شمس حديثة العهد بربها، تصطخب بالأمنيات، يندلع عزفها الفرحان، تلتف بغلالات مغبشة بالوجد والوجل، أستار منقوشة بالولع ولا تقر في يد الانتظار، يقذفها النداء في حضن السحاب، تدفّق خلاصات الإنبات، وهي تنفك إلى نجمات مذيلة نزقة، وشرائط حرير طفل بألوان العيد وأصوات العصافير، تظل معلقة راقصة في مدار الإشراق، باقية على عهد الرحيق، تشهد جمال التئام فريد. إنها أم كلثوم ست المصريين المَبجّلة.
معرض صوت مصر .. صوتٌ ألهم الصورة، نشهد في هذا العرض الثري استلهامًا لتلك الأنثى العليمة الطاهرة التي ترتحل في الوادي تجمع أشلاء أوزوريس وتضخ فيه الحياة من جديد، تلك التي اختبأت في أحراش الدلتا بحورس، هي العذراء من طافت الوادي بالمسيح، هي الأميرة ذات الهمة وبهية وناعسة ونعيمة، تلك التي لها عينا غزال ولها جيد غزال ولها عود كما البان ووجه كالقمر ليلة الرابع عشر كما وصفها نجيب سرور على لسان ياسين.
كشف غطاء النبع العذب الطاهر وتفتحت لنا بوابات هذا العالم الطيب العطر... عالم هذه الأيقونة.. التي تحمل السر الساري في الأصلاب منذ شق النهر المقدس بطن الأرض العفية وتفجر الخير وتشكل الوادي وانبسطت الدلتا... هذه المقدسة التي ترصّع الوجود بنت فريدة من بنات حواء تنسج أثواب الأمومة وتنثر عمارًا وأمانًا وأنسًا خصيبًا... هي إيزيس تحمل بذرة الحق وتخفيه في الأحراش حيث حتحور ترعاه، هي أم موسى يوكابد تسلم رضيعها لليم فتقر عينها ولا تحزن.. هي مريم العذراء تقطع الوادي وتختفي بالصغير المقدس... هي السيدة زينب أم العواجز وحضن المساكين... هي الأميرة ذات الهمة... هي أم المصريين وست الملاح، يا لجمالها وعنفوانها وصباها البديع... يا للبركة التي تنضح من بين أناملها على استحياء رهيف... تعطر الأثير بفعل عقلها الخلّاب وجميل نبضها الصادق.. تشكل الفضاء بأيقونات أغنياتها الساحرات ودفء عالمها الوارف.
في الثامنة من مساء الاثنين الثامن عشر من أغسطس 2025 افتُتح معرض: "صوت مصر (صوتٌ ألهم الصورة)" الذي أُقيم بمناسبة مرور خمسين عامًا على رحيل كوكب الشرق الست أم كلثوم، ذلك المعرض الذي كان نتاج الرؤية الفنية والفلسفية للفنان د. علي سعيد مدير عام مراكز الفنون، وكان البحث التاريخي والتوثيق للدكتور إسلام عاصم عبد الكريم. حيث أقيم بمجمع الفنون أو ما يعرف بقصر عائشة فهمي بالزمالك الذي تديره الدكتورة سندس سعيد، وبالتعاون مع الإدارة العامة للخدمات الفنية للمتاحف والمعارض، بمشاركات جادة وصادقة كان لها عظيم الأثر في اكتمال صورة العرض وإثرائها كمركز صندوق التنمية الثقافية ومتحف أم كلثوم ومركز محمود سعيد للمتاحف ومكتبة بلدية الإسكندرية والعديد من القاعات الخاصة وكذلك إسهامات الناقد سيد محمود والفنان محمود حمدي.
قام علي فهمي باشا شقيق عائشة فهمي ببناء القصر على الطراز الكلاسيكي في عام 1907 على يد المصمم المهندس الإيطالي أنطونيو لاشاك.
