رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

دلالات المكان / الحارة في رواية (عصر الحب)

12-8-2025 | 14:44

د. ناهد الطحان

طباعة
د. ناهد الطحان

في أعمال نجيب محفوظ تمثّل «الحارة» أكثر من مجرد فضاء جغرافي أو خلفية درامية؛ فهي كائن حي يتنفس بالحنين، ويحمل في طياته التاريخ والبراءة وأحلام الشباب، كما أنه الملاذ الآمن والخلاص الوجودي لشخصيات رواياته .

فالحارة عند محفوظ هي مركز التواصل بين الفرد والمجتمع، حيث تتشابك الأقدار والأماني، فتتجلّى العلاقات الاجتماعية بصدقها وقسوتها، وتتجلّى الانقسامات الطبقية من خلال الأبنية المتجاورة والروابط التي تقرب النفوس أو تباعدها.

وتنبثق من الحارة رمزية مزدوجة الأولى تمثّل الحماية والدفء والوعي الجمعي والانتساب إلى جذورٍ أصيلة تتشكل من خلال قراءة العالم، والثانية تُضمر الحصار والضيق والجمود . 

ففي ثلاثية «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية»، نجد البطل  يحتضنه جدار الحارة القديمة، فينصهر بين دفء ذكرياته الطفولية وصراعاته النفسية؛ إذ تصير الحارة مُقوِّم هويته، لكنها في الوقت ذاته تُلقى بثقل التقاليد على كاهله، فيتحوّل الشغف والتمرد إلى حرمان دائم .

أمّا في «اللص والكلاب»، فتتحول الحارة إلى مسرح للانكسار والانتقام، عندما يطارد سعيد مهران خصومه منتقما، لتكشف الحارة عن وجهها كشبكة من التواطؤ والخيانة وساحة للمحاكمة بل ومقصلة تودي بحياة البؤساء من أبنائها .

وفي «أولاد حارتنا» يبلغ محفوظ ذروة الرمزية حين يبتعد عن وصف الحارة الواقعية إلى كونها نموذجًا للإنسانية جمعاء، فتصبح مضمارًا لصراع الخير والشر، ومادةً أسطورية يُعيد تشكيلها لينسج منها أسطورة الفرد في مواجهة التابوهات، رغبة في الوصول إلى الحقيقة .

فالحارة عند نجيب محفوظ تخرج عن المعنى المألوف لتشكل رمزٍا متعدد الأوجه كذاكرة ومأوى حينا أو كمنطقة صراع وقلق للروح البشرية حينا آخر . وهي بذلك تمنح القارئ تجربةً متكاملة تتداخل فيها الحكاية مع رمزية المكان وعمقه الاجتماعي والفلسفي، فالحارة لدى نجيب محفوظ تعد نموذجًا مصغّرًا للمجتمع المصري بكل تناقضاته .

وتُعدّ رواية عصر الحب (1980) واحدة من أبرز روايات نجيب محفوظ التي تجمع بين البنية التقليدية للسرد العربي المتمثلة في الحارة الشعبية، وبين رؤية حداثية تتأمل التحولات النفسية والاجتماعية لمجتمع شخصياتها وقيمها وأعرافها التي تتعامل بها . 

ففي عصر الحب، تستمر هذه الحارة في أداء هذا الدور، لكن بأبعاد أكثر تعقيدًا، فهي ليست مجرد إطار جغرافي، بل تمثل الوعي الجمعي بكل ما يحمله من سلطة التقاليد، والقيم الأبوية، والرقابة الاجتماعية، والذاكرة المتوارثة.

وقد حققت الحارة وظيفتها الدرامية عندما تحولت لساحة للصراع في رواية عصر الحب لنجيب محفوظ، حيث ركز منذ البداية على الحارة بأجوائها وتفاصيلها الموحية، كمنطقة تمركز للأحداث وكرمز دال على التحولات التي تصيب الشخصيات منذ بداية الرواية وحتى النهاية .

فالحارة تمثل في الرواية سياجًا نفسيا واجتماعيا يحيط بأبطال الرواية، وبخاصة البطل (عزت)، الذي يقضي حياته في أسر المنزل الذي يمثل الشرنقة التي أحاطته بها أمه الست عين، عبر التدليل المتواصل والخوف على وحيدها بعد أن ترملت، فيكون الخروج للحارة طوق النجاة من هذه الشرنقة رغم خوف الست عين على ابنها، فهي تحمل بالنسبة له عالما من السعادة عبر عشقه لبدرية الفتاة الفقيرة التي تساعد الست عين أسرتها ومرتعا للعب مع حمدون صديقه الوحيد . 

