الاعتداءات الأخيرة اكتشفت بالصدفة، ذلك أن أحد الأطفال لم يعد يتحكم فى عملية البراز، الأمر الذى أثار قلق الأم وسمعت من الطفل الكارثة التى يتعرض لها، ذهبت بالابن إلى الطبيب وهناك عرفت الحقيقة المرة، التى تعرض لها الطفل داخل جدران المدرسة، ثم يتبين أنه ليس الطفل الوحيد، بل هناك آخرون غيره، وأنه ليس هناك فى المدرسة ذئب واحد، بل عصابة من الذئاب، يمارسون تلك الجريمة منذ سنة بالضبط، عقب هذه الواقعة فى تلك المدرسة، يتبين أن هناك شيئًا مشابهًا فى مدرسة أخرى بالإسكندرية، وثالثة المتهم فيها سائق أتوبيس المدرسة ثم رابعة فى التجمع الخامس وهكذا.
قبل هذه الحوادث، وقعت حادثة فردية فى إحدى المدارس بمحافظة البحيرة، فصل فيها القضاء واعتبرت وقتها حالة شاذة واستثنائية جدًا، لكن الحوادث الأخيرة كشفت أننا بإزاء عديد من الحالات، والخوف أن تتحول إلى ظاهرة كاملة.
وإذا كانت الحالات الأخيرة اُكتُشفت بالمصادفة، فإن معظم المتهمين فيها، ليسوا من المعلمين ولا الإداريين، بل من أفراد لا يُفترض أن يكون لهم أى احتكاك بالأطفال، أفراد الأمن فى مدرسة «سيدز» عامل الحديقة «الجناينى» فى مدرسة الإسكندرية، سائق الأتوبيس، المفترض أن معه مشرفة مدرسية، تتولى استقبال الطفل على باب الأتوبيس، ثم تسليمه إلى الأسرة آخر اليوم.
سوف نلاحظ كذلك أن الحالات وقعت فى مدارس خاصة، يدفع فيها الأسر مبالغ طائلة جدًا، يتجاوز المائة ألف جنيه سنويًا للطفل ليضمنوا خدمة تعليمية جيدة لأبنائهم وبناتهم ومعاملة راقية وإنسانية.. لكن الواضح أن القائمين على هذه المدارس ليسوا متخصصين فى التربية، ولكن الأمر بالنسبة لهم مشروع ربحى فقط، «بيزنس» أولًا وأخيرًا.
ولأنهم ليسوا تربويين ، فإنهم فشلوا إداريًا، حيث إنهم لا يُجيدون اختيار العمالة بالمدارس، بعيدًا عن عملية التدريس، أفراد الأمن وكافة العمالة بالمدارس، فى مدرسة «سيدز» كان هناك فرد أمن طُرد من المدرسة العام الماضى لسبب أخلاقى، ثم أُعيد مرة ثانية دون أى وعى من الإدارة لخطورته.
ولأن هذه المدارس لا تقوم بتعيين تلك العمالة، بل تتعامل معها بنظام المكافأة وربما اليومية، فإن هذا يعنى أنه لا توجد لأى منهم شهادة أمنية أو ما يسمى «فيش وتشبيه» للتأكد من نظافة سجله الأمنى، فضلًا عن أن الإدارة قد تتهاون فى أمور كثيرة تتعلق بهذه العمالة، من حيث السلوك الأخلاقى وتعاطى المخدرات.. وهذا وضح فى ملفات بعض المتهمين.
بعض الإدارات المدرسية «تسترخص» فى اختيار العمالة، ثم إنهم لا يقدمون لهم دورات تدريبية فى قواعد وآداب التعامل مع الأطفال، والحدود التى يجب أن يقفوا عندها، ولأن الأجور التى يقدمونها ضعيفة، فإنهم يفتحون الباب لتعامل هؤلاء العاملين مع الأطفال وذويهم، بهدف نيل بعض المساعدة المالية، أيًا كانت اسمها والهدف منها، من هنا يبدأ الخلط فى التعامل والأدوار، من ثم تجاوز القواعد.
إذا أردت اكتشاف قوة الإدارة، لاحظ الباعة والمتسولين الذين يقفون على أبواب المدارس، ويتركون، دون معرفة ماذا يقدمون للطلاب، وشعار الإدارة أنها ليست مسئولة عن ذلك، إنها مسئولية الحى طبقًا لقولهم.. واجب الإدارة تأمين نطاق المدرسة.
أمام إحدى المدارس الثانوية كان هناك باعة يعرضون مخدرات على التلاميذ.. واكتشف المسألة أحد أولياء الأمور.
بعيدًا عن الإدارة المدرسية والعمالة غير المؤهلة، هناك كذلك أولياء الأمور الذين لا يقومون بمتابعة دقيقة لأطفالهم، ومعرفة ما يتعرضون له، من البداية لأسباب كثيرة، ومهما كانت وجاهتها فإنها لا تبرر ذلك الإهمال، إلى حد أن أطفال «سيدز» يتعرضون للانتهاك على مدى سنة بأكملها، ولم تنتبه الأسر ولا لاحظت الأمهات ولا الآباء ذلك.
