيئة بضرورة تنصيب قائد للثورة من خارج البيئة، لظروف واعتبارات قُدر أنها لمصلحة الوطن، فى الوقت الذى يعلم فيه جمال أنه أجدر مَن يقوم بها، سواء من وجهة نظر الهيئة التأسيسية التى انتخبته رئيسًا، أو من وجهة نظر الجيش كله.

«ولم يكتفِ جمال بذلك، بل إنه بادر عقب انتخابه للمرة الثالثة رئيسًا بالإجماع، بعد قيام الثورة وطرد فاروق... أقول بادر فتنازل إلى محمد نجيب عن هذه الرئاسة، وألحّ على الهيئة التأسيسية حتى قبلت هذا الوضع.

«ويحق لكل إنسان أن يسأل اليوم: لماذا تصرف جمال على هذا النحو؟... فالعالم يجرى على سنن غير هذه السنة، ونواميس الناس اليوم لا تعقل أو تفهم مثل هذا التصرف.

«كان هناك ثلاثة مرشحين لقيادة الثورة، اختارت منهم الهيئة التأسيسية محمد نجيب.. وكنت الوحيد الذى عارض فى هذه الخطوة... وأذكر أننى اجتمعت على انفراد بجمال فى شقته بكوبرى القبة، وأخذت أتناقش معه وأبدى له تخوفى الشديد من استلام رجل غريب لقيادة الثورة التى لم تبدأ بعد، وكان محور خوفى أن الرجل بحكم سنه وعقليته وجيله الذى نشأ فيه، لن يستطيع أن يفهم العمل الثوري، ولا يرجى منه بعد هذه السن أن يعيش بعقليته، مما يشكل خطرًا جسيمًا على الثورة... خصوصًا عند البدء.

«وأذكر أنه على جمال أنه اقتنع، وأخذ ينفث دخان سيجارته على عادته حين يكون مستغرقًا فى التفكير، ثم لم يلبث أن قطع الصمت، قائلًا:

- يجب أن تحسب حساب النفس البشرية.

ولم أفهم أول الأمر، ولكن جمال لم يلبث أن استطرد قائلًا:

- نحن جميعًا فى الهيئة التأسيسية زملاء وفى سن واحدة، ورُتبنا تكاد تكون واحدة.. والذى جمعنا فى هذا العمل هو الصداقة، ثم الأخوة والمحبة اللتان ولدتا الثقة، وأخشى ما أخشاه أننا إذا جعلنا قيادة الثورة فينا أن يفتح هذا الأمر ثغرة فى نفس واحد منا.. ونحن بشر.. والنفس البشرية مليئة بالانفعالات.. وأنا لا أريد أن يكون مستقبل الوطن معلقًا على الانفعالات، بل لا أريد أن أفرض احتمال واحد فى الألف شك من انفعال فى نفس واحد فينا، لأن المسئولية مسئولية مستقبل شعب، وبالثقة والمحبة نستطيع أن نحقق المستحيل.

«وهكذا وضع جمال شعار المُثل العليا موضع التنفيذ من قبل أن تبدأ الثورة.

«وهكذا أيضًا كان جمال وما زال وسيظل يحسب حساب كل شيء مهما كان مستبعدًا لذلك انهزم وانهار أمامه أيدن الذى قضى ثلاثين عامًا يصرف السياسة الدولية، ويحكم فى مقادير البشر، وكانوا يعتبرونه أستاذًا من أساتذة هذا الفن.

«ولهذا عرف الساسة فى أمريكا وفى العالم كله أن ذهب العالم كله لا يشترى فى مصر المثل ولا المبادئ.

«ولهذا عادت العزة وعاد الشرف القومى لشعب عريق، بل لمنطقة بأسرها... منطقة يسكنها قوم كان المستعمرون يسمونهم «عرب» كصفة تعنى الاحتقار والاشمئزاز... وبين يوم وليلة أصبحت كلمة «عرب» ذات مغزى عميق مخيف... مغزى يفخر به الأهل والأصدقاء، ويرهبه القراصنة المستعمرون الأقوياء.

«ولهذا أصبحت ثورة 23 يوليو قذى فى عين فرنسا أفقدها الوعى والرشد.

«ولهذا فزع الإنجليز وخرجوا على مألوف عادتهم فى ادعاء الهيبة والوقار، وأصبحوا هم يصرخون فى هذيان جنوني، كشف عن خيبة نواياهم الاستعمارية، وانتهى بهم إلى الإفلاس والجوع.

«والمعركة لم تنتهِ بعد.. حتى هذه اللحظة التى أكتب فيها هذه السطور، ولكن جمال لا يزال كما هو، يحسب حساب كل شيء، ويستلهم وحيه من روح شعب مصر البسيطة المسالمة، وهى نفس الروح التى تحطم القيود وتنسف السدود إذا غضبت أو ثارت.

«وقد انتصرت الثورة، وانتصر جمال فى كل معركة خاضها باسم الشعب.. انتصر على أدعياء الدين من المشعوذين.. وقضى على الإتجار بالسياسة، وانتصر فى مارس سنة 1954.. وانتصر فى أكتوبر سنة 1954.. انتصر فى معركة الأحلاف، وانتصر فى معركة العروبة، وانتصر فى معركة تسليح مصر.. وهو يكمل اليوم انتصار سيادة مصر وأمنها ورخائها فى معركة القناة.

«إن الحديث عن الثورة وأهدافها وأحداثها طول الفترة التى انقضت منذ بدئها حتى هذا اليوم الذى أكتب لك فيه هذه الصفحات... أقول إن الحديث عن الثورة، لا بد أن يعود بنا فى كل صغيرة وكبيرة إلى شخصية جمال عبدالناصر.. وأن الحديث عن شخصية «جمال» سيعود بنا دائمًا إلى فطرة شعب مصر ومقوماته وخصائصه فى القرية والحقل، كما فى المصنع والمدينة.. هذه المقومات وتلك الخصائص التى هزمت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل وردت عدوانهم، وهم الذين كانت لديهم أحدث أسلحة الحرب والخراب والدمار..».

نشر فى أغسطس 1957

 
    كلمات البحث
  • أعنف
  • معركة
  • القنابل
  • شعب
  • مصر

أخبار الساعة

الاكثر قراءة