تمثالٌ من برونز سيقف شامخا بالقرب من معهد «القلب» بحى إمبابة. يحمل بين جنباته تاريخا طويلا من العطاء الإنساني. ليكون دليلا على أن بلادنا لا تغفل عن أبنائها النبهاء الشرفاء. وأن مقولة «العلم نور» حقيقية. ومن أجلها أضاءت مصر قلبها، لا بشمعة بل بتمثال. كاعتراف جمعى بجميل لا يزول، وامتنان لا يُنسى. يشبه القصيدة فى حضورها، يشبه السلام فى صمته، والأجمل أنه يشبه الدكتور مجدى يعقوب ملك القلوب.
فى احتفالية أقامتها وزارة الثقافة داخل المسرح الصغير بدار الأوبرا، لم يكن الحاضرون شهودًا على مشروع نحت أو إقامة تمثال. بل شهود على لحظة وطنية اختلط فيها الفن بالوفاء، والطب بالثقافة، والعلم بالمحبة. فمصر قررت أن تضع ملك القلوب فى قلب ميدان، على مرأى من العابرين، وعلى مرمى دمعةٍ من المرضى المترددين على معهد القلب. هناك فى قلب ميدان «الكيتكات»، حيث سيمتد ظله. لا ليحجب الشمس بل كى يمنح المصريين بعضا من ظله.
«أحب مصر كما أحب عملى».. هكذا قالها كبير القلب الدكتور مجدى يعقوب بصوته الواثق الهادئ. كلماته اخترقت قلوب الكثيرين من أهل مصر. لم يتحدث عن إنجاز، ولا عن أوسمة. لكنه تحدث بروح طيبة كريمة. فهو يرى أن التمثال ليس له وحده. بل «اعترافٌ بقيمة العلم والعمل الإنساني». بدا وكأنه يُزيح ذلك التكريم عن كتفيه ليوزعه على آخرين. على منْ علموه، ومنْ عملوا معه، ومنْ وثقوا فى يده حين كانت تُعيد ترتيب نبضات الحياة.
السير «يعقوب» لم يتغير. لا يزال يرى أن الفن شقيق للطب. والثقافة ظلّ للعلم. قالها ببساطة رجلٍ جرّب أن يُعالج الألم فى الجسد، فلم ينسَ أن هناك ألمًا آخر فى الروح لا يلمسه إلا الفن. ويردد قائلا: «الثقافة تمنح الحياة معناها الحقيقي». قالها وكأنه يُعيد تعريف الطب نفسه.
أما التمثال، فيُجسده النحات المصرى الدكتور عصام درويش أستاذ النحت بجامعة حلوان، من خامة البرونز، بارتفاع ستة أمتار، على قاعدة يبلغ طولها ثمانية أمتار. ليس طاغيًا، لكنه مهيب. لن ترى فيه صرامة البرونز، بل حنان اليد. لن يُجسّد هيئة طبية فحسب، بل روح كانت تتقن مداواة المجهول.
أما المكان فلم يكن عابرًا. إنما فى قلب «ميدان الكيتكات» الذى سيظل دوما قلبا نابطا وسط خريطة المدينة الصاخبة. حيث تتلاقى عنده الطرق كما تتلاقى فيه الأرواح. وهناك، بجوار معهد القلب، سيقف التمثال كأبٍ ينتظر أبناءه. وكرمزٍ يُنبهنا إلى أن البطولة لا تكون فقط فى ساحات الحرب، بل فى غرف العمليات أيضًا.
«ثقافة الامتنان.. وشهادة الوطن..».. هكذا تحدث الدكتور أحمد فؤاد هنو وزير الثقافة. مرددا بقوله: «الشباب بحاجة إلى قدوات حقيقية». لذا اختارت الدولة المصرية أن تقوم بتجسيد ذالك فى تمثال لا يمنحنا شعورا بالاندهاش الفنى فقط، بل ليخلق داخلنا سلاما وجدانيا حقيقيا. فهناك رموز تُعلّمك كيف تحب بلدك دون صخب، كيف تُنقذ دون أن تُطالب، كيف تُصبح ضوءًا دون أن تصرخ: أنا المصباح. «الثقافة ليست إبداعًا فنيًا فقط، بل أيضًا وفاءٌ للذين أضاءوا طريق الآخرين». إنها كلمات ليست للزينة، بل لمهمة تجديد الثقة فى الوطن وفى الذين يَصنعونه بعرقهم وهدوئهم.
وفى الاحتفالية، وقف الدكتور خالد عبد الغفار، وزير الصحة والسكان، ليقول ما لا يقال كثيرًا فى المشهد الرسمي: «إنه تكريمٌ لروح التفاني..». مؤكّدًا أن «يعقوب» لم يبنِ مستشفى فقط، بل بنى نموذجًا. وأنه لا يداوى القلب المريض فقط، بل يرعاه بعد الشفاء، ويُبقيه مُعلّقًا بحلمٍ أكبر. أما المهندس عادل النجار، محافظ الجيزة، فتحدّث عن ميدان «الكيتكات» لا كموقع جغرافي، بل كقلب المدينة التى ستعود إليها الحياة. مؤكداً على وضع خطة تطوير شاملة، وعقد بروتوكولات تعاون بين وزارة الثقافة والمحافظة. واهتمام جاد بأن يكون التمثال وسط بيئة تستحقه.
وهنا يتدخل الجهاز القومى للتنسيق الحضارى برئاسة المهندس محمد أبو سعدة مرددا بقوله: «نعمل على إعلاء قيم الجمال والامتنان فى الفراغات العامة؛ ليكون التمثال بمثابة نقطة إشعاع ثقافى وبصرى وروحي..».
«حين تتحول القدوة إلى مجسم».. تلك كانت بعضا من كلمات الفنان عصام درويش بصدق النحاتين: «ليس المهم الشكل.. بل الجوهر». فالنحت لا يُجسّد الجسد فقط، بل يُجسّد الحضور. وتمثال مجدى يعقوب لن يُخلّد ملامحه، بل رحمته. لن يكرر ملامح شخص، بل سيختصر سيرة.
فعندما يمضى الزمن، وتكبر المدينة، ويتغير الميدان ألف مرة. سيظل التمثال باقيا هناك، كما سيبقى «يعقوب» مكانه فى القلب.