في ذلك القصر الجميل العتيق نرى كيف يتشكل الصوت في معرض صوت مصر، كيف يمكننا أن نرى الصوت؟
قدّم الفنان عبد الوهاب عبد المحسن عملاً تصويريًا تبدو فيه الست أم كلثوم تلك الأم المقدسة والسيدة الممتزجة بصورة شجرة الجميز حيث يطل وجهها بين الأغصان والوريقات في لوحة منفذة بألوان الأكريليك على القماش 200 × 120 سم. إن استخدام مستجدات تكنولوجية مثل الحاملات المتحركة وبعض الآليات الجديدة في استخدام الجدران المشبعة بروح الماضي الجميل وكذلك فتارين العرض المختلفة المستويات ساعد بشكل كبير على دعم وإثارة الأحداث التي لا يسهل تقديمها في قصر عائشة فهمي ذي الطبيعة المعمارية الخاصة، كذلك دمج عروض السينما في العرض الفني والفيديو والاستفادة من فكرة المونتاج والتقطيع الفني بتقنيات الصورة السينمائية في تكوين البناء والتخطيط لعملية العرض التشكيلي والتوثيقي لمعرض صوت مصر.
لوحة للفنان سيف وانلي: "أغنية الندم"، ألوان زيتية على خشب ومقاساتها 120 × 182 سم وهي من مقتنيات متحف سيف وأدهم وانلي. حيث يلتقط وانلي تلك اللحظة الفارقة التي تحتشد بالقلق والتوتر والأمل والانتظار قبل أن تنهض الست من على عرشها لتصدح: "واندم وأتوب وعلى المكتوب ما يفيدشي ندم" — "يا قلبي آه". حيث بالغ وانلي في تصوير رقبتها ومكان الحنجرة ومنح عينيها تلك النظرة الطامحة المتوثبة ووجه الإضاءة نحو وجهها المتطلع للجمهور ورقبتها وصدرها الناهد، مع حركة ذراعيها الشهيرة في جلستها المترقبة المتأملة الوقور.
ثراء تكوين الصور المرئية في أرجاء قصر عائشة فهمي، عن طريق التصميم التشكيلي العام للعرض، مما صنع جو العمل ككل، في حضور صوت الست أم كلثوم الذي يتردد في المكان مغلفًا المدى بطيفها الفريد في مركب إبداعي واحد: الكتلة والفراغ والظل والنور والصوت، بل وحتى الرائحة، مما يقودنا لفكرة سعة التركيب عند باشلار للروح الغنائية التي تخطو خطوات لها سعة تركيب، في حين أن العقل يبتهج بالتحليل. تجد الروح وجودها التركيبي (التشكل)، فإن القلب ينغمر في افتتان منتشٍ وكأن العالم كله قد اختفى فجأة ووجدنا أنفسنا قيد قوة الكلمة وصوت الكلمة والاتساع الحميم الممتد عبر قاعات العرض ذلك المكان الذي يحيطه بحضورات لا حصر لها لروح الست أم كلثوم. كذلك تبدو لوحة الفنان صلاح طاهر التي تصور الست بردائها الأخضر وهي تنظر للجمهور خلف الستار، وهي منفذة بالألوان الزيتية على التوال، وهي من مقتنيات مجموعة شركات بهجت ومن إنتاج عام 1959.
و لقد تصدر العرض تمثال الفنان جمال السجيني للست أم كلثوم وهي تصدح وقد أومأت بيدها اليسرى بينما تقبض يمناها على المنديل الحريري الشفاف، وهو من البرونز 1787070 سم، حيث قام السجيني بتحليل ثوبها إلى مجموعة معقدة ومتراكبة من الأهرامات والعقود المعمارية مما منح هيئة صرحية راسخة لتمثال الست أم كلثوم.
تخطيط الدمج المتناغم بين الجانب التوثيقي وبين ما هو تشكيلي، تلك الشذرات والنوستالجيا التي تحيط بالمكان، تلك الألفة مع ذلك العالم القديم الذي غيّبه الرحيل المادي لكنه يسكن وجداننا وذكرياتنا، بل ويشكل عقولنا حين نحيا حبنا للحب وحبنا للوطن، ويشكل رحلة تاريخية عبر تاريخها الحديث مصحوبة بصوت الست الحاضر في كل تلك اللحظات التاريخية السياسية والاجتماعية بل والدينية أيضاً.
لوحة الفنان مصطفى رحمة تؤطر صورة أم كلثوم في الركن الأيمن من لوحته المنفذة بألوان الأكريليك على القماش وهي 150*150 سم، وهي إنتاج عام 2025، حيث يقابل وجه الست بنماذج نكاد نعرفها من وجوه سيدات المجتمع الشهيرات ومنهن صديقات لها، وهن يستمعن ويتفاعلن مع كلماتها وشدوها، مع تركيبات وعناصر أخرى راقصة أو تحمل مروحة أو تبدو وكأن لها أجنحة ترفرف محلقة في فضاء اللوحة من تأثير شدو الست أم كلثوم.
