رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

ليلي عبدالمجيد تكتب التكوين : سنوات من عمرى

9-12-2025 | 10:45

د. ليلى عبد المجيد

طباعة
د. ليلى عبد المجيد

محظوظة أنا بأسرتي وأساتذتي الذين علّموني... إذ أنعم الله عليَّ بأن أكون ابنة لأسرة رائعة... أبًا مبدعًا سابقًا لعصره يعشق أسرته ويبذل جهده من أجلها... وأمًا نموذجًا للعطاء والتضحية، فنانة وحكيمة ومكرّسة كل حياتها لأسرتها.

بطبيعة الحال، كانت هذه الأسرة الجميلة تمثّل قدوة في العلاقات الاجتماعية والإنسانية، وكانت تقوم على الديمقراطية داخل البيت، بحيث يكون من حقّنا جميعًا إبداء آرائنا، بل وكان يُؤخذ بهذه الآراء في كثير من الأحيان. وقد شجّعنا أبي دائمًا على ذلك، وكانت هذه من أهم القيم التي تربّينا عليها منذ طفولتي.

كنتُ أكبر إخوتي، ولذلك كان لي وضعٌ خاص داخل الأسرة؛ فقد كنتُ أشعر دائمًا بأنني مسؤولة، وأحبّ تحمّل المسؤولية، والمشاركة، وتقديم العون والدعم. وكان أبي وأمي يمنحانني الفرصة لأشاركهما هذه المسؤولية في رعاية إخوتي والاعتناء بهم. وفي هذا الجو الأسري الدافئ الصغير تربّينا على القيم الدينية، وعلى إدراك أن المتدين الحق ليس فقط من يؤدي العبادات ويلتزم بها، بل من يُظهر ذلك في سلوكه:

التعاطف مع الآخرين، احترامهم، التعاون معهم، عدم إيذاء أحد، عدم ممارسة العنف، والتسامح. هذه المبادئ لم تُقدَّم لنا نظريًا، بل شاهدناها مطبّقة بالفعل داخل الأسرة وفي علاقاتها بالجيران والأسرة الكبيرة.

كان بيتنا مفتوحًا للجميع من الأهل والأصدقاء والجيران، أشبه ببيت العائلة الكبرى. وأودّ التوقف عند جدودي؛ فقد أثّر جدّاي لأبي وأمي تأثيرًا بالغًا في حياتي، وكانا بالنسبة لي قدوة عظيمة، تعلّمت منهما الكثير من خلال سلوكهما وتعاملاتهما دون أن يقولا شيئًا مباشرًا.

كان جدي لأبي مهندس كهرباء، ولا أنسى مواقف عديدة أثّرت فيّ؛ فمثلًا كان يرفض أن يستخدم ورقة أو قلمًا من أدوات العمل في أمور شخصية بالبيت، لأنه لا يعتبر ذلك حقًا له خارج العمل. وكان يرفض أيضًا أن تركب الأسرة معه في سيارة العمل المخصّصة له عندما أصبح مديرًا عامًا، لأن ذلك ليس من حقه. ومع تقدّمه في السن لم يتوقف عن التعلم، فقد كان مهندسًا بارعًا وهاويًا شغوفًا؛ وكان يستأجر غرفة صغيرة في البيت القديم بمنطقة السيدة زينب، وكان يضع فيها أدواته الكهربائية لممارسة هوايته في تطوير واختراع الأشياء. كما كان يدرس بالمراسلة ويحصل على دبلومات من إنجلترا في تخصّصه، ويشترك في مجلات علمية دولية. كان العلم بالنسبة له قيمة عليا. وقد تأثرت كثيرًا به، خاصة أنه كان يحبني ويدعمني لأنني كنتُ من المتفوّقين.

أما جدي لأمي في الإسكندرية، فكان صاحب مكتبة من المكتبات القديمة المتخصّصة في التراث، وكان كبار الأدباء والمفكرين يترددون على مكتبته لاقتناء الكتب القديمة، وشهدت المكتبة جلسات لتبادل الحوار والمناقشات. وفي مكتبة بيت جدي بالإسكندرية كانت هناك مجموعات من الكتب في كل المجالات إضافة إلى أمهات الكتب، وكنتُ خلال الإجازة الصيفية - التي كانت تمتد لثلاثة أشهر - أقضي جانبًا من الوقت في القراءة لأنهل من هذه الكتب. وكان جدي، رغم بلوغه سن الثمانين، يذهب يوميًا إلى مقر عمله بالمكتبة رغم معاناته من المرض ورغم كونه كان يقطن في الدور الخامس، ويقضي اليوم كله فيها ويعود مساءً؛ حبًا في العمل وإيمانًا به. وقد تعلّمت من خلاله تقديس العمل والاستمرارية فيه.

