فى مطلع هذا الأسبوع، أثارت التصريحات التلفزيونية للدكتور محمود محيى الدين، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لتمويل التنمية، جدلًا واسعًا فى الأوساط الاقتصادية والسياسية المصرية. فخلال مقابلة مع قناة العربية بزنس، أشار بوضوح إلى أن الاقتصاد المصرى ظل خلال العقد الماضى محكومًا بمنطق إدارة الأزمات، وأن الوقت قد حان للانتقال إلى برنامج اقتصادى جديد مختلف عن برامج صندوق النقد الدولى التقليدية. هذه التصريحات لم تمر مرور الكرام، بل دفعت كثيرين إلى تأويلها باعتبارها دعوةً إلى وقف التعاون مع الصندوق أو إعلانًا عن فشل البرنامج الحالي. غير أن التدقيق فى مضمونها يظهر أن الرجل لم يكن بصدد إعلان قطيعة أو تقويض لما تحقق، بل كان يؤكد على أن المرحلة النقدية والمالية، على أهميتها، لم تعد كافيةً وأن مصر بحاجة إلى انتقال إلى مسار أشمل وأكثر استدامة. هنا يكمن الفارق الجوهرى بين انتهاء البرنامج كمسار طبيعى وبين فشله كحكم قاطع.
ولكى نفهم هذا الجدل، لا بد أن نعود إلى تجربة مصر مع الصندوق فى التسعينيات. ففى عام 1991، دخلت مصر فى برنامج إصلاح اقتصادى بالتعاون مع صندوق النقد والبنك الدولى بعد أن تجاوزت ديونها الخارجية خمسين مليار دولار، مع تضخم يربو على العشرين فى المئة وعجز مزمن فى الموازنة. خلال سنوات قليلة تحقق استقرار نقدى ملحوظ، فانخفض التضخم إلى أقل من عشرة فى المئة، وتم تثبيت سعر الصرف، كما أُعيدت جدولة الديون بما خفف من عبء خدمتها. كان ذلك النجاح بمثابة شهادة على فاعلية البرامج النقدية فى علاج الأعراض الأكثر إلحاحًا. لكن النجاح لم يمتد إلى عمق الاقتصاد. فالإيرادات الضريبية بقيت ضعيفةً عند حدود أربعة عشر فى المئة من الناتج المحلى، مقارنة بمتوسط ثمانية عشر إلى عشرين فى المئة فى الاقتصادات الناشئة المشابهة، وظلت بصمة الدولة طاغية، بينما استنزف دعم الطاقة حتى ثمانية فى المئة من الناتج فى بعض السنوات. ومع مرور الوقت تآكلت المكاسب، وعادت مصر إلى دائرة العجز والاقتراض، لتظهر حالة ما يمكن تسميته بإرهاق الإصلاح، أى فقدان الزخم والتراجع تحت وطأة الضغوط الاجتماعية والسياسية وتناقض الأولويات.
المشهد تكرر فى العقد الأخير. فبرنامج 2016 مع الصندوق أتاح انفراجًا مرحليًا، حيث تم تحرير سعر الصرف، وارتفعت الاحتياطيات إلى أكثر من أربعين مليار دولار، ونجحت الحكومة فى تحقيق فائض أولى تجاوز اثنين فى المئة من الناتج وتقليص عجز الموازنة. لكن كما حدث فى التسعينيات، بقيت المعضلة الهيكلية دون معالجة حقيقية. فالاستثمار الخاص ظل ضعيفًا عند حدود عشرة إلى اثنى عشر فى المئة من الناتج، أى أقل من نصف المتوسط فى الأسواق الصاعدة، بينما ظلت الصادرات غير النفطية محدودة دون عشرين مليار دولار لسنوات طويلة. صحيح أن البطالة انخفضت فى الإحصاءات الرسمية، لكن التشغيل ظل معتمدًا على توسع حكومى ومشروعات كبرى أكثر مما هو قائم على ديناميكية سوق حرة. وهكذا عادت مصر إلى ما وصفه د. محيى الدين باقتصاد إدارة الأزمات، أى نجاحات مالية مؤقتة لا تكفى لتأسيس نمو تنافسى أو تنمية مستدامة.
وجوهر المشكلة أن مصر فى معظم محطاتها الإصلاحية لم تكمل الطريق للنهاية. فالإصلاحات النقدية والمالية، مثل تحرير سعر الصرف وضبط الموازنة وتحقيق فائض أولى، عادة ما تنفذ بجدية فى بدايات البرامج، لكن الشق الهيكلى المتعلق بإصلاح بيئة الأعمال وتوسيع القاعدة الإنتاجية وتقليص بصمة الدولة وتحفيز الاستثمار الخاص سرعان ما يتعرض للتباطؤ أو التراجع. هذه الظاهرة ليست جديدة، ففى التسعينيات توقفت مصر عند نجاحات الاستقرار النقدى دون أن تحقق تعبئة ضريبية كافية أو تنوعًا إنتاجيًا، وفى 2016 كررت التجربة نفسها، حيث تحقق انفراج مالى مؤقت دون انطلاقة حقيقية للصادرات أو للاستثمار الخاص. وحتى اليوم يتكرر المشهد ذاته: نصف الكلام ينفذ، بينما النصف الأهم، الهيكلى والتنموى، يبقى مؤجلًا أو مجتزًا. وبهذا تصبح العلاقة مع الصندوق أشبه بترتيب نصف إصلاح، نجاح فى السيطرة على الأزمات قصيرة الأجل، يقابله فشل فى بناء قاعدة نمو طويلة الأمد. وهو ما يفسر استمرار مصر فى حالة من إرهاق الإصلاح، حيث تتكرر الدورات نفسها بلا انتقال نوعى.
يزيد الصورة تعقيدًا أن الاقتصاد المصرى تحول تدريجيًا إلى نموذج هجين ريعى. فعوائد النقد الأجنبى تعتمد على تحويلات العاملين التى تتجاوز ثلاثين مليار دولار سنويًا، وإيرادات قناة السويس التى تقارب سبعة إلى ثمانية مليارات، وعائدات السياحة التى تتأرجح بين خمسة عشر وسبعة عشر مليارًا فى سنوات الذروة، وأخيرًا القروض الخارجية. هذه التدفقات، على أهميتها، ليست نتاج إنتاجية محلية بالمعنى الكامل، بل أقرب إلى ريع خارجى قائم على الموقع الجغرافى والديموغرافى. وهى لذلك عرضة للتقلبات، فحادث إرهابى أو أزمة مالية عالمية كفيلان بإحداث صدمة مباشرة فى تدفقات السياحة أو الأموال الساخنة. وبهذا المعنى ظلت السياسة المالية رهينة للتقلبات الخارجية، ولم تستطع أن تتحرر منها عبر قاعدة إنتاجية أو تصديرية قوية.
الخلط بين مفهومى انتهاء البرنامج وفشله هو لبّ الجدل الحالى. فبرنامج الصندوق يقاس بمدى نجاحه فى تصحيح الاختلالات المالية والنقدية، لا بقدرته على إطلاق تنمية شاملة. وإذا كانت مصر قد نجحت فى تحقيق بعض الأهداف، من ضبط العجز إلى السيطرة على السوق السوداء للعملة، فهذا يعنى أن البرنامج أدى وظيفته، لكن الإصلاحات الهيكلية التى تعهدت بها الحكومة عادة ما تتراجع أو تتباطأ. ولذلك فإن الانتقال إلى برنامج وطنى جديد لا يعنى أن البرنامج السابق فشل، بل يعنى أن مصر بحاجة إلى مرحلة أخرى أشمل وأطول مدى قادرة على معالجة التحديات البنيوية.
أبرز ما شدد عليه د. محيى الدين أن مصر تمثل أكثر من 1.3فى المائة من سكان العالم، بينما لا يتجاوز اقتصادها 0.3فى المائة من الناتج العالمى. هذه الفجوة الصارخة تعنى أن الاقتصاد أقل من وزنه الطبيعى بأربع مرات. ولردم هذه الفجوة تحتاج مصر إلى مضاعفة اقتصادها خلال جيل واحد، بمعدلات نمو حقيقية تتجاوز سبعة فى المئة سنويًا لسنوات متتالية. وهذا لا يمكن أن يتحقق بالاقتراض أو بالتحويلات وحدها، بل بالاستثمار الخاص، وبالتصدير، وبالتوسع فى قاعدة إنتاجية قادرة على المنافسة.
الرؤية البديلة التى يطرحها محيى الدين تقوم على التحول من الاستدانة إلى الاستثمار، وتغيير الأولويات بحيث يصبح خفض تكلفة التمويل وتمكين القطاع الخاص وتحسين بيئة الأعمال وتوجيه الإنفاق العام نحو التعليم والصحة والبنية التكنولوجية وتنمية المحافظات أدوات أساسية لبناء اقتصاد تنافسى قادر على الصمود أمام الصدمات الخارجية. بكلمات أخرى، المطلوب تمرد على منطق إدارة الأزمات لصالح بناء اقتصاد إنتاجى تنافسى يملك مقومات النمو المستدام.
لكن الطريق ليس سهلًاً. الدين المحلى تجاوز ثمانية تريليونات جنيه بفوائد تقترب من خمسة وعشرين فى المئة، ما يعنى أعباء خدمة ديون بمئات المليارات سنويًا. واردات الغذاء ما زالت تمثل نحو ستين فى المئة من الاستهلاك، ما يجعل الأمن الغذائى رهينة للأسواق العالمية. إنتاج الغاز، رغم الطفرات السابقة، بدأ يتراجع، ليزيد من هشاشة ميزان الطاقة. هذه كلها أعباء ثقيلة، لكنها فى الوقت ذاته تذكير بأن الإصلاح الهيكلى لم يعد ترفًا بل ضرورة وجودية.
تصريحات د. محمود محيى الدين التلفزيونية مطلع الأسبوع ليست دعوة للخروج عن السياق، بل هى تشخيص صريح للحظة فارقة: إما أن تستمر مصر فى الاعتماد على برامج صندوق النقد وإدارة الأزمات، أو أن تكتب عقدًا اقتصاديًا جديدًا يركز على الاستثمار والإنتاج والعدالة الاجتماعية. الجدل الدائر بين مَن يرى فى تصريحاته إعلان فشل، ومَن يراها دعوة إلى مسار جديد يعكس سوء فهم لطبيعة البرامج نفسها. فالفشل لم يحدث، لكن النجاح الجزئى لم يعد كافيًا. مصر تحتاج اليوم إلى ما يتجاوز الاستقرار المالى، إلى ما يبنى اقتصادًا يليق بدولة تشكل أكثر من واحد فى المئة من سكان العالم، ويجب أن يكون اقتصادها فى المكانة ذاتها على خريطة الناتج العالمى.