الواضح كذلك أن لجان المتابعة بوزارة التربية، لا تزور هذه المدارس ميدانيًا وتدقق فى كل شيء، ليس فقط المناهج المدرسية والحصص، لكن طبيعة المبنى والعاملين به، لا أعرف لماذا تضم مدرسة مثل «سيدز» غرفًا سرية ومخازن تحت الأرض، وتترك هكذا لأفراد منحرفين يقتادون الأطفال إليها، ولا أفهم كيف تترك مشرفات أو مشرفى المدرسة الأطفال، يقتادون هكذا من رجال الأمن بلا رقيب ولا متابعة.. نعم هناك فشل إدارى تام بتلك المدارس، وغياب المتابعة الدقيقة من الوزارة، المسئولة بحكم الدستور عن العملية التعليمية.
كل ما سبق يدخل فى باب «الأسباب المباشرة» لوقوع تلك الحالات، لكن هناك أسبابًا عميقة تتعلق بثقافة المجتمع فى هذا الجانب، البعض يتحدثون بألفاظ وكلمات ذات إيحاءات ودلالات أو تأويلات وتفسيرات جنسية، أمام الأطفال، وأحيانًا يتم تكرار ذلك وعن عمد، دون أن يضعوا فى الاعتبار أن الطفل يمكن أن يتساءل حول تلك الدلالات، وإذا لم تكن هناك إجابة تناسب سنه وعمره، فقد تكون نتائجها سلبية عليهم.
وهناك كذلك التلامس المبالغ فيه مع الأطفال، بدعوى الحب وأن «الأطفال أحباب الله».. المدان فى جريمة مدرسة الإسكندرية، قال فى التحقيقات إنه لم يكن يفعل شيئًا سوى أنه يقبلهم فى رءوسهم أو الخدين، من منطقة الحنان والمحبة، وقال ببساطة.. «مش هاعمل كده تانى» وكأنه لم يرتكب جرمًا كاملًا وراح دفاعه يؤكد للمحكمة أن المتهم لم يخلع ملابسه، وهذا نقص حاد، فيما يتعلق بالثقافة الجنسية، كل طرق التحرش كانت تتم بدون خلع ملابس.. بعض ذوى العاهات النفسية والعقد الجنسية، يكتفون بالتلامس، ومن يرجع إلى فقهاء المسلمين فى هذه المسألة يجد أنه كان لديهم القدرة على التحديد الشديد، حيث حددوا معنى التلامس ومَن يحق له ذلك أو لا يحق، وإلى أى مدى خاصة مع الصبية، وقد توسع علماء النفس فى هذه التفاصيل وحددوا أمورًا كثيرة.. من المهم أن تكون واضحة لدى من يتعاملون مع الأطفال من معلمين ومربين وغير ذلك، فى النوادى والألعاب الرياضية وغيرها.
انتهاك براءة الأطفال، فى النهاية جريمة أخلاقية، لكنه كذلك ينطوى على قدر من العقد النفسية يعانيها مَن يرتكب ذلك الفعل، وأمامنا ذلك المدرب فى المنصورة، الذى اعتدى على براءة الأطفال الذين يقوم بتدريبهم ولم يتوقف عند ذلك، إذا به يقوم بتصوير ذلك كله، ثم يقوم بنشر تلك المشاهد على الشبكة العنكبوتية، عدة جرائم مركبة ارتكبها، لكنها تكشف مدى الخراب والأمراض النفسية التى يعانيها.
من جانب آخر سوف نلاحظ أن معظم وليس كل المتورطين فى هذه الأفعال بالمدارس هم أفراد، محدودو التعليم وربما بلا تعليم نهائيًا، لديهم فقر ثقافى شديد، حياة تقوم على قدر كبير من الحرمان يدفعهم بغباء إلى محاولة اقتناص كل ما يتاح لهم، خاصة هؤلاء الأطفال الأبرياء، ربما لم يكملوا السادسة من العمر بعد عن تصور أن الطفل لا يدرك ما يحدث له، وتصور آخر أن ما يقوم به مع الطفل سوف يمر تحت اسم الحنان.
وهذا يعيدنا إلى المنطقة المهمة وهى الاختيار الجيد لمن يتعاملون مع الأطفال أو الاقتراب منهم، خاصة العاملين فى بعض المهن والوظائف التى لا يتم التدقيق فى شاغليها.
والحق أن ملف المدارس الخاصة بشتى مسمياتها فى حاجة إلى مراجعة شديدة ورقابة صارمة، حين توافق الوزارة على منح الترخيص لمدرسة تتم معاينة المبنى والتأكد من هيئة التدريس، لكن ماذا عن الجهات المعاونة وأفرادها من سكرتارية وعمال.. والبعض ينظر أن إلى شاغلى هذه الوظائف على أنه مجرد إتاحة فرصة «أكل عيش» أمام المواطن أو توفير فرصة عمل، وهذا حق، لكن لا بد من استيفاء كافة الشروط وبذل الجهد فى إعداده وتدريبه.
تميزت بريطانيا فى الطب لأنها اهتمت بالتمريض والخدمات المعاونة بالمستشفيات مثل أو قبل اهتمامها بكفاءة الطبيب وتكوينه.
المدرسة ليست منهجًا وكتابًا ومبنى فخمًا ومدرسًا تخرج فى جامعة أجنبية وحصل على دورة هنا وأخرى هناك لتسويد «السى. في»، لكنها كذلك عامل النظافة، وفرد الأمن الذى يؤدى واجبه، ورسم خطوط واضحة لحدود التعامل مع التلميذ والتلميذة.. وإذا راجعنا معظم الحالات فى مدارس ابتليت بتلك الآفة، سوف تجد إغفالًا كبيرًا لتلك العوامل. من هنا وجبت المراجعة الصارمة.
على أن هذا الانحراف الأخلاقى ليس وقفًا على هؤلاء الذين تم ضبطهم فى المدارس ولا هى صفة لصيقة بالضرورة بالعمالة فى المدارس، لكنها موجودة لدى فئات أخرى، من معلمين أو مربين، الدليل ما جرى فى مدرسة محافظة البحيرة، التى اهتزّ لها المجتمع قبل شهور.. وهناك حاليًا واقعة مدرب كرة القدم بالمنصورة، فضلًا عن حالات أخرى متفرقة، ظهرت من قبل بما يؤكد أن هذه الجريمة يرتكبها الجاهل والمتعلم.. الشاب والشيخ.. وليست وقفًا على الفقراء فقط، هل تابعنا فضائح وجرائم «إبستين» فى الولايات المتحدة التى شملت عليه القوم، سياسيًا وثقافيًا وسياسيًا وأغنى الأغنياء فى المجتمع.
الأمر إذن بحاجة إلى دراسات متعمقة، تشمل الجوانب السيكولوجية والاجتماعية والثقافية لتلك الحالة التى تصيب البعض، أولئك الذين لا تنقصهم وسائل الإشباع، لكنهم يفضلون الأطفال من الجنسين.
الظاهرة ليست محلية ولا هى خاصة بمدارسنا ومجتمعنا فقط، ما لدينا حتى الآن، لا يرقى إلى أن يصبح ظاهرة كبرى، لكن يجب أن نتكاتف حتى لا تصبح كذلك ولا تنتشر فى المدارس أو خارجها.
وهنا يأتى دور خبراء التربية وعلماء الاجتماع النفسى، لمحاولة فهم ما يجرى، وتحليل ما ينطوى عليه هؤلاء نفسيًا واجتماعيًا وأخلاقيًا.. على مستوى علم النفس، قدم «سيجموند فرويد» العديد من التحليلات لهذه الظواهر، ومدى خطورتها على الآخرين ودلالتها بالنسبة لمن يرتكبها.
وقد يتصور البعض أن الإشارة إلى «عقدة نفسية» لدى شخص بعينه، يعنى إسقاط الجريمة وإسقاط العقوبة، الجريمة تظل جريمة، لكن ليس كل مجرم يعانى عقدة نفسية، خاصة مع أولئك الذين ينتهكون براءة الأطفال، بعضهم ينطوى على استهانة بالطفل أو استباحة جسده، والبعض يتصورون أن هذا الفعل الآثم، لا يدخل فى باب الجرائم المتعارف عليها كالزنا، وهذا نوع من الجهل ومن سوء الأدب، ينبغى أن يعاقب مرتكبه بأقسى العقوبة الممكنة.
وقد أخذ المجتمع الأمر بجدية، النيابة العامة باشرت التحقيق على الفور، وتمت إحالة أوراق المجرم فى الإسكندرية إلى فضيلة المفتى لإبداء الرأى الشرعى فى مسألة الحكم عليه بالإعدام، وتحدد الشهر القادم لإصدار الحكم، وقد أصدرت النيابة العامة بيانًا تؤكد فيه أنها تقف بالمرصاد لمن يرتكبون هذه الأفعال المؤثّمة دينيًا وإنسانيًا وأخلاقيًا.
السؤال الشائك الذى يؤرق الكثيرين.. هل نحن بإزاء أفراد منحرفين فى بعض المدارس أم نحن بإزاء عمليات منظمة، تقوم بها عصابات موجهة، بهدف تدمير الأجيال القادمة، أم نحن بإزاء مجموعات تسعى إلى إشاعة الفوضى الأخلاقية والانهيار النفسى فى المجتمع كله، وصولًا إلى إضعاف الوطن بأكمله؟
هذه الأسئلة وغيرها سوف تتكشف فور اكتمال وانتهاء التحقيقات، خاصة فى وقائع مدرسة «سيدز»، ولعل هذا ما دفع النيابة العسكرية إلى التدخل لمباشرة التحقيق فى الوقائع ومع المتهمين.
ما جرى هو جرس إنذار شديد لنا جميعًا، آباء وأمهات.. وكل الأمناء على هذا المجتمع ومؤسساته وكل الحريصين على هذه الدولة وأمنها القومى ومستقبل هذا الشعب، المهم أن الدولة بكافة مستوياتها تعاملت مع الأمر بجدية تامة.