رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

الإرث الطبي المنهوب

6-12-2025 | 11:17

د. محمود المحمدى عبد الهادي

طباعة
د. محمود المحمدى عبد الهادي

منذ آلاف السنين خط أجدادنا قدماء المصريين أول سطور العلم وأضاءوا الأرض نورا حيث ظهر العلم فى ربوعها وانتشر عبر نهر نيلها وكتبوا على جدران معابدهم بأنهم هم أول من عرفوا المعرفة والعلم فى تاريخ البشرية، فلم تكن مصر مهد الحضارة والفن فحسب، بل كانت أيضًا مهبط الطب والعلم والعلاج. حيث خصصت فى معابدها أماكن للعلم والتعليم والتعