فى عالم الاقتصاد الحديث، لم تعد التحديات مقتصرةً على الأزمات المالية أو التغيرات العالمية، بل برزت الشائعات الاقتصادية كأداة هجوم صامتة تهزّ أسواق المال وتزعزع ثقة المستثمرين، وتثير هلع المستهلكين، وتدفع بالأسواق المالية أو التجارية نحو حالة الفوضى، مما يؤدى إلى تباطؤ معدلات النمو وهروب رؤوس الأموال، ودخول الدولة فى حالة من عدم اليقين، ليصبح محدود الدخل أول المتضررين تحت وطأة التضخم والبطالة وانخفاض قيمة العملة.
يعد الاقتصاد المصرى من أكثر الاقتصادات الناشئة عرضة للشائعات التى تسعى لمحاربة خططه التنموية والإصلاحية، إذ نشر المركز الإعلامى لمجلس الوزراء تقريره السنوى بعنوان «جهود مواجهة الشائعات على مدار عام 2024» والذى أكد زيادة الشائعات بنحو 3 أضعاف خلال الفترة من «2020 - 2024» مقارنة بالفترة «2015 - 2019»، مستعرضًا ترتيب القطاعات طبقًا لمعدل انتشار الشائعات، وجاءت النسبة الأكبر لكل من الاقتصاد والصحة بنسبة 19.4فى المائة.
الشائعات التى اعتادت ملاحقة الاقتصاد المصرى خلال الفترة من 2020 وحتى 2022 كانت أغلبها تدور حول نقص السلع الغذائية فى الأسواق تأثرًا بالأزمة الاقتصادية العالمية أو ارتفاع أسعارها، والأخطر من ذلك تكرار شائعات إلغاء الدعم السلعى أو رفع سعر الخبز والسلع التموينية، لكن مع نجاح الحكومة المستمر فى زيادة المعروض من السلع بالأسواق وانتشار أسواق اليوم الواحد، تقلصت إلى حد ما تلك النوعية من الشائعات وبدأت تتجه نحو محاولة التشكيك فى المشروعات القومية أو مشروعات التصنيع التى تدعمها الدولة، سعيًا لهزّ ثقة المستثمرين.
وتأتى قناة السويس على رأس الجهات التى تلاحقها الشائعات بقوة، فقد نفى المركز الإعلامى لمجلس الوزراء خلال الأيام القليلة الماضية ما تم تداوله من مقطع صوتى يزعم اعتزام الحكومة بيع قناة السويس مقابل تريليون دولار، إذ شددت هيئة قناة السويس على أن القناة ستظل مملوكةً للدولة المصرية وتخضع لسيادتها، سواء فى إدارتها أو تشغيلها.
وخلال ساعات من ظهور تلك الشائعة، انطلقت شائعة أخرى نفاها أيضًا مركز معلومات مجلس الوزراء والخاصة باعتزام الحكومة بيع المطارات المصرية ضمن برنامج الطروحات، الأمر الذى دفع وزارة الطيران المدنى على التأكيد أن جميع المطارات المصرية مملوكة بالكامل للدولة وتخضع للسيادة المصرية، وما يحدث هو تنفيذ لاستراتيجية متكاملة لرفع كفاءتها وزيادة طاقتها الاستيعابية. ولم تقتصر الشائعات مؤخرًا على المشروعات الكبرى بل امتدت لأسواق الذهب فهناك شائعات بتداول جنيهات ذهبية مغشوشة، إلا أن المركز الإعلامى لمجلس الوزراء أكد أن مصلحة الدمغة والموازين لم ترصد أى حالات غش.
فى الآونة الأخيرة انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعى تحذيرات تدعو المقيمين فى الخارج إلى الامتناع عن تحويل الأموال إلى مصر، مدعين أن السلطات المصرية تقوم باعتقال الأفراد الذين يتلقون تحويلات مالية كبيرة من الخارج بتهمة الإتجار فى العملة الأجنبية، وتأتى هذه المحاولات لمحاربة زيادة تحويلات العاملين بالخارج والتى وصلت إلى 30.2 مليار دولار خلال الأشهر التسعة الماضية، وبالتالى فإن الحرب مستمرة وشرسة ويجب على الحكومة محاصرتها دائمًا ووأدها؛ حفاظًا على الاستقرار الاقتصادى للبلاد.
فحسبما يقول الدكتور عادل عامر الخبير الاقتصادى، إن الشائعات ذات خطورة اقتصادية وتستلزم مواجهتها، الأمر الذى دفعه لعمل كتاب سيتم طرحه بمعرض الكتاب القادم تحت عنوان «الشائعات وتأثيرها على الاقتصاد المصرى»، يؤكد فيه أن الشائعات من أخطر التحديات غير المرئية التى تواجه الاقتصاد بما لها من تأثير مباشر على ثقة المواطنين والمستثمرين واستقرار الأسواق والاستقرار الاقتصادى، فمصطلح الشائعات الاقتصادية يعنى المعلومة غير الدقيقة وغير الموثقة والتى يتم تداولها حول موضوعات مالية أو نقدية أو استثمارية، خاصة المرتبطة بسعر العملة أو السلع الاستراتيجية وكذلك أوضاع البنوك دون الاستناد إلى مصادر رسمية.
ولتلك الشائعات مخاطر متعددة أهمها زعزعة الثقة فى الاقتصاد الوطنى وفقدان الثقة فى السياسات الاقتصادية للحكومة، بما يدفع الأفراد لسلوكيات غير رشيدة مثل الاكتناز أو تحويل المدخرات إلى عملات أجنبية، أيضًا هناك تأثير سلبى للشائعات على سعر العملة والتضخم، فالشائعات تسبب خلق الطلب الوهمى على السلع، وبالتالى ارتفاع التضخم وارتفاع الأسعار دون مبرر، والأخطر من ذلك هروب الاستثمار وخاصة المستثمر الأجنبى فيتأثر سريعًا بالأخبار غير المؤكدة بما يؤدى إلى تأجيل الاستثمارات أو حتى سحبها بما يضر بمناخ الأعمال.
كذلك الشائعات التى ترتبط بالبورصة والشركات الكبرى يضر بالأسواق المالية فيحدث تذبذب حاد فى الأسعار وخسائر غير مبررة وتراجع حاد بالسوق، وأخيرًا الإضرار بالأمن الاقتصادى فيتم استخدام الشائعات كإحدى أدوات حروب الجيل الرابع لإضعاف الدولة اقتصاديًا من خلال بث الخوف والقلق بين المواطنين، وهذا ما تقوم به الدول والكيانات المعادية للدولة المصرية.
يوضح دكتور عامر أن من أبرز أسباب انتشار تلك الشائعات هى سرعة تداول المعلومات عبر وسائل التواصل الاجتماعى وضعف الثقافة الاقتصادية لدى بعض فئات المجتمع، وغياب التحقق من مصادر الأخبار، واستغلال بعض الجهات للشائعات لتحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية.
ويؤكد أن هناك خمسة سبل لمحاربة الشائعات أولها الشفافية وسرعة الإفصاح الرسمى من الجهات الحكومية عبر بيانات حكومية رسمية عاجلة مع شفافية أكبر فى توفير المعلومات لمصادر الإعلام كافة، ثانيًا تعزيز الوعى الاقتصادى والإعلامى لدى المواطنين، ثالثًا تفعيل دور الإعلام المهنى فى التحقق والتفسير وليس مجرد النقل للأخبار دون التأكد من صحتها، رابعًا تفعيل القوانين الرادعة على مروجى الأخبار الكاذبة، فعدم محاسبة مروجى الشائعات يدفع البعض لتصديقها وتكذيب أى تصريحات حكومية، خامسًا وأخيرًا المسؤولية المجتمعية فى عدم تداول أى معلومات غير موثوقة.
ختامًا، يشدد دكتور عامر على أن مواجهة الشائعات ليست مسؤولية الحكومة وحدها، بل هى مشتركة بين المواطن والحكومة والإعلام، فحماية الاقتصاد الوطنى تبدأ من حماية الوعى العام وبناء الثقة القائمة على المعلومة الصحيحة.
التشويش الاقتصادى
فى السياق ذاته، يوضح محمد عبدالعال الخبير المصرفى أن الشائعات الاقتصادية أو الأخبار الكاذبة، هى معلومات قد تكون زائفة، أو غير مكتملة، أو غير دقيقة، ويتم نشرها بدون التحقق من مصدرها، أو حتى الإعلان عن ناشريها ويكون غرضها الأساسى هو التشويش الاقتصادى، وإثارة البلبلة، أو القلق حول الموضوعات الاقتصادية والمالية، خاصة تلك التى تكون مرتبطة بأنشطة مؤثرة مثل البنوك والأسواق المالية، أو تستهدف تضليل المستخدمين حول مضامين القرارات الحكومية المرتبطة بالوحدات الإنتاجية المؤثرة على جموع المواطنين.
بالطبع تلك الشائعات غالبًا ما تنتقل وتنتشر بسرعة عبر القنوات الفضائية المعارضة، أو وسائل التواصل الاجتماعى، أو حتى من خلال الاجتماعات العامة، ومن أمثلة تلك الشائعات، إطلاق شائعات عن إفلاس بنك أو مجموعة بنوك، أو إشاعات تشير أو تلمح إلى أن هناك مخاوف تعثر ما فى أحد فروع البنوك الأجنبية، الأمر الذى يعرض ودائع العملاء للخطر، وقد يؤدى إلى هلع العملاء وسحب مدخراتهم بشكل جماعى وفورى، وهو ما يعرض البنك بل والمجتمع المصرفى إلى مخاطر السيولة، وخسارة قاعدة عملائه، وتنعكس تداعيات وتكاليف تلك المخاطر ليس فقط على البنك، ولكن أيضًا على الاقتصاد ككل.