ويُجسّد لنا محفوظ الصراع الداخلي للشخصيات من خلال علاقتها بالحارة، فالبطل الذي يعيش في تناقض بين عشقه الجارف لبدرية منذ الطفولة وبين خضوعه الاضطراري لقيم الحارة، يعاني تمزقًا وجوديًا، فتتحول الحارة إلى رمز نفسي، إذ تمثل ضمير المجتمع الذي يراقب ويسائل، ويضع حدًا للمشاعر والانفلات.

 فالحارة ليست مكانًا محايدًا، بل تملك سُلطة تُجبر الأفراد على الاختيار بين رغباتهم الفردية والانتماء للجماعة، وهو ما حدث مع حمدون وبدرية عندما هربا معا ليتزوجا، إذ مثل ذلك خروجا عن تقاليد الحارة بل وفضيحة كبرى تلوكها الألسن، فضلا عن خيانة حمدون لصديقه عزت رغم أنه  يعلم منذ الطفولة حبه لبدرية، مما شكل صدمة نفسية ووجودية لدى عزت لرفض بدرية له وحبها لحمدون وزواجها منه  .

وعلي الرغم من أن الخارج أو المدينة - الذي يمثله هنا شارع عماد الدين والساحل وغيرها من شوارع مصر الحاضنة للفن في تلك الفترة من أوائل القرن العشرين - يعد بالنسبة لأبطال الرواية الحلم الذي يحقق لهم ما يتمنون من النجاح والشهرة سواء بالنسبة لحمدون أو بدرية أو حتى لعزت - الذي انقاد إلى هذا الطريق مضطرا كي يظل بجوار بدرية - إلا أنه يعبر بقوة عن حالة التيه والاغتراب والقلق المتصاعد الذي يصيب هذه الشخصيات بل ويودي بهم إلى طريق مجهول، إذ يسجن حمدون جراء جريمة قتل وتنهار بدرية لتنتهي كصاحبة ملهى ليلي مثل عزت، كما يمثل هذا الخارج انهيارا في علاقة عزت بأمه الست عين وخروجه عن طاعتها، فيترك زوجته وابنه سمير كي يكون بجوار معشوقته بدرية، يعاني حبا مستحيلا لا فرار منه أبدا، ربما لرغبة جامحة في التحرر من شرنقة أمه وخوفها الشديد عليه والذي شكل طوقا ملازما له طوال حياته، أوربما انتقاما منها بعد أن رفضت أن يتزوج من بدرية لتكون من نصيب حمدون صديقه المقرب الذي خانه بالزواج من حبيبته وتركه لهواجسه ورغبته في الانتقام منه.

فالحارة بالنسبة لحمدون وبدرية هي موطن أحلامهما ووجودهما، وعندما اضطرا إلى العودة إليها مع السيرك، أصبحت معادلا للتحرر من الإثم الذي ارتكباه في نظر أهل الحارة؛ لأنها الآن أصبحت زوجته وليس لأحد أية سلطة عليها، وهو ما كان يريد حمدون تأكيده كميلاد جديد لهما، في الوقت الذي تمثل الحارة لعزت دلالة مزدوجة ففي مرحلة طفولته مثلت الحرية التي كان يعيشها بجوار بدرية يلعبان، كما مثلت أيضا القيود المفروضة عليه والحرمان من محبوبته لأنها حجب عنه رؤيتها من حين لآخر بعد أن أصبحا في سن الشباب ولم يعد بمقدوره أن يراها وفقا لتقاليد الحارة الشعبية، كما حرمته من الزواج من بدرية بعد أن رفضت الست عين أن يتزوجها لأن أمها مزواجة وسوف تصبح ابنتها مثلها وفقا للمعتقدات الشعبية، وهو ما تفاقم بهروب بدرية مع صديقه حمدون، لتظل الحارة أزمته الكبرى فيخشى العودة إليها بعد أن خرج منها ليكون بجوار بدرية طوال الوقت بل إنه يشتري مسرحا من مال أمه دون أن تعلم كي يحقق أمنيتها هي وحمدون، فيخرج بذلك عن طوعها بعد أن أوهمها أنه يدير مشروع تجاري، ولهذا يخشى العودة كي لا تلومه على تصرفاته وعقوقه واهماله لزوجته ولإبنه .

