لا تقتصر حرب الرسوم الجمركية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين على جر الاقتصاد العالمى إلى ركود، بل تتنافسان أيضًا بشراسة متزايدة فى مجال الذكاء الاصطناعي. ومن يمتلك أكبر نظام بيئى للذكاء الاصطناعى سيضع المعايير العالمية لهذا القطاع، ويجنِ فوائد اقتصادية وعسكرية واسعة. لكن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب يواجه معارضة متزايدة على جبهات متعددة، بسبب قرار إدارته السماح لشركة إنفيديا ببيع شرائح «H20» إلى الصين، وهى خطوة يرى منتقدوه أنها قد تمنح بكين أفضلية فى سباق تطوير الذكاء الاصطناعي.
حتى الآن، تعد الولايات المتحدة رائدة فى تقنيات الذكاء الاصطناعي، لكن هذا لا يعنى بالضرورة أنها ضمنت الفوز فى هذا المجال. لذلك، دعت مجموعة من مسئولى الأمن القومى السابقين والمدافعين عن سياسات التكنولوجيا وزير التجارة هوارد لوتنيك إلى التراجع عن هذا القرار، فى رسالة بتاريخ 28 يوليو الماضي، حيث أعرب العديد من الديمقراطيين وجمهورى بارز واحد على الأقل عن مخاوفهم بشأنه. ووصفت الرسالة القرار بأنه «خطوة استراتيجية خاطئة» تهدد التفوق الاقتصادى والعسكرى للولايات المتحدة فى الذكاء الاصطناعى -وهو مجال يُنظر إليه بشكل متزايد باعتباره مفتاح القيادة العالمية فى القرن الحادى والعشرين. وأشارت الرسالة إلى أن بيع شرائح “H20” للصين يُفاقم أزمة الشرائح التى تعانى منها الشركات الأمريكية حاليًا، فضلاً عن إمكانية استخدامها فى دعم عمليات الجيش الصيني. كما زعمت أن الشريحة ليست قديمة كما يُروج، ولا تزال قادرة على تسريع قدرات الصين فى هذا القطاع، مع الحد من عدد الشرائح المتوفرة فى السوق الأمريكية.
وتأتى هذه الانتقادات على خلفية سماح الحكومة الأمريكية لشركة إنفيديا ببيع شرائح «H20» إلى الشركات الصينية، وهى شرائح ضرورية لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. وكان الحظر السابق يهدف إلى منع تدفق الشرائح المتقدمة إلى الصين، بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومى. ويأتى هذا الاستئناف ضمن مفاوضات أوسع مع الصين، تشمل عناصر الأرض النادرة والمغناطيسات. وتشير تقارير منفصلة إلى أن إنفيديا رفعت إنتاج شرائح «H20»، وطالبت المصانع بأكثر من 300 ألف شريحة جديدة، بعد ارتفاع الطلب من الشركات الصينية، وفقًا لما أكده وزير التجارة هوارد لوتنيك.
وتحدث الدكتور أحمد عبده طرابيك، الباحث فى الشئون الآسيوية، قائلاً إن بعض الأخبار التى ترد من حين لآخر عن إنجازات الصين تُشير إلى صعودها الثابت نحو قمة القيادة العالمية. ففى الوقت الذى تكاد فيه أوروبا واليابان تتوقفان عن مواكبة التطورات التقنية الحديثة، نجد الصين باتت المنافس الرئيسى للولايات المتحدة فى هذا القطاع. وعلى الرغم من وجود فارق كبير لصالح أمريكا، فإن سرعة التقدم الصينى أكبر. فإذا شبهنا الأمر بسباق بين قطارين، فإن القطار الأمريكى يتقدم الآن، لكن القطار الصينى يسير بسرعة أكبر، ما يعنى أنه سيلحق به ويتجاوزه فى وقت لاحق، نتيجة لعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية متعددة.
وجاء الإعلان عن الصعود المفاجئ لتطبيق الذكاء الاصطناعى الصينى «ديب سيك»، الذى تصدر متاجر التطبيقات وأثار قلق المستثمرين حول العالم، خاصة فى الولايات المتحدة، ليفتح بذلك فصلًا جديدًا من فصول المنافسة المحتدمة بين بكين وواشنطن. ويؤيد ذلك عدد من الخبراء والمراقبين الذين يتوقعون وصول الصين إلى قمة الريادة العالمية فى وقت قريب، ربما قبل عام 2050.
وأشار الدكتور طرابيك إلى أن تأثير تطبيق «ديب سيك» تجاوز كونه مجرد برنامج ذكاء اصطناعي، بل فتح المجال لإعادة تقييم كثير من الفرضيات، مثل افتراض احتكار الولايات المتحدة للتفوق التقنى والاستثمار فى الابتكار، وهى فرضيات باتت محل تساؤل. فظهور هذا التطبيق يُعيد النظر فى مفهوم «التفوق التقني» الأمريكى القائم على الاستثمارات الضخمة فى الرقائق الإلكترونية، ويُثبت أن الصين تستطيع تجاوز القيود الأمريكية بالاعتماد على حلولها الداخلية. إذ نجحت الشركات الصينية الناشئة فى إيجاد طرق مبتكرة لاستخراج أكبر قدر ممكن من منتجات الذكاء الاصطناعى من الشرائح المتاحة لديها، وبذلك فإن السياسات الأمريكية -بحسب قوله- لم تخنق الابتكار الصيني، بل حفزته.
ويرى «طرابيك» أنه إذا واصلت الصين تطوير تقنيات عالية الكفاءة بتكاليف منخفضة كما هو الحال مع «ديب سيك»، فمن المتوقع أن تشهد السنوات القادمة تفوقًا صينيًا ملحوظًا. خاصة مع اتجاه الاستثمارات الصينية فى الذكاء الاصطناعى إلى بلوغ 120 مليار دولار بحلول عام 2027، بعدما كانت 50 مليارًا فى عام 2023 فقط.
ومن جانبه، يرى الكاتب والمحلل السياسى الصينى، نادر رونجووهان، أن سماح ترامب لشركة «إنفيديا» ببيع رقائقها لم يكن بهدف دعم الابتكار الصيني، بل لتقييده. وأضاف أن هذا القرار لا يمنح الصين قدرات إضافية بقدر ما هو محاولة للتحكم فى توقيتات تطورها. لكنه أشار إلى أنه لا يمكن فرض حواجز أمام تقدم الذكاء الاصطناعي.
وأوضح «نادر» أن الرئيس التنفيذى لإنفيديا، هوانغ جنسن، صرح بأنه لولا شركته، لكانت شركات صينية مبتكرة وشركات رقائق إلكترونية أخرى قد غطت هذا السوق. وأكد أن العديد من مزوّدى خدمات الحوسبة السحابية فى الصين يطورون رقائقهم الخاصة، كما أن هناك شركات صينية كبرى مثل هواوى تمثل منافسًا قويًا له، ويتوقع أن تستمر هذه المنافسة لسنوات مقبلة.
