فى تصريح لا يبدو مفاجئًا، بل كان شبه متوقع، طرح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خطة لما وصفه بأنه «تطهير» غزة، قائلاً إنه يريد من مصر والأردن استقبال الفلسطينيين من القطاع، من أجل إحلال السلام فى الشرق الأوسط.
الحديث عن هذا الأمر بدأ فى هذه المرحلة كأنه حديث عشوائي، غير مدروس وغير مخطط له، فقد حرص ترامب على أن يوضح أن هذه ليست فكرة عشوائية جاءته للتو، فقال: «إننا نتحدث عن 1.5 مليون شخص لتطهير المنطقة برمتها. كما تعلمون، على مر القرون، شهدت هذه المنطقة نزاعات عديدة. لا أعرف ولكن يجب أن يحدث أمر ما». وقال ترامب إن نقل سكان غزة يمكن أن يكون «مؤقتًا أو طويل الأجل»، مضيفًا «إنها مكان مدمر حرفيًا الآن، كل شيء مدمر والناس يموتون هناك». وتابع: «لذا، أفضّل التواصل مع عدد من البلدان العربية، وبناء مساكن فى مكان مختلف، للعيش بسلام».
ليست هذه هى المرة الأولى التى يطرح فيها ترامب أفكارًا من هذه النوعية. سبق أن طرح أفكارًا مماثلة فى فترة ولايته الأولى، فاصطدمت بالواقع على الأرض.
هذه الأفكار ليست غريبة على ترامب ولا على الحزب الجمهوري، الذى خرجت من جعبته فكرة إعادة رسم حدود دول الشرق الأوسط وإعادة تقسيم جغرافيتها، بما يشجع التوسع الإسرائيلي. ولهذه الأفكار أسباب سياسية ودينية واقتصادية.
على المستوى السياسى تعبر هذه الأفكار عن رغبة قطاع كبير من الناخبين الأمريكيين الذين يعتبرون مصوتين تقليديين للحزب الجمهوري، وخاصة فى الساحل الغربى الأمريكي، الذى يضم قطاعًا كبيرًا من الطائفة الإنجيلية الافنجليكانية الداعمة لإسرائيل بشكل تقليدي.
على المستوى الدينى يؤمن قادة الحزب الجمهورى (ظاهريا على الأقل) بالعقيدة الافنجليكانية التى تؤمن بأن القدوم الثانى للمسيح سيكون بعد حروب طاحنة تجرى فى الشرق الأوسط. وهم فى هذا يتفقون فى جزئية معينة مع العقيدة المسيحانية التى طورتها طائفة من الإسرائيليين، والتى ترى أن القدوم الأول للمسيح المخلص اليهودى سيكون فى ظروف مماثلة. وبالتالى فقد تحالفت العقيدتان للدفع باتجاه قدوم المسيح، لكى يحدد هو بنفسه ما إذا كان هذا سيمثل القدوم الأول أم الثانى له. ويمكن أن نفهم ذلك، على سبيل المثال، من تصريح السيناتور الجمهورى ليندسى جراهام فور إعلان إسرائيل الحرب على غزة، ودون انتظار تبلور الموقف الرسمى لبلاده بأن «هذه حرب دينية، وسوف نقف إلى جانب إسرائيل فيها».
أما على المستوى الاقتصادى فهناك أمران:
أولاً: فى العقد الأخير اكتُشف أمام شاطئ غزة حقل غاز عملاق يقدر احتياطى الغاز فيه بنحو 1.4 تريليون قدم مكعب، كما يرجح الخبراء أن تكون غزة بالكامل عائمة على حقل من الغاز يماثل حجم حقل الغاز القطرى الرئيسي. كما يرجح أن تحتها حقل بترول تقدر احتياطياته بنحو 1.2 تريليون برميل. وقد كانت هذه الاحتياطيات التى صاحبها العجز فى الغاز الوارد إلى الغرب من الحقول الروسية سببا فى دعم حرب إسرائيل على غزة من جانب ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، التى تطمع كل دولة منها فى جزء من هذه الغنيمة. ولا يخفى علينا بالطبع أن الولايات المتحدة تتواجد حيث تتواجد الثروات. وتشهد على ذلك حربها ضد العراق بزعم وجود أسلحة دمار شامل، والتى شهد ترامب نفسه أثناء حملته الانتخابية بأنها كانت حربًا أُقيمت على الكذب والتزوير ولم يكن لها أى مبرر، وكذلك تواجد الجيش الأمريكى فى مناطق حقول النفط السورية. ولدينا أمثلة تاريخية مثل حرب فيتنام وحرب كولومبيا وغيرهما، وكلها كانت حروبًا للاستيلاء على الثروات الطبيعية للدول الأخرى.
ثانيًا: أضيف إلى هذه الغنيمة الاقتصادية الكبيرة غنيمة أخرى عقارية تعتبر غنيمة شخصية للرئيس ترامب وتتماشى مع أعماله الخاصة، وهى فى الواقع غنيمة عقارية. ظهرت هذه الغنيمة كنتيجة مباشرة لسياسة الإبادة الجماعية الإسرائيلية، التى تسببت فى تدمير نسبة تجاوزت 70فى المائة من المبانى والمنشآت فى غزة، لتكشف عن مساحة هائلة من الأرض المطلة على البحر المتوسط، والتى تصلح للاستثمار العقاري. يرغب الرئيس ترامب بشكل شخصى أن يبنى ناطحات سحاب على غرار تلك الموجودة فى دبى فى غزة، وذلك من خلال التعاون مع الملياردير إيلون ماسك، صاحب موقع إكس (تويتر سابقا)، لإقامة مجموعة مدن ذكية هناك مكان المدن الفلسطينية التى يسعى إلى إزالتها تمامًا.
بناء على ذلك، فإن تصريح ترامب بأن خروج الفلسطينيين من غزة ربما يكون مؤقتًا وربما يستمر لفترة طويلة، هو نوع من التلاعب، نظرًا لأن النية مبيتة لأن يكون خروج الفلسطينيين من غزة دائمًا.
يرغب ترامب بهذا التصريح فى تقديم ما يعتقد بأنه حبل نجاة للنظامين الأردنى والمصرى فى مواجهة شعبيهما فى حالة تجاوبهما معه بدافع الخوف، حيث يفترض أن يزعما أنه تم الاتفاق على أن تكون مغادرة الفلسطينيين لغزة مؤقتة إلى حين الانتهاء من إعمارها.
ويبدو أن ترامب نسى أو يتناسى أن القيادة المصرية سبق أن رفضت هذا الحل عندما قيل إن الإخوان قبلوه، فكان هذا سببًا للثورة على نظام الإخوان والإطاحة به ليأتى نظام سياسى يضع الجيش فى مكان الصدارة حتى يحمى البلاد من أى مؤامرة من هذه النوعية. تكرر الرفض المصرى لهذا المخطط مرة أخرى مع بداية حرب غزة، عندما قال رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو ومجموعة من وزراء حزبه وعدد من القادة السياسيين وقادة الاستيطان فى إسرائيل إن هدف الحرب هو طرد الفلسطينيين إلى سيناء. وحينها أيضًا انتهج نتنياهو نفس السبيل فادعى أن طردهم سيكون مؤقتًا، غير أنه فى تصريحات داخلية بأن من يخرج من غزة لن يكون مسموحًا له بالعودة. وبالتالى كانت القيادة المصرية أكثر حرصًا من الفلسطينيين على الإغلاق الكامل للحدود بين مصر وغزة رغم كل الضغوط العسكرية والسياسية الواقعة على الفلسطينيين.
الجديد هنا هو من ناحية أن إدارة ترامب الجديدة تعهدت بتقديم «دعم ثابت» لإسرائيل من دون عرض تفاصيل سياستها فى الشرق الأوسط. أكد ترامب أنه أمر وزارة الدفاع الأمريكية بالإفراج عن شحنة قنابل زنة ألفى رطل لصالح إسرائيل سبق أن جمدها الرئيس السابق جو بايدن. وهو فى هذا يرسل تحذيرًا ضمنيًا إلى مصر والأردن من أن الولايات المتحدة تنوى دعم إسرائيل، لو نشبت حرب كانت إحدى الدولتين طرفًا فيها.
ومن الناحية الأخرى، بدأت عناصر فى الكونجرس بإيعاز من الإدارة الأمريكية الجديدة تثير اتهامات لمصر بمخالفة معاهدة السلام عن طريق بناء تحصينات فى المناطق المحظورة فى سيناء، متناسين أمرين:
الأول أن إسرائيل هى من بدأ بمخالفة نصوص المعاهدة عندما دفعت قواتها إلى منطقة محظور تواجدها فيها، فى محور صلاح الدين (المعروف إعلاميا باسم محور فيلادلفي)، وأن قصفها طال فى بعض الحالات أماكن فى سيناء، فى انتهاك واضح لبنود المعاهدة ليس له أى مبرر. وكان من بين نتائجه على سبيل المثال مقتل الجندى المصرى عبدالله العشرى ابن محافظة الفيوم فى مايو الماضي، والتزمت مصر بضبط النفس إزاء ذلك.
ثانيًا: لا يوجد فى معاهدة السلام بند واضح يمنع إقامة أى نوع من الإنشاءات فى سيناء، ولكن هناك بنود تحدد أماكن تواجد نوعية محددة من القوات. وبالتالى فلا يوجد انتهاك مصرى للمعاهدة ولكن توجد محاولات أمريكية للضغط على مصر.
ليس من المتوقع أن تسفر المحاولات الأمريكية للضغط، سواء كانت عن طريق الكونجرس أو عن طريق الرئيس عن نجاح. فقد أصبح واضحًا للجميع أن عين الرئيس ترامب الحمراء موجهة للكاميرات بشكل أساسي، وأنه لا يرغب فى السعى لحروب تتورط فيها بلاده، خاصة مع استمرار التوتر مع إيران فى الخليج ومع تركيا فى سوريا، أضف إلى هذا أن مصر ليست من الدول التى يمكن الاستهانة بها، رغم اعتماد جانب كبير من تسليحها على النظم الغربية، ولا سيما الأمريكية. فمعروف أن مصر لديها أيضًا أسلحة روسية وشرقية يمكن أن تفيدها كثيرًا فى حالة تعرضها لتهديد. كما أنها تقوم بتصنيع منظومات دفاعية على نطاق غير معروف تمامًا للكثيرين. أضف إلى هذا أنها وقعت مؤخرًا معاهدات دفاع مشترك مع روسيا والعديد من الدول الأخرى، وهو ما يجعل محاولات الاقتراب منه مأمونة العواقب. ويتمتع هذا الجيش بدعم من ظهير شعبى يصل إلى 120 مليون نسمة، كله مستعد للانخراط فى مقاومة أى اعتداء من جانب أى دولة صغيرة أو كبيرة. وأخيرًا فإن الفلسطينيين أهالى غزة أنفسهم لن يتركوا أرضهم لترامب. ولو كانت القوة تُجدى لتركوها لإسرائيل بعد أن ألقت عليها ما يوازى قوة تدمير خمس قنابل ذرية مثل قنبلة هيروشيما. حفظ الله مصر وجيشها وشعبها وقيادتها الرشيدة وأعان جيراننا فى غزة على الصمود.