رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

بعد ثلاثة آلاف عام.. جداريــات قصــر المــلك أمنحتــب الثـالـث تخـــــرج إلــى النــــور


22-9-2025 | 12:15

.

طباعة
تقرير: أمانى عبد الحميد

للمرة الأولى منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة تخرج مجموعة جداريات قصر الملك «امنحتب الثالث» إلى النور كى يستمتع بجمالها الجميع. تطل داخل إحدى قاعات المتحف المصرى بالتحرير بشكل غير مسبوق بعد خضوعها لعمليات ترميم دقيقة وشاملة. ضمن معرض يكشف عن عالم ملكى ملون لا يراه عامة البشر، ظل حكرا على الملك المعظم وحاشيته النبيلة.

 

داخل القاعة التى تحمل رقم «13» التى تقع خلف تمثال الملك «أمنحتب الثالث» وزوجته الملكة «تى» اللذين يتصدران قاعات المتحف المصرى المطل على ميدان التحرير. هناك تتناثر لوحات جدارية ملونة غاية فى الروعة والجمال. وتقف شاهدة على مدى عظمة حكم الملك «أمنحتب الثالث» أحد أعظم ملوك الأسرة الثامنة عشرة من الدولة الحديثة. وتكشف عن ملامح فنون عصر العمارنة التى تعتبر من أجمل ما تركه المصرى القديم من كنوز. تحوى طيورا مهاجرة مرسومة فى وضعيات طيران واستراحة، تحاكى ما كان يراه المصرى على ضفاف النيل. وأزهار اللوتس والبردي، رمزى الحياة والتجدد فى العقيدة المصرية. إلى جانب الزخارف الهندسية المتداخلة بألوان زاهية، والتى تكشف عن دقة فائقة فى التصميم وانعكاس لفلسفة الملك «أمنحتب الثالث» الذى أراد أن يحيط نفسه بالبهجة والسرور. وأن يجعل من قصره مكانا للحياة لا للموت. فى تناقض واضح مع ما نراه فى مقابر وادى الملوك المجاورة.

لذا كان لابد أن تكون مجموعة الجداريات الملكية من أوائل المقتنيات القيمة التى تخضع لأعمال ترميم دقيقة، ويتم عرضها ضمن مشروع تطوير المتحف المصرى لإبراز كنوزه الأثرية وفق أحدث المعايير العالمية للعرض المتحفى وتعزيز دوره كمنارة ثقافية بارزة على المستويين المحلى والدولي. وذلك بالتعاون مع عدد من الجهات العلمية والمؤسسية.

كما أنها المرة الأولى التى يتم عرض الجداريات مجتمعة فى مكان واحد. حيث ظلت متفرقة على عدد من قاعات المتحف المصري. لكن مع تنفيذ مشروع تطوير المتحف، خضعت اللوحات الملكية لأعمال ترميم دقيقة على اعتبارها من أهم مقتنياته الفنية جمالا وقيمة، بالتعاون مع جامعة «ميونيخ» الألمانية وبتمويل من مركز البحوث الأمريكى بالقاهرة. لتخرج المجموعة الفريدة من اللوحات الجدارية التى تم العثور عليها وسط قصر الملك بمنطقة «الملقطة» غرب مدينة الأقصر فى أواخر القرن التاسع عشر. حيث نظم المتحف معرضا لها، وقام بافتتاحه الدكتور محمد إسماعيل الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار، والسيد أندرياس فيدلر المسئول عن الشئون الخارجية بالسفارة الألمانية فى القاهرة.

لكن من أين أتت تلك اللوحات البالغة الجمال. حكايتها بدأت على ضفاف البر الغربى للأقصر. وسط منطقة هادئة تُعرف باسم «ملقَطَة»؛ حيث يطل قصر ملكى باذخ الثراء شيده ملك ليس كغيره من ملوك مصر القديمة قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام. ترك من بعده تراثا وعمارة وحضارة مثيرة للدهشة والخيال حتى يومنا هذا. إنه قصر الملك «أمنحتب الثالث» أحد أعظم ملوك الأسرة الثامنة عشرة. القصر الذى تمتد حدوده لتصل إلى مدينة «هابو» الجنائزية بشكل غير اعتيادي. حيث كان المصرى القديم يسكن الشرق ويدفن موتاه فى الغرب. واعتاد الملوك بناء القصور والمعابد والمبانى الدنيوية فى الضفة الشرقية من طيبة. فى حين كانت الضفة الغربية من النيل مخصصة للمبانى الجنائزية والمقابر ومنها مقابر وادى الملوك ووادى الملكات. الملك «أمنحتب الثالث» أراد أن يترك للعالم صورة مختلفة عن الملكية المصرية. ونجح فى تصوير الجمال والبهجة والفخامة المعمارية داخل قصر الفخيم.