وتوالت الأحداث والتوترات المتصاعدة الذي شكل فيها المكان بطلا رئيسيا سواء من بيت الست عين إلى الحارة أو من عماد الدين إلى الحارة ، حيث يمثل بيت الست عين الحضن والملاذ لعزت الذي هجر أمه وزوجته وابنه في مقابل الحارة التي تمثل الحرية المشروطة؛ عبر فشله في التقرب من بدرية ورفض أمه الزواج بها فالحارة لم يكن لها معنى لديه دون بدرية، بينما تكتسب الحارة بالنسبة لعماد الدين معنى أكثر حميمية وقوة فهي ترمز للخلاص لعزت وحمدون وبدرية، حيث يتوق عزت للحارة ولأمه وابنه بعد سنوات من الغربة، لكنه يخشى لوم أمه له على أخطائه المتكررة، بينما تمثل بالنسبة لبدرية وحمدون براءة الطفولة والشباب والحب العذري والتأكيد على حبهما بعد هروبهما وزواجهما بعيدا عن الحارة، ليشهد الخارج الفشل حينا والنجاح حينا وينتهي بالوحدة والفراق بينهما.

كما نجد أن الحارة هي منطقة اهتمام الست عين منذ اللحظة الأولى، لترمز لشخصيتها المعطاءة للجميع وخاصة الفقراء، حيث تقدم العطايا لأهل الحارة البسطاء وتقف بجوارهم وتساهم بكل ما تستطيع من أجلهم لهذا فقد كسبت حبهم وثقتهم فيها، فهي سيدة ثرية مرموقة على حد وصف نجيب محفوظ .

وهذه الحارة التي شهدت كرامات الست عين وعطائها هي نفس الحارة التي يدور من خلالها الصراع بين طبقتين فيها، الطبقة التي تمثل الست عين الثرية التي تملك أغلب بيوت الحارة والتي تشتبك مع الحارة من خلال ابنها عزت المدلل، وطبقة عائلة حمدون عجرمة وبدرية المناويشي وهي طبقة فقيرة تقوم الست عين بإمدادها بالمال وبكل ما تستطيع من مساعدة لحبها للخير، بل إن حمدون صديق طفولة عزت يحظى برعاية الست عين وتساعده في استكمال تعليمه .

هذا التناقض بين الطرفين هو ما مثل جوهر الصراع الدرامي الإجتماعي والنفسي في الرواية، في الكتّاب حيث يذهب عزت كي يتعلم على يد الشيخ العزيزي الذي أجزلت له الست عين العطاء وأوصته أن يعامل ابنها المدلل معاملة خاصة تليق بابن الست عين ووحيدها، فيقابل حمدون وسيدة وبدرية التي ينبهر بجمالها، وفي الحارة التي كانت مرتعا للعب عزت مع أصدقائه بعد توسلاته لأمه، التي كانت تخشى عليه من أي شيء.

وهنا تصبح الحارة شاهدة على علاقة عزت بحمدون وبدرية وسيدة، فيرحب عزت باللعب مع حمدون وبدرية بينما يرفض اللعب مع سيدة، وهو ما يشكل ميله الخاص لبدرية التي تكبر أمامه شيئا فشيئا كحلم جميل يتراءى أمام عينيه ولا يستطيع الإمساك به، وفي مرحلة الشباب عندما يتقدم لبدرية أحدهم للزواج بها يجن جنون عزت ويطلب من أمه أن تخطبها له، فتصدم الست عين لأن أم بدرية كانت قد اكتسبت سمعة سيئة في الحارة بزيجاتها الكثيرة وأن ذلك لا يليق بأسرة الست عين، فيشعر عزت بالضياع وهو الابن المدلل الذي يحصل على ما يريد وقتما يريد، ليستلم خطابا بعدها من حمدون يخبره فيه أنه هرب مع بدرية ليتزوجا بعيدا عن الحارة، ليمثل الخروج من الحارة بالنسبة لهما تحقيقا لحلمهما بالتلاقي والحب.

هنا تصبح الحارة مصدرا لقلق عزت وتوتره وخوفه المستمر بعد هروب بدرية وحمدون، كما يضطر للزواج من سيدة صاغرا بأمر من أمه بعد أن اكتشفت أنه أساء لشرفها، وينجب منها سمير ابنه، ورغم ذلك فإنه يعامل سيدة معاملة سيئة لكنها تتحمل فوق طاقتها من أجل حبها له ومن أجل الست عين، التي تهون عليها هذه القسوة وتحاول تبريرها رغبة في تهدئة سيدة .