وهناك أيضًا حملات تحمل أكاذيب وإشاعات توجه إلى السياسات النقدية والمالية أو الضرائبية أو أسعار الصرف وآليات إدارة سوق النقد فى بعض الدول النامية، مما يؤدى إلى تعرّض تلك الدول وأسواقها إلى تقلبات شديدة فى الأسواق، وخروج الأموال سواء كانت من مستثمرين محليين أو أجانب وهروبها تحت تأثير الأكاذيب، إلى ملاذات آمنة فى دول أخرى، وهو ما يؤثر سلبًا على قرارات المستثمرين المحليين والأجانب، على المديين القصير والمتوسط إلى حين يتم تصحيح وتوضيح حقائق الأمور، ولكن الأمر قد يأخذ وقتًا ليس بالقصير لعودة الأمور إلى طبيعتها، وتكون تكلفة العودة باهظة وكبيرة جدًا ماديًا ومعنويًا.
كما تؤدى مثل تلك الأكاذيب الاقتصادية إلى فقدان الثقة فى الأسواق والمؤسسات المالية، الأمر الذى يجعل الاقتصاد عرضة لتكرار الأزمات المالية بشكل أكبر، وقد تحدث انهيارات فى البورصة نتيجة اتخاذ المستثمرين قرارات غير صائبة لأنها تكون قد بُنيت على أسس كاذبة وغير واقعية، ويكون تكلفة إعادة الاستقرار للقطاعات والأنشطة الاقتصادية كبيرة جدًا، فهناك خسائر كبيرة، وغرامات وفوائد تأخير، وانخفاض فى صافى الأرباح التقديرية نتيجة الفرص الضائعة، وتكلفة ارتفاع تدبير السيولة الطارئة فى وقت الأزمات، وصعوبة الاقتراض من الأسواق العالمية نتيجة ضعف ثقة المستثمرين فى أسواق الدول النامية التى تتعرض لمثل تلك الشائعات، بالإضافة إلى زيادة التكاليف التشغيلية فى الوقت الذى تتناقص فيه الإيرادات نتيجة ضعف فى الإنتاج وتدنى الربحية بسبب تلك الشائعات، والتى يمكن أن تؤثر فى النهاية على معدلات النمو الاقتصادى للدولة أثناء وبعد ترويج تلك الشائعات.
ولقد ساعد التقدم التكنولوجى وانتشار وسائل التواصل الاجتماعى على تسهيل وسرعة نشر تلك الأكاذيب الاقتصادية، مع وصولها إلى شرائح عريضة من المتعاملين، حيث تجد بيئة للنمو والانتشار خاصة فى الدول النامية، حيث يكون المواطنون عرضة للضغوط الاقتصادية، ويسهل عليهم تصديق وقبول حملات التشكيك، خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم والبطالة أو فى أوقات الحرب والأوبئة، حيث تكون الأجواء مواتية لتكثيف ونشر الشائعات الاقتصادية.
من أهم تداعيات تلك الأكاذيب الاقتصادية فى الدول النامية، كما يوضح «عبدالعال»، هو تأثير حالة عدم اليقين التى تسود العالم حاليًا، وما يمكن أن يُنسج حولها من إشاعات تؤثر على قرارات المستثمرين والمنتجين وتزيد من تكلفة تجنب مخاطر تلك الحالات.
ويعتبر الاقتصاد المصرى وهو من أكبر الاقتصادات الناشئة فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذى دائمًا ما يستهدف بحملات متكررة ومتعددة من الشائعات والأكاذيب التى تستهدف ضرب مسيرته، وخطط تنميته، ولذلك يكون فى بعض الأحيان تأثير هذه الشائعات الاقتصادية ملحوظًا ويستمر تأثيره لفترة غير قصيرة وتكون التكلفة على الاقتصاد القومى كبيرة.
إن السياسات الاقتصادية والنقدية والمالية فى مصر هى من السياسات والآليات الحساسة جدًا لمثل تلك الشائعات، ولذلك تسعى الدولة دائمًا لتوضيح أن الشائعات الاقتصادية هى جريمة ضد أمن المجتمع ودائمًا ما تُكرر الحكومة على ضرورة التواصل مع الجهات المعنية للتأكد قبل نشر معلومات لا تستند إلى حقائق وتؤدى إلى إثارة القلق بين المواطنين عبر إطلاق الشائعات التى تستهدف العقول وتزيف الوعى.