وبالإضافة إلى كل ذلك، كان والدي أديبًا إلى جانب عمله خبيرًا في تعليم الكبار، وكان يكتب للإذاعة قصصًا زجلية وبرامج وسهرات وأغنيات. وكان جوّ البيت أدبيًا وثقافيًا، وكان الملحنون والأدباء يترددون عليه، وكنا نستفيد كثيرًا من حواراتهم. وقد تعلمت الكثير من ذلك الجو. وكان أبي يمنحنا قدرًا كبيرًا من الحرية، لكنه أوضح لنا أن الحرية ليست فوضى وأن "الحرية مسؤولية". ولم أكن خلال تلك الفترة قد تجاوزت الثانية عشرة من عمري. وأما من أمي فاكتسبت المعنى الحقيقي للإيمان، الإيمان الحقيقي بالله، والخوف منه في كل تصرف، وحب الوطن والانتماء له، ومتابعة أحداثه.

وفي المدرسة، حينما انتقلت للمرحلة الإعدادية حيث التحقت بمدرسة أمين سامي بمنطقة المنيرة، حظيت بمعلمين لا يمارسون مهنة التعليم فقط كمهنة، بل يرون أنها رسالة اجتماعية مهمة. ولم تكن الدروس الخصوصية شيئًا مقبولًا؛ وكان أخذ دروس خصوصية في بعض المواد حينئذ أمرًا معيبًا. وكان هناك علاقة قوية بين المدرسة والبيت، فأذكر أن معلمتنا في الابتدائي كانت صديقة لأمي، وكنا جميعًا نلتحق بالمدرسة نفسها: مدرسة الظاهر بيبرس الابتدائية المشتركة. كنا نسكن خلف شارع القصر العيني، والمدرسة كانت في شارع بستان الخشاب، على بُعد خطوات قليلة من البيت، وكنتُ أنا وإخوتي نُعدُّ لكل منّا شخصية مختلفة، وكان بابا يشبّهنا بباقة من الزهور، لكل زهرة عبيرها ورائحتها ولونها الخاص.

وفي المدرسة اشتركت في جميع الأنشطة: الرياضية، الفنية، الأدبية، جمعيات الرحلات والجغرافيا والصحة. وكانت الرحلات ليست فقط بهدف الترفيه، وإنما كان لها أغراض تعليمية حيث كنا نزور الأماكن التاريخية مثل قصر محمد علي، والقلعة وغيرهما، ويطلب منا المعلمون إعداد تقارير عن هذه الزيارة ويناقشونها معنا.

وفي مدرسة أمين سامي الإعدادية، اكتشف المعلمون موهبتي، خصوصًا أستاذ اللغة العربية محمود السعدني، المشرف على الإذاعة المدرسية، وأصبحتُ مشهورة في مدرستي. وكانت هناك حصص للمكتبة حيث تقوم كل منا باختيار كتاب وتقوم بتلخيصه، كما كان يطلب منا الأستاذ تخصيص كراسة لتجميع قصاصات الأخبار المهمة من الصحف من وجهة نظرنا، وكتابة موضوعات نقدية لما نشاهده من مسلسلات في التلفزيون أو أفلام سينمائية أو مسرحيات. وكانت هذه مهارات صحفية تعلمناها في المدرسة.

وكان الأستاذ السعدني يحب اللغة العربية ولذلك جعلنا نحبها ونتقنها، وكان يلجأ أحيانًا إلى الاستعانة ببعض القصائد المغناة، مثل التي كانت تغنيها أم كلثوم، لنستمع إليها في الفصل ونناقش مواطن الجمال فيها والبلاغة.

وظل الأستاذ محمود السعدني على تواصل معي حتى بعد انتقالي للمدرسة الثانوية رغم إعارته لدولة الصومال، حيث ظل يراسلني ليطمئن على أخباري ويشاركني تصوّراتي لمستقبلي.

وفي المرحلة الثانوية التحقت بمدرسة السنية للبنات في السيدة زينب، وكانت مدرسة عظيمة ذات مسرح كبير ومعامل وملاعب ومعلمات متميزات. كانت المديرة صارمة للغاية في الالتزام بالنظام؛ فكانت تعيد طلاء أحذية الطالبات إذا لم تكن سوداء، وتطلب تعديل طول "الجيبات" حسب اللوائح. وكانت تهتم بحياتنا خارج المدرسة أيضًا، وتتابع سلوك الطالبات، وتبلغ إدارة المدرسة وأولياء الأمور عند حدوث أي تجاوز من باب الحرص، معتبرة أن الحرية يجب أن تكون مسؤولة.

وكان التعليم في تلك المرحلة ذا أثر كبير في تكويني، فقد كان كل المدرسين ممتازين ويقومون بمهام التربية إلى جانب التعليم. ولم تكن بيننا فروق طبقية؛ فكنا نرتدي الملابس نفسها ونحمل الأطعمة نفسها، مما كان يمنع ظهور الحساسية والتمييز.

وفي السنة الثانية في المرحلة الثانوية كان علينا أن نتخصص إما علمي أو أدبي، ووجدت نفسي في مأزق حيث كانت أمي تتمنى أن أكون صيدلانية، مما يتطلب أن ألتحق بالقسم العلمي الذي لم يكن رغبتي ولا يتفق مع ميولي. ولكني حتى لا أغضبها التحقت به في البداية، ولكنني لم أكن قادرة على الاستمرار؛ فلم أكن أتحمل روائح الكيماويات في معمل الكيمياء، ولا أستطيع أن أقوم مع زميلاتي بتشريح الأرنب في معمل الأحياء، بل كنتُ في كل مرة أصاب بالإغماء. ولجأتُ لوالدي أطلب عونه لكي أتمكن من التحويل للقسم الأدبي لأدرس ما أحب وأعشق، وبالفعل ذهب والدي وأقنع مديرة المدرسة.

وعشنا في هذه السنوات أحداث الوطن الكبرى: وخاصة هزيمة يونيو 1967، ثم حرب الاستنزاف، ثم وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. كنا نعيش كل ذلك بوعي كبير رغم صغر سننا. وعندما رحل عبد الناصر وكنتُ في أولى ثانوي، ذهبنا للمدرسة نلبس الملابس السوداء حدادًا عليه، وبكينا حينما مرت الطائرة التي تحمل جثمانه.

ثم جاءت سنوات إعادة بناء قواتنا المسلحة، وكانت الموارد كلها موجهة للجبهة؛ وكان علينا التكيّف مع ظروف اقتصادية صعبة، لكننا لم نشعر يومًا بالحرمان، بل كنا نعتبر ذلك واجبًا وطنيًا. لم تكن تطلعاتنا مادية؛ فأنا مثلًا كان حلمي أن أصبح صحفية كبيرة لامعة وأكتب في المجلات وأدافع عن قضايا وطني. واستطعت أن أحقق نتائج جيدة في الثانوية العامة حيث حصلت على مجموع 83% وكان يُعدّ مجموعًا كبيرًا جدًا في تلك الفترة.

عندما ذهبتُ لمكتب التنسيق علمنا أن قسم الصحافة بكلية الآداب سوف يغلق حيث حل محله معهد جديد هو معهد الإعلام، الذي بدأ بقبول الطلاب من خارج مكتب التنسيق. وبالصدفة، وأنا أركب "التروليباص" في طريق الجامعة وأتحدث مع إحدى زميلاتي في هذا الموضوع، تدخّل أحد الركاب وكان الأستاذ عبد العزيز شرف الذي كان مدرسًا مساعدًا بهذا المعهد، وأقنع أبي باختياري ووافق على ذلك، رغم أن المجتمع في تلك الفترة كان يرى أن المعاهد أقل في مستواها من الكليات وتقبل الطلاب الحاصلين على مجاميع أقل. وبدأتُ الاستعداد للقبول بالمعهد مستعينة بمكتبة أبي لمدة شهر ونصف، وقرأت في الأدب والتاريخ والجغرافيا والسياسة، وتابعت الأحداث الجارية. ونجحت في الامتحان التحريري والشفوي أمام شخصيات إعلامية كبيرة مثل الأستاذ جلال الحمامصي، ومحمد فتحي، والدكتور جمال الدين العاطفي، والدكتور خليل صابات، والدكتور إبراهيم إمام. وقُبلت ضمن 200 أو 250 من أصل ألف متقدم.

وكان من حظي الالتحاق بمعهد الإعلام، الذي أصبح كلية الإعلام عام 1974. وقد منحني الله التوفيق لأدرس ما أحب، وأعمل بما أحب، وأمارس حريتي المسؤولة وسط أسرة عظيمة ومعلمين وأساتذة كانوا سندًا لي، ساعدوني في اكتشاف ذاتي وقدراتي.

وكل ما تعلمته من أسرتي والمعلمين في المراحل التعليمية المختلفة وفي التحاقي بالجامعة حاولت نقله لطلابي فيما بعد، ولو بجزء مما قدمه لي أساتذتي. وأنا اليوم أشعر بالرضا والامتنان لكل من أثّر فيَّ في تلك المرحلة من عمري.

أخبار الساعة