أما عزت فإنه لا ينسى اساءة حمدون له التي هزت كيانه هزا ، رغم أن حمدون كان يعي تماما مشاعر عزت وحبه الشديد لبدرية، لهذا اعتبر ما قام به حمدون خيانة كبرى لا يمكن المسامحة فيها.

ويشكل عودة حمدون وبدرية للحارة وقيامهما بتمثيل مشاهد مسرحية من خلال السيرك - الذي يضطرون للعمل به من أجل لقمة العيش بعد أن فصل حمدون من عمله - فصلا آخر من من فصول المواجهة والصراع بعد أن كانت سببا لسعادة حمدون وبدرية  لتصبح مصدرا لشقائهما وانفصالهما، حيث يحاول عزت أن يتقرب لحمدون من أجل بدرية بل ويشاركه في مسرح يقدم فيه حمدون مسرحياته المؤلفة ويمثل هو وبدرية فيه.

أما الست عين التي ترملت وهي مازالت في أوج جمالها ورفضت أن تتزوج مرة ثانية من أجل ابنها، فقد أدركت أنها صنعت منه ابنا عاقا يهجر أمه بغية حرية اختيار حياته متمردا عليها، فيترك المنزل واصفا إياه بالسجن الذي يخنق إرادته وحريته، فتبكي الأم ابنها الذي هجرها وهجر زوجته سيدة وابنه سمير من أجل أن يكون إلى جوار بدرية حبه المستحيل، فتفقد بصرها من كثرة البكاء وتفقد السمع أيضا. 

ويتورط حمدون في قتل يوسف راضي المحامي الذي يجمعه به جماعة أبناء الغد  التي تجاهد ضد الإحتلال الإنجليزي والملك ويسجن لسنوات طويلة، ويترك بدرية وحيدة فتتزوج من ثري دون أن يدري عزت ليعيش حرمانا جديدا ويشعر برفضه مرة أخرى، وفي قفزة زمانية تالية يتعرض عزت لأزمة قلبية ويشعر برغبة شديدة في رؤية ابنه سمير الذي التحق بمدرسة الهندسة، كما يخرج حمدون من السجن ويذهب إلى عزت محتضنا إياه، لكن عزت يعترف بأنه من أبلغ عنه الشرطة، ويطلب من حمدون في يأس أن يوقع عليه أي عقاب يريحه، في محاولة منه للتكفير عن ذنبه ربما ينجو ابنه سمير من السجن بعد أن قبض عليه لأنه عضو من أعضاء جماعة أبناء الغد، لكن حمدون يحتقر ما فعل عزت ويصاب بصدمة كبيرة وينصرف باحثا عن بدرية الذي يخبره عزت أنها أصبحت امرأة عجوز مخرفة.

لتبقى الحارة ظلا مشتركا في حياة كل شخصيات الرواية وتمثل الخلاص بالنسبة لعزت، فعندما يعاني المرض ويسجن ابنه يشعر بأنه الجزاء الذي يستحقه بعد أن تسبب في غضب أمه عليه، فيقرر أن يبيع الملهى الليلي الذي يملكه، ويعود إلى الحارة / الأمان / الأم مرة أخرى رغبة في إكتساب الخلاص والغفران، فيجد أمه وقد أصبحت كفيفة وصماء فلا تتعرف عليه، وتموت دون أن تعلم أنه عاد ودون أن تسامحه، وهي نهاية قاسية ومؤلمة، تؤكد على العدالة الشاعرية وضرورة معاقبة الظلم وإثابة الخير، ويتبدى لنا عنوان الرواية (عصر الحب) كتيمة ساخرة من واقع شخصياتها التي انقادت وراء أهوائها دون جدوى.

وبهذا فقد أضفى نجيب محفوظ  على الحارة هالة سحرية تُشبه القدر، وهي التي تصوغ مصير أبطالها وتعيدهم إلى حضنها مهما حاولوا الهرب كملاذ آمن لهم، ليتجاوز الفضاء السردي الوظيفة الواقعية للمكان، ويمنح الحارة دلالة وجودية عميقة، تجعل من الرواية نصًا فلسفيًا متخفيًا في رداء واقعي بسيط، فهي تجسد المصير المحتوم والعودة للجذور.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة