لم يأت تحقيق الميزان التجاري لسلطنة عُمان فائضًا قدرُه 3 مليارات و88 مليون ريال عُماني حتى نهاية شهر يونيو 2025م، من فراغ وإنما جاء لحكمة ورشادة خططها الاقتصادية الهادفة نحو تحقيق مستهدفات رؤية «عُمان 2040»، وفق خطط وبرامج مدروسة تَضْمن التوازن بَيْنَ النُّمو والتنويع والاستدامة.
ورغم ما شهدته عُمان خلال فترات سابقة من عجز مالي، اضطرها إلى اللجوء للاقتراض لسد الفجوات المالية، إلا أنها عملت على إدخال تعديلات جوهرية على قانون ضريبة دخل الأفراد في سياق الإصلاحات المالية المستهدفة ضمن «رؤية عُمان 2040»، التي تهدف إلى تنويع الإيرادات العامة. وكانت عمان أدخلت في عام 2021 ضريبة 5 في المائة على القيمة المضافة، وفرضت ضريبة بنسبة 100 في المائة على مشروبات الطاقة والتبغ ومشتقاته.
وبحسب البنك الدولي فإنه بفضل الإصلاحات، بدأت عُمان تجني ثمار جهودها، حيث شهدت منذ عام 2022 تحسناً ملموساً في وضعها المالي، مع انخفاض كبير في الدين العام. وأسهم التوظيف الاستراتيجي لعائدات النفط والغاز في توسيع الحيز المالي لعُمان، وتعزيز قدرتها على مواجهة الصدمات الاقتصادية الخارجية، لتصبح تجربة عُمان مثالاً يُحتذى في الإصلاح الاقتصادي والإدارة المالية الرشيدة.
وتبنت الحكومة العُمانية خطة التوازن المالي للفترة من 2020 إلى 2024 بوصفها إطاراً شاملاً لإعادة التوازن المالي وتقليل الاعتماد على إيرادات النفط. وهدفت الخطة إلى تحقيق استدامة مالية مع ضبط العجز المالي المستهدف عند 1.7 في المائة من الناتج المحلي بحلول 2024، وتنويع الإيرادات، وترشيد الإنفاق مع الحفاظ على برامج الحماية الاجتماعية. كما شملت إصلاحات في إدارة المالية العامة لتعزيز الشفافية والكفاءة، وفق البنك الدولي.
كانت عُمان قد بدأت كذلك إصلاحات تدريجية في دعم الكهرباء والمياه منذ 2021، رغم إعادة بعض الدعم في 2022 للتخفيف من آثار أزمة الطاقة العالمية. ومن المقرر إنهاء دعم الكهرباء غير الموجه بحلول 2030، بالتوازي مع زيادة مساهمة الطاقة المتجددة في توليد الكهرباء إلى 40 في المائة بحلول 2040.
وأسفرت هذه الجهود عن تحقيق فوائض مالية متتالية منذ 2022، وانخفض الدين العام من 68 في المائة من الناتج المحلي في 2020 إلى نحو 35 في المائة عام 2024. وأعاد هذا الأداء المالي القوي لعُمان تصنيفها الائتماني إلى مستوى الاستثمار «-بي بي بي» من قبل وكالة «ستاندرد آند بورز» في سبتمبر 2024.
ومع استمرار التحديات المرتبطة بتقلبات أسعار النفط، تواصل الحكومة العُمانية العمل على إصلاحات إضافية لزيادة الإيرادات غير النفطية، منها مشروع قانون ضريبة دخل الأفراد، وفرض «ضريبة الحد الأدنى» على الشركات متعددة الجنسيات بداية من العام الجاري 2025، انسجاماً مع الإطار الدولي لمنع تآكل الوعاء الضريبي.
وقد ساهم ارتفاع أسعار النفط عن المقدر في ميزانية سلطنة عمان في تعزيز إيراداتها لتفوق الإنفاق، مما حولها إلى تحقيق فائض في عام 2024، بما يعزز النظرة الإيجابية لها بعد سنوات من الإصلاح المالي.
إذ حققت السلطنة إيرادات بقيمة 12.7 مليار ريال تقريباً في 2024، بزيادة 15% عن المعتمد في الميزانية، بينما كبحت الإنفاق إلى 11.65 مليار ريال بانخفاض 4% عن المخطط، مما حول توقع السلطنة بتسجيل عجز 640 مليون ريال إلى فائض فعلي بقيمة 540 مليوناً، بحسب بيانات وزارة المالية العمانية.
ولعل البيانات الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات بسلطنة عُمان، تعكس صورة متماسكة لاقتصاد قادر على التكيُّف مع تحوُّلات الأسواق العالميَّة، دُونَ أنْ يفقدَ بوصلته الاستراتيجيَّة، إذ تظهر المؤشِّرات المالية أنَّ التراجع في بعض القِطاعات يقابله نُمو في أخرى، ما يعني أنَّ عجلة الإنتاج العُماني تَدُور في الاتجاه الصحيح الَّذي رسَمته الرؤية الوطنيَّة.
يكشف الميزان التجاري حتَّى نهاية يونيو 2025 عن فائض بلغ (3) مليارات و(88) مليون ريال عُماني، وهو رقم يعكس استمرار قوَّة موقع سلطنة عُمان في التجارة العالميَّة، رغم التراجع مقارنةً بالفترة نفسها من العام الماضي، والتراجع في عوائد النفط والغاز بنسبة (16) في المئة يشير إلى تأثيرات الأسواق العالميَّة وتقلُّبات الأسعار، لكنَّه لا يغيِّر حقيقة أنَّ الفائض التجاري ما زال قائمًا ويدعم استقرار الاقتصاد الكُلِّي، لكنَّ الأكثر لفتًا للانتباه أنَّ الصادرات غير النفطيَّة حققتْ نُموًّا ملحوظًا بنسبة (9) في المئة لِتصلَ إلى أكثر من (3.2) مليار ريال، ما يُعزِّز جهود تنويع مصادر الدخل وتقليل الاعتماد على العائدات النفطيَّة، حتَّى مع انخفاض إعادة التصدير بنسبة (6) في المئة، تبقى الصورة الكُليَّة إيجابيَّة وتشير إلى أنَّ عجلة التجارة الخارجيَّة تعمل بكفاءة، مع تزايد أهميَّة القِطاعات الصناعيَّة والمنتجات الوطنيَّة في دعم الميزان التجاري وتحقيق القِيمة المضافة للاقتصاد الوطني، وهذا الأداء التجاري يفتح الباب للنظر في بقيَّة المؤشِّرات النقديَّة والتمويليَّة الَّتي تؤكِّد أنَّ النشاط الاقتصادي يمتدُّ إلى المصارف والائتمان والسيولة الَّتي تغذِّي دَوْرة الاستثمار والإنتاج.
لعلّ مؤشِّرات السيولة والائتمان في منتصف 2025 تكُونُ الدليل الأوضح على حيويَّة الاقتصاد العُماني، وقدرته على الاستمرار في دفع عجلة النُّمو، فقَدِ ارتفعت السيولة المحليَّة بنسبة (5.6) في المئة لِتصلَ إلى أكثر من (25.4) مليار ريال عُماني، وهو ما يوفِّر قاعدة تمويليَّة متينة تُعزِّز الأنشطة الإنتاجيَّة والخدميَّة، ويُمثِّل ارتفاع عرض النقد بمعناه الضيق بنسبة (7.7) في المئة إشارة إلى مرونة الجهاز المصرفي واستعداده لدعم التجارة والعمليَّات اليوميَّة، كما يعكس نُمو الائتمان الممنوح من البنوك والنوافذ الإسلاميَّة بنسبة (8.4) في المئة ثقة القِطاع الخاص، واستعداده للتوسع في مشاريع جديدة، وهو ما يتكامل مع ارتفاع ودائع القِطاع الخاص بنسبة (6) في المئة لِيعزِّزَ الاستقرار المالي، ويخلق توازنًا صحيًّا بَيْنَ الإقراض والادخار، أمَّا التراجع الطفيف في أسعار الفائدة على القروض، فيفتح آفاقًا أكبر للمستثمرين، ويهيء بيئة ماليَّة مشجِّعة لإطلاق مبادرات جديدة، يُمكِن أنْ تدفعَ بالنُّمو إلى مستويات أعلى خلال الفترة المقبلة، خصوصًا مع ارتفاع صافي الأصول الأجنبيَّة واستقرار سعر الصرف الفعلي للريال العُماني.
المؤكد ...أن الرسالة الأبرز الَّتي تحملها هذه المؤشِّرات أنَّ الاقتصاد العُماني يسير على طريق مدروس يوازن بَيْنَ مواجهة التحدِّيات وبناء فرص جديدة، والمرحلة المقبلة تتطلب تعزيز الشراكات التجاريَّة الإقليميَّة والدوليَّة، وتوسيع قاعدة المصدرين المحليِّين، مع التركيز على القِطاعات ذات القِيمة المضافة العالية الَّتي تدعم سلاسل الإمداد وتفتح أسواقًا جديدة في آسيا وإفريقيا، ويَجِبُ أنْ يتحول دعم الابتكار والتصنيع المحلِّي إلى أولويَّة استراتيجيَّة، بحيثُ تصبح المصانع لاعبًا رئيسًا في تلبية الطلب العالمي وتوليد فرص العمل للشَّباب، كذلك فإنَّ استقرار القِطاع المصرفي ومرونة أدوات التمويل، يمنح الحكومة والقِطاع الخاص فرصة للتوسُّع في الاستثمارات النوعيَّة، بما يَضْمن استدامة الفوائض التجاريَّة حتَّى مع تقلُّبات أسواق الطاقة.
الجدير بالذكر أن فائض الميزانية هو حالة تتجاوز فيها إيرادات الحكومة أو الشركة أو أي كيان آخر نفقاته. وهو مؤشر على امتلاك الكيان أموالاً للادخار والاستثمار في الأصول، أو لتخفيض ديونه . عادةً ما ترتبط فوائض الميزانية بالأداء الاقتصادي الإيجابي، وتشير إلى قدرة الكيان على تحقيق إيرادات تفوق إنفاقه.
تتحقق فوائض الميزانية عند إدارة كلٍّ من الإيرادات والنفقات بكفاءة على مدى فترة من الزمن. تميل الإيرادات إلى الارتفاع عند وجود نمو اقتصادي قوي، مما يعزز إنفاق المستهلكين واستثمارات الأعمال، بينما يمكن أن يؤدي تحسين إدارة النفقات إلى تدابير لخفض التكاليف، مثل الاستعانة بمصادر خارجية للخدمات وزيادة كفاءة عمليات الإنتاج.
يحقق فائض الميزانية في عُمان بعض المزايا، أولها،الاستقرار المالي وهذا يُعزز قدرة الاقتصاد على الصمود في الأوقات الصعبة. وثانيها، الادخار للمستقبل، ويُعدّ هذا الاحتياطي بالغ الأهمية خلال الفترات التي قد تنخفض فيها الإيرادات أو تظهر فيها نفقات غير متوقعة، ثالثها، تمويل المبادرات الجديدة، إذ يمكن استخدام الأموال الإضافية في مشاريع أو برامج جديدة، مثل تحسين البنية التحتية، أو التعليم، أو الرعاية الصحية، والتي يمكن أن تعود بالنفع على المواطنين وتحفز النمو. ورابعها، خفض الديون: يمكن أيضًا استخدام الفائض لسداد الدين الوطني، مما يقلل من تكاليف الفائدة ويوفر الميزانيات المستقبلية لأولويات أخرى.، وأخيراً المرونة: إن وجود فائض يمنح الحكومة المزيد من الخيارات للاستجابة للتحديات الاقتصادية أو الاستثمار في الفرص عند ظهورها.
إجمالاً يمكن القول أن استمرار تحقيق الميزانية العامة لعُمان فوائض مالية، رغم المتغيرات الجيوسياسية التي يمر بها الاقتصاد العالمي، يؤكد قوة المسار الذي رسمته الدولة واستدامة الرؤية في تحقيق مستهدفاتها الوطنية ببلوغ العام 2040.