كما أن عصر الملك «أمنحتب الثالث» ليس كسائر عصور الملوك. إنما امتاز بالرخاء والرفاهية. يرعى الفنون والعمارة. بل كان بمثابة «العصر الذهبي» للحرفيين سواء كانوا مبدعين أو نحاتين يشكلون الحجر أو الخشب، أو رسامين وصناع خزف أو معادن. بل بلغ التعبير الفنى أوجه فى عهده. وكانت ورش الملك مصدر كل الإبداعات التى غمرت مصر وانتشرت ما وراء حدودها أيضا.

لذا استحق الملك «أمنحتب الثالث» أن يحمل لقب «الملك الذهبي» بجدارة. حيث عاشت مصر فى عصره فترة ازدهار غير مسبوقة من حيث الثروة والنفوذ الدولى والفن. وحرص على بناء القصور الفخمة، والمعابد الضخمة، والتماثيل العملاقة، ومثلت سنوات حكمه العصر الذهبى للدولة الحديثة. وبالتالى فإن قصره يجسد ذروة الرفاهية الملكية، ليس فقط كمكان إقامة، بل كمدينة ملكية مترامية الأطراف.

واليوم، تخرج جداريات هذا القصر الملكى من الظلام إلى النور. ويقوم المتحف المصرى بعرضها بشكل كامل للمرة الأولى بعدما ظلت حبيسة المخازن على مدار عقود طويلة خوفا من تعرضها للتلف. إلى أن جاء قرار خضوعها للترميم وإقامة معرض خاص بها. كشهادة حية على استمرار المتحف المصرى لمهامه كمؤسسة ثقافية تعليمية على حد تعبير «إسماعيل» والذى ردد قائلا: «المتحف المصرى لن يموت.. وهو أقدم المتاحف المصرية ولا يزال واحدا من أهم المؤسسات الثقافية على مستوى العالم منذ افتتاحه عام 1902..»؛ حيث ظل على مدار أكثر من قرن يمثل الوجهة الرئيسية لمختلف الزائرين من المصريين والأجانب. كما ظلت مقتنياته الأثرية الفريدة مرجعا أساسيا للمتخصصين فى علم المصريات ومحبى الحضارة المصرية القديمة على حد سواء.

كما أكد «إسماعيل» أن المعرض الأثرى جاء نتيجة التزام مصر بحماية تراثها وآثارها وإعادة إحياء سرد قصص ملوكها للأجيال الحالية والقادمة. والذى يمثل نقلة نوعية فى عرض القطع الأثرية. حيث لم يعد العرض المتحفى يقتصر على استعراض التماثيل الضخمة أو القطع الجنائزية أو الحلى والأقنعة. بل بات يسلط الضوء على العمارة والفن والحياة الملكية. مشيرا إلى خضوع المتحف لأعمال تطوير شاملة تستهدف تحديث قاعاته وسيناريو العرض المتحفي. مؤكدا على أهمية الحفاظ على استمرارية دوره الحيوى فى المشهد الثقافى المصرى والعالمي. والأهم هو الحفاظ على طابعه التاريخى العريق. وتطوير وسائل العرض بما يواكب المعايير الدولية ويعزز تجربة الزائرين. كما أكد «إسماعيل» أن افتتاح المتحف المصرى الكبير فى الأول من نوفمبر المقبل لن يُقلل من أهمية متحف التحرير أو يحد من مكانته.

والمعرض يأتى ضمن المرحلة الثانية من مشروع تطوير المتحف. حيث أوضح الدكتور على عبد الحليم مدير عام المتحف المصرى أن اللوحات «تتميز بألوانها الزاهية وتصاميمها الفنية غير التقليدية، وكانت تزين جدران وأرضيات وسقوف القصر الملكى، مما منحها قيمة تاريخية وفنية استثنائية..». واصفا إياها بأنها «أيقونة فن العمارنة.. أثرت بشكل كبير فى ملامح فنون عصر الملك إخناتون فيما بعد..». مضيفا أن المعرض يضم قطعا أثرية مميزة، من بينها تمثال الكاتب الشهير «أمنحتب بن حابو»، ورأس الملكة «تي»، وإناء يحمل اسمها، وذلك فى إطار عرض متكامل يبرز السياق التاريخى للمنطقة.

