أين تعطلت اتفاقية أغادير؟
القصة بدأت عندما فوجئ عدد من المصدرين المصريين، خصوصًا فى قطاعات الصناعات الغذائية، والسجاد، والكيماويات، بتوقف شحناتهم فى الموانئ المغربية، دون صدور قرار رسمى أو إشعار مسبق من السلطات المغربية. تراكمت الحاويات، وبدأت الشكاوى تتوالى على الأجهزة المصرية المعنية، ما دفع هيئة سلامة الغذاء لتعليق إجراءات الفحص المسبق على البضائع المصدّرة إلى المغرب، فى خطوة نادرة تعبّر عن عمق الأزمة.
أولًاً: جذور الخلاف الفنى
الجانب المغربى، فى روايته، لم يُخفِ تحفظه من مدى التزام بعض المنتجات المصرية بقواعد المنشأ التى تُعد شرطًا جوهريًا للإعفاء الجمركى بموجب اتفاقية أغادير، وتتطلب هذه القواعد أن تحتوى السلعة على نسبة تصنيع محلى لا تقل عن 40 فى المائة، إلا أن السلطات المغربية اعتبرت أن بعض المنتجات المصرية لا تفى بهذا الشرط، أو أن شهادات المنشأ الصادرة بشأنها لا تعكس القيمة المضافة الحقيقية داخل مصر.
فى المقابل، أكد المصدرون المصريون، مدعومين ببيانات من التمثيل التجارى ووزارة التجارة، أن المنتجات الموقوفة مطابقة تمامًا للشروط الفنية المتفق عليها، وأن ما يحدث هو فرض قيود غير جمركية لأسباب غير واضحة، تشمل فحوصات مكررة، ومتطلبات إضافية فى الوثائق، وتأخيرات إدارية تؤدى إلى رفع تكلفة التصدير وإرباك سلاسل التوريد.
الأزمة كشفت أيضًا عن غياب آلية فعالة لتفسير القواعد الفنية عند الخلاف. فعوضًا عن وجود لجنة تحكيم مشتركة أو آلية فض نزاعات مفعّلة داخل سكرتارية أغادير، تُرك الأمر للتقديرات المحلية لكل طرف، مما زاد من التباين فى الفهم والتطبيق، وحوّل الاتفاقية من وثيقة مُلزمة إلى مساحة رمادية تخضع للإرادة السياسية أكثر من النص القانونى.
ثانيًا: خلل فى الميزان التجارى وقراءة مغربية مختلفة
على مدار السنوات الأخيرة، سجّلت التجارة البينية بين مصر والمغرب نموًا مطّردًا، لكن دائمًا لصالح الجانب المصري. ففى عام 2024 وحده، بلغت صادرات مصر إلى المغرب نحو مليار دولار، مقارنة بصادرات مغربية لا تتجاوز 80 مليون دولار فقط إلى السوق المصرية، هذه الفجوة الكبيرة دفعت بعض الأصوات داخل المغرب إلى المطالبة بإعادة النظر فى «عدالة» التبادل التجارى.
الأزمة الأخيرة لم تكن مجرد إجراء جمركى فنى، بل جاءت على خلفية هذا التفاوت الهيكلى فى الميزان التجارى، مع تصاعد ضغوط من قطاعات إنتاجية مغربية، مثل قطاع السجاد ومركّز الطماطم، التى طالبت بحماية صناعتها من ما تعتبره إغراقًا مصريًا غير عادل. وبالفعل، سبق للمغرب أن فرض رسومًا وقائية على واردات السجاد المصرى بنسبة 35فى المائة، وهى خطوة أثارت حينها تحفظًا مصريًا لكنها لم تُسفر عن تحرّك مؤسسى مضاد.
فى خلفية هذا التصعيد أيضًا، توجد ملفات غير اقتصادية بحتة. فالمغرب يرى أن مصر تُبطئ دخول منتجات صناعية مغربية مثل السيارات، رغم أن المغرب يعد اليوم من أكبر مصدّرى السيارات فى إفريقيا، ولديه طموح لدخول السوق المصرية بقوة تحت مظلة أغادير، وهو ما لم يُقابل حتى الآن بسياسات فتح واضحة من الجانب المصرى.
ثالثًا: تحرك دبلوماسى دون اختراق تنفيذى
أمام التصعيد المتبادل، أوفدت الحكومة المصرية وزير الاستثمار والتجارة الخارجية، المهندس حسن الخطيب، إلى الرباط فى نهاية فبراير 2025، فى زيارة رسمية استمرت يومين، التقى خلالها نظيره المغربى رياض مزور ومسئولين آخرين فى الحكومة المغربية، الزيارة هدفت إلى إعادة بناء الثقة، وإعادة تنشيط الآليات المؤسسية المجمدة، واستكشاف سبل فنية لحل المشكلات العالقة.
ورغم أن الأجواء العامة للزيارة كانت إيجابية، وأفضت إلى توافق على عقد منتدى أعمال مشترك، إلا أن النتائج على المستوى التنفيذى بقيت محدودة، فلم يتم التوصل إلى آلية فنية ملزمة لفض النزاعات، ولا إلى جدول زمنى واضح لتسوية العوائق التنظيمية، بل بقى الوضع معلّقًا عند مستوى «التهدئة الدبلوماسية» دون تحوّل مؤسسى ملموس.
اللافت فى هذه الأزمة أنها كشفت ليس فقط عن خلل فى العلاقة التجارية، بل عن ضعف البنية المؤسسية لاتفاقية أغادير نفسها، إذ لا توجد حتى اللحظة لجنة تسوية نزاعات فعالة داخل سكرتارية الاتفاق، ولا تُرفع الخلافات إلى مرجعية فنية مستقلة، بل تُدار بين الجهات التنفيذية بصورة ثنائية، ما يجعل كل أزمة محتملة بمثابة سابقة قابلة للتكرار.
رابعًا: مقترحات للحل وبناء الثقة المؤسسية
حتى لا تتحول اتفاقية أغادير إلى إطار شكلى فاقد للجدوى، لا بد من اتخاذ سلسلة من الإجراءات المؤسسية الكفيلة بمنع تكرار هذه الأزمة، وتحويل الاتفاق من مظلة نظرية إلى أداة تشغيل حقيقية.
أولًا: ينبغى إنشاء لجنة ثنائية دائمة بين مصر والمغرب، على مستوى وزيرى التجارة، تضم ممثلين فنيين من هيئات الجمارك والمواصفات والغرف التجارية، وتجتمع بشكل منتظم لمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق، وتفسير الخلافات الفنية بشكل مباشر، مع صلاحيات تقريرية واضحة.
ثانيًا: لا بد من تفعيل آلية تحكيم تجارى داخل سكرتارية أغادير نفسها، تكون مستقلة، ويُتفق على مرجعيتها من جميع الأطراف، بحيث يمكنها البت فى النزاعات التفسيرية حول قواعد المنشأ، أو الشهادات، أو المواصفات، دون أن يُترك الأمر لتقدير سلطات كل دولة منفردة.
ثالثًا: من الضرورى إطلاق خارطة طريق للاعتراف المتبادل بالمواصفات الفنية والصحية، تشمل القطاعات ذات الأولوية، وتُدار بشكل تدريجى ومبنى على الثقة، على غرار ما تطبقه التجمعات التجارية الكبرى مثل الاتحاد الأوروبى.
وأخيرًا: ينبغى إعطاء القطاع الخاص دورًا أكبر فى إدارة العلاقات التجارية، عبر تأسيس مجلس أعمال دائم بين مصر والمغرب، يُنظّم زيارات ميدانية ولقاءات تبادلية، ويُقدّم تقارير نصف سنوية حول العقبات على الأرض، باعتبار أن المصدر الحقيقى لأى اتفاق تجارى ناجح هو ممارسة اقتصادية فعالة وليست نصوصًا مجمدة.
تُعد الأزمة التجارية الأخيرة بين مصر والمغرب لحظة كاشفة. فهى لا تعكس فقط إشكالية فى بند أو سلعة، بل تُشير إلى تحدٍ أوسع متعلق بكيفية تحويل الاتفاقيات العربية من إطارات شرفية إلى أدوات اقتصادية مُفعّلة، وإذا لم تستطع دولتان بحجم مصر والمغرب أن تتوافقا على قواعد منشأ أو مواصفة فنية أو آلية مراجعة، فكيف يمكن الحديث إذًا عن سلاسل قيمة إقليمية أو تكامل إنتاجى حقيقى؟
إن التحدى ليس فى التوصل إلى اتفاقيات جديدة، بل فى صيانة وتنفيذ ما هو قائم بالفعل، ووضع آليات حاسمة تضمن التطبيق العادل والشفاف والمتوازن، فما لم يتحول الخطاب السياسى حول التكامل العربى إلى منظومات تنفيذ مؤسسية تُدار بالكفاءة والمرونة، ستظل أى أزمة تجارية مجرد مقدمة لأزمات أكبر قادمة.