تبدو لنا في أثناء التلقي لمعرض صوت مصر بقصر عائشة فهمي عمليات صياغة وتقسيم الفراغ ذي الأبعاد الثلاثة في مختلف القاعات ذات الطبيعة التاريخية، الأثر التشكيلي للإضاءة على المكونات الماثلة أمامنا في عناصر العرض، من أزياء وإكسسوارات وأجهزة وقطع فنية وعناصر صحفية وأدبية وثائقية، ومخطوطات أصلية، وقد جاء تشكيل الحيز الداخلي الذي هو حقيقة المبنى كما كتب فرانك لويد رايت: "إن حقيقة العمارة في فراغها الداخلي"، إدراك الفراغ من خلال الحركة فيه وبالتالي رؤيته من أكثر من نقطة وزاوية. وقد أتى هذا التخطيط موفقاً إلى حد كبير بالرغم من صعوبات التعامل مع المباني التاريخية.
في عمل الفنان المصري أحمد عبد الكريم المنفذ بألوان الأكريليك على الخشب مع الكولاج بمقاس 120*140 سم عام 2025، يربط صورة أم كلثوم بعنصر الهرم المصري ومركب الشمس، وتتردد في الخلفية السماوية عناصر من عرائس الأسوار التي تستخدم في العمارة الإسلامية.
لوحتان للفنان جورج البهجوري وهما منفذتان بالألوان الزيتية على التوال بمقاس 120*120 سم، وهما من مقتنيات جاليري آرت توكس بالقاهرة، ويعد البهجوري من أشهر من رسم أم كلثوم، فقد تناولها في أكثر من 400 عمل فني على حد قوله "كتالوج المعرض"، كما نرى بين اللوحتين تمثالًا من البرونز يصوّر لحظة انطلاق الست بالآهات وهي تضم كفيها على المنديل وتضغط على صدرها وكأنها تصرخ بآلام الوجد: "أقدر أجيب العمر منين... وأرجع العهد الماضي أيام ما كنا إحنا الاتنين... إنت ظالمني وأنا راضي".
تذكرنا أساليب العرض للوحات التصويرية والأعمال النحتية مع النصوص المكتوبة والوثائق والمتعلقات الشخصية (الأوبجيكت) بفن المفهوم الفكري (Conceptual Art)، فالبيئة التي يصوغها خيال المبدع في خلق وسائط وأنماط بديلة للتصور والفهم من جانب الجمهور، عن طريق تنويع عناصر الصورة، متطلبات التصميم ومصادر الإلهام المختلفة للمصمم من الفنون التشكيلية والوسائط التشكيلية الحديثة. ودور المكان كعنصر من عناصر تشكيل الصورة العامة وتصميم ذلك المزيج بين صوت الست واللوحات والتماثيل وبقية عناصر العرض كأيقونات يتحرك في مجالاتها المشاهد ويقع تحت تأثيراتها المتدفقة.
قدم الفنان أحمد عبد العزيز تمثالًا لأم كلثوم من البوليستر وهو 1009250 سم من مقتنيات الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2007، وكان هذا العمل ضمن مشروع ذاكرة الوطن الذي أقامته الهيئة العامة لقصور الثقافة وأشرف الفنان على تنفيذه.
إن استخدام الأزياء الخاصة بالست والعناصر المنظرية من أجهزة الجرامافون والمسجلات القديمة وشاشات العرض وباقي عناصر الصورة يدعم وضع نسق موحد للعرض يحدد أطر الفضاء التشكيلي، إذ تعتبر مسارات العرض وكأنها فضاء مجازي قابل للمد والبسط إلى ما لا نهاية. كذلك تبدو لنا علاقة الجمهور بالعرض هي دوماً في حالة حدوث (قيد الحدوث) in process – كما في فنون ما بعد الحداثة الطليعية.