فى حين يصف أندرياس فيدلر ممثل السفارة الألمانية فى القاهرة المعرض بأنه «تتويج للتعاون الثقافى العميق بين مصر وألمانيا.. وتجسيدًا لقيمة التراث المصرى بوصفه إرثا عالميا مشتركا..». ويساهم فى تعزيز التبادل الثقافى والمعرفى بين الشعبين المصرى والألماني.

كما أشارت الدكتورة ياسمين الشاذلى نائب مدير مركز البحوث الأمريكى بالقاهرة، الجهة التى قامت بتمويل مشروع ترميم اللوحات الجدارية الملكية، بأنها لم تكن معروفة من قبل عصر الملك «أمنحتب الثالث»، وبالتالى تعتبر ذات قيمة فنية عظيمة لا مثيل لها.

وقدمت كل من الدكتورة ريجينا شولتز الأستاذ الزائر والدكتورة مارتينا أولمان أستاذ علم المصريات بجامعة ميونخ الألمانية عرضا تفصيليا عن تاريخ الجداريات ومراحل ترميمها منذ بدء الدراسات العلمية وحتى الانتهاء من ترميمها بالكامل وعرضها بالقاعة.

والقصر وما يحويه من فنون لم يكن معروفا للعالم إلا مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. عندما بدأت البعثات الأجنبية فى عمليات التنقيب وسط البر الغربى لمدينة الأقصر. والتى أكدت أن قصر الملك لم يكن مخصصا للسكنى فقط بل كان مسرحا لاحتفالات عيد «السد». وهو طقس ملكى فريد تتم إقامته بمناسبة مرور ثلاثين عاما على اعتلاء الملك العرش. ثم يتكرر بعدها كل ثلاث سنوات. وفيه يجدد الملك قوته الروحية والسياسية أمام الآلهة والشعب.

وفى هذا السياق تمت ولادة جداريات القصر؛ كى تكون جزءا أصيلا من الأجواء الاحتفالية. وبالرغم من ألوانها الزاهية الأزرق، الأحمر، الأخضر، إلا أنها لم تكن مجرد زخرفة جمالية. بل عكست روح التجدد والحياة. حتى الطيور المرسومة على الجدران بدت وكأنها تملأ القصر بأصواتها. بينما تتدلى زهور اللوتس والبردى؛ لترسم مشهدا طبيعيا دائم الخضرة داخل القاعات المغلقة. كما سجلت اللوحات صورا لأسرى مقيدى اليدين ومرسومة على الجص الملون. ويبدو من ملامحهم وملابسهم أن أصولهم ليست مصرية. وهى اللوحات التى عثر عليها جورج دارسى فى عام 1888 على أرضية درجين يؤديان إلى قاعة العرش الملكى داخل القصر. تلك الزخارف التى ترجع لعصر الأسرة الثامنة عشرة، توثق كيف كان شكل قصور ملوك مصر.

وهو ما كشفته أعمال الحفائر العلمية التى قام بها على سبيل المثال، الأمريكى جورج رايزنر الذى وصف القصر بأنه «ليس مجرد بناء سكنى بل مدينة ملكية متكاملة». ثم بعثة المتحف المتروبوليتان بنيويورك التى رأت أن اللوحات الجدارية هى أبهى الأمثلة على فنون الزخرفة فى مصر القديمة. ثم تولت البعثة اليابانية التابعة لجامعة «واسيدا» أعمال التنقيب والترميم منذ السبعينيات؛ حيث كشفت عن أجزاء واسعة من التخطيط المعمارى للقصر. والتى وصفتها بأنها شهادة حية على براعة الفنان المصرى القديم. إلا أن بناء القصر بالطوب اللبن جعل أجزاء منه تتآكل مع الزمن. لكن الجداريات الملونة ظلت صامدة رغم هشاشتها نظرا لطريقة صناعتها من طبقات الجص الملون، والرسم بألوان طبيعية مستخرجة من معادن وأكاسيد.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة