اتهامات متبادلة بين تركيا وإسرائيل فى شهرنا الجارى، فكلّ منهما يريد فرض الوصاية فى سوريا، ويعملان على زعزعة جهود الأمن والاستقرار فى الداخل السورى، هل ستتحول سوريا من ساحة للصراع بين أطيافها الداخلية المختلفة إلى ساحة صراع بين قوى غربية تريد فرض نفوذها وقوتها لتربح اقتصاديًا وسياسيًا وتخسر سوريا؟
أذكر مقالى فى جريدة الأخبار العريقة منذ عام 2019، وكان بعنوان «غزو سوريا.. أسباب غير معلنة»، وقتها تحدثت عن الدور التركى الحقيقى والهدف من تواجده فى سوريا، لم ينصف التاريخ المدعين مهما توارت الحقائق، فالتاريخ كالقاضى لا يحيد ولا يضلل ولا يجامل، ستظل المشاريع الإقليمية أكبر نكبة دخيلة على الدول العربية التى سلمت سلطتها نفسها لأهوائها الشخصية دون النظر لمصلحة البلاد العُليا ومصلحة الشعوب التى أتت بهؤلاء الحُكام، وكانت سوريا إحدى ضحايا هذا الفكر الشخصى والتابع لأهواء أجنبية بعيدة عن الداخل السورى.
سوريا المأزومة قبل وبعد سقوط النظام السورى الذى تمثل فى حقبة «الأسد» -لم تعد سوريا كما كانت قبل عام 2011، التى عانت وعاصرت جهودا دولية لحل الأزمة فى سوريا ووقف النزيف الداخلى، أُسدل عليها قرارات أممية؛ منها 2254 لعام 2015 الذى نص على العمل لإيجاد حلول سياسية لإنهاء الصراع الداخلى وخروج القوات الأجنبية التركية منها والأمريكية، وذلك مع استمرار العمليات العسكرية ضد التنظيمات الإرهابية «تنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة»، وبعدها توالت اجتماعات الأستانة التى تخطت الـ16 اجتماعا حتى عام 2021 بشأن سوريا، وفى النهاية لم تحقق سوى أهداف تخدم مصالح الجميع، ما عدا سوريا.
وأتت نهاية عام 2024 ليسقط نظام الأسد وتحكم المعارضة وتتوغل إسرائيل فى الداخل السورى، والجميع يعرف مَن هى إسرائيل، رغم اتفاقية فك الاشتباك المبرمة بين سوريا وإسرائيل منذ عام 1974، فإن دولة الكيان هى أكبر نقيض للعهد والميثاق وضرب القوانين والمعاهدات بعرض الحائط، فتوغلت إسرائيل داخل المنطقة العازلة والقنيطرة وجبل الشيخ بذريعة إنشاء المنطقة العازلة بين الأراضى السورية وهضبة الجولان السورى المحتلة من إسرائيل فى الأصل، وشنّت غارات جوية على مناطق متفرقة فى سوريا أكثر من 480 غارة، ودمرت ما يقرب من 80 فى المائة من الأسلحة الاستراتيجية السورية وأماكن الجيش السورى.
إلى أن وصلنا لهذه الأيام ولصراع الهيمنة على سوريا وتبادل الاتهامات بين تركيا وإسرائيل، إن كلا منهما يريد السيطرة على سوريا وزعزعة جهود الاستقرار، ووجهت تركيا صراحة خطابًا لإسرائيل تحثها على الانسحاب من سوريا والكف عن عرقلة جهود إرساء الاستقرار، وذلك بعد أن صعّدت إسرائيل غاراتها الجوية على سوريا؛ اتهامًا منها لتركيا بمحاولة وضع سوريا تحت وصايتها.
وصرحت وزارة الخارجية فى أنقرة: «أصبحت إسرائيل أكبر تهديد للأمن فى المنطقة وأن إسرائيل مزعزعة للاستقرار الاستراتيجى وتسبب الفوضى وتغذى الإرهاب»، وكأن التوغل الإسرائيلى الذى يهدد الاستقرار الاستراتيجى لا تراه تركيا إلا بتوغل إسرائيل فى سوريا، رغم أن إسرائيل تنتهك حق لبنان وحق فلسطين بتوغلها وضرباتها غير المشروعة على مدار عقود، ولكن للأسف يبقى المشروع الإقليمى والمصلحة هى المتحدث الأول هنا دون الاكتراث بالقضية الحقيقية، وهى حق الشعوب فى تحقيق المصير والحفاظ على الأمن القومى والإقليمى، ومنهما يأتى الاستقرار الاستراتيجى.
وكأن إسرائيل لا تعرف سوى النار المستمرة التى تشعلها فى المنطقة، وتستمر فى غاراتها الجوية على سوريا، معلنة أنها هجمات تحذيرية للسلطات الجديدية فى دمشق، واتهمت أنقرة بمحاولة فرض وصايتها ومنها البحث عن قوة عسكرية متحدة بين تركيا والسلطة الجديدة، ويستمر شبح الأقليات والحجة السوداء بإعلان إسرائيل استعدادها لحماية الأقلية الدرزية. وقال يسرائيل كاتس، وزير الدفاع الإسرائيلى: «إن الغارات الجوية وقعت رسالة واضحة وتحذيرا للمستقبل بأننا لن نسمح بالمساس بأمن دولة إسرائيل».
والعجب كل العجب من تبجّح إسرائيل، هل الأراضى التى توغلت فيها بعد سقوط نظام بشار أصبحت أراضى إسرائيلية وتريد تأمينها من السلطة السورية الحاكمة الجديدة والنفوذ التركي؟ بل زايدت إسرائيل بأن لديها مخاوف على لبنان ومناطق أخرى، وباتت المحاسبة على نية حكومة الشرع وحكومة أردوغان من إسرائيل برغبتهم فى التوغل التركى فى سوريا.
ويتحدث الطرفان، تركيا وإسرائيل، وكأن سوريا أصبحت لاجئة كدولة بعد أن حاول الجميع مساعدة ملايين اللاجئين السوريين للعودة إلى وطنهم سوريا التى عاهدناها قبل كل هذه التدخلات وقبل اندلاع ربيع الظلام العربي.
وبعد إعلان أحمد الشرع الرئيس السورى الانتقالى أن يتم عمل الدستور السورى بعد 4 سنوات أو أكثر كفترة انتقالية، استمراره فى ملاحقة فلول النظام السابق لتقديمهم للمحاكمة، وبالفعل دارت اشتباكات دامية بين قوات الأمن وفلول النظام السابق فى اللاذقية وطرطوس، قائلًا للفلول: «اقترفتم ذنبا لا يُغتفر.. سلّموا سلاحكم قبل فوات الأوان»، مؤكدًا أن الفلول يريدون تقويض الأمن فى البلاد، وأن سوريا الجديدة واحدة موحّدة، ولا فرق فيها بين سلطة وشعب، وباتت السلطة الحاكمة تحمل همّ الفلول أكثر من توغل إسرائيل ومساعى تركيا.
وكما عاهدنا من دولتنا المصرية الحكيمة، أدانت انتهاك إسرائيل للسيادة السورية، وأعلنت الخارجية المصرية فى بيان رسمى إدانة مصر بأشد العبارات الغارات الإسرائيلية الأخيرة على عدة مواقع فى الأراضى السورية، واصفة إياها بأنها انتهاك صارخ جديد للقانون الدولى وتعدٍّ سافر على سيادة الدولة السورية واستقلالها ووحدة وسلامة أراضيها استغلالًا للأوضاع الداخلية فى سوريا.
وطالبت مصر الأطراف الدولية الفاعلة بالاضطلاع بمسئوليتها تجاه التجاوزات الإسرائيلية المتكررة وإلزام إسرائيل بإنهاء احتلالها للأراضى السورية واحترام اتفاقية فك الاشتباك لعام 1974.
ستظل الدولة المصرية بقيادتها الرشيدة الداعمة للسلام والأمن والاستقرار، القادرة على مواجهة التحديات فى ظل مختلف الظروف الصعبة وبالغة التعقيد، منارة للوطن العربى، بوصلة لاستقرار الشرق الأوسط، موقفها ثابت لا يتغير، وهو دعم الدولة الوطنية ومؤسساتها، والعمل على الاستقرار، وحق الشعوب فى تحقيق المصير، والسعى الدائم للتنمية دون أطماع خارجية أو التعدى على حقوق الآخرين، والحفاظ على قضايا الدول العربية الشقيقة دون المساس بسيادتها.