قدم الفنان سامح الطويل مساحة تخيل مفتوحة، حيث الصمت وصوت الست يتردد في قاعات القصر الأخرى، بينما يصور الفيديو الذي قدمه سامح أولئك العازفين الذين يتقدمون أمامنا ثم يبدأون بالعزف على آلات خالية من الأوتار أو مقلوبة في فعل موسيقي خالٍ من الصوت، حيث تتجلى المفارقة والشجن. إن المفارقة لدى الفنان تعبير فني بلاغي يرتكز أساسًا على تحقيق العلاقة بين العناصر التشكيلية والعناصر الصوتية في خلفية العرض الفني بقصر الفنون والسكونية، والعناصر المكانية الناتجة عن التركيب المعماري والتصميم الداخلي للمكان، وتصدر أساسًا عن ذهن متوقد ووعي شديد للذات بما حولها، وبالبنية الحقيقية للشكل وما قد تنطوي عليه من إمكانات لا حدود لها. إن المفارقة التي يكرسها عازفًا على أوتار خرساء، فنحن نرصد لدى الفنان مستويين للمعنى الجمالي التشكيلي، بل عدة مستويات، أساسها إدراك الحقائق والتناقض بينها، وتكوين سطح خارجي كثيف الدلالات عن طريق الخلخلة في النسب الشكلية والكسر البالغ الروعة للهيئة العادية وابتكار منظور جديد لتفجير مناطق ثرية للصراع والنبض والحيوية التي نجدها في أعماله. حيث يصل الاختزال لديه إلى حد البتر والحذف، ويصل التناقض الحاد بين رهافة المعنى وخشونة وتعقّد المبنى وصعوبة التشكيل.
ولقد قدم الفنان علاء حجازي بورتريه يمثل أم كلثوم وهي تصدح بالآهات، وهذه اللوحة منفذة بالألوان المائية على الورق ومقاسها 55*30 سم.
يفتح لنا هذا الأسلوب المستخدم في تخطيط وتصميم عملية العرض الفني المحملة بجوانب تحمل فلسفة وأفكارًا متنوعة تؤكد أهمية البحث عن ماهية العرض التشكيلي والإمكانات الرحبة في تشكيل الفضاء: النص، الصوت، التصوير (imaging) لعالم كامل آخر بلغته الخاصة: الإيماءة، الإشارة، الصورة، الموقف من الجسد، مرور الوقت والانتقالات المكانية، التنظيم المكاني واستغلال الوجود والتشكيل القديم للعمارة. ظهرت فيه تعددية اللغات التعبيرية المستخدمة، تزاوج امتزاج الفنون البصرية بالموسيقى، واستخدامها الذاتي المؤكد للصورة البصرية، التكنولوجيا، الأصوات الوسائطية، عمليات الانتقال بين الأداء المنبعث من شاشات الفيديو، وعمليات التناص (نزول النصوص intertextuality)، عمليات تجاوز النصوص، جسد المتلقي نفسه، الفضاء، الصوت، العناصر المنظرية، الصورة المرئية لها بلاغتها الخاصة في عمليات توليد المعنى، عمليات إثارة وتنشيط العلاقة بين المرئيات والنصوص.
كان استخدام العمل النحتي الميداني للفنان طارق الكومي في صدارة محورية بالمدخل الرئيسي للقصر موفقًا للغاية، حيث سيطر التمثال على الفضاء كعلامة مكانية تقديمية للمعرض ككل، في كيفية إنتاج الصور الكلية في فضاء العرض، كما نرى في حضور تمثال الست وهي تصدح، وهو ما يذكرنا بفكرة القطب الطوطمي والتغريب البصري visually alien – التوتر المركزي بين ما هو يومي وما هو خارج عن السياق العادي. العناصر المعروضة وهي تستقبل الضوء، يمكن للضوء أن ينحت ويحدد الفضاء بفاعلية كما هو الحال مع العناصر الأخرى القابلة للنحت. هناك عمليات تدفق حر للصور المتلاحقة أثناء الحركة في فضاء العرض حيث التشبع بطاقة الصورة والبحث فيما وراء النص المكتوب نحو الصورة لصالح الصورة، بالتوزيع الأوركسترالي لمجموعة الصور المنتقاة التي تتوالى أمامنا، يؤدي إلى إبداع استراتيجيات جديدة لإنتاج المعنى، فالفضاء يولد من الضوء وأثر العلاقة بين الصورة الصوتية والصورة المرئية على المتلقي. ولقد قدم الفنان محمد بنوي تمثالًا لأم كلثوم في هيئتها الشهيرة وهي تضم كفيها بالمنديل إلى صدرها، وهو تمثال من البوليستر، وتم تشكيل الرداء والتطريز باستخدام الموزاييك الحجري عام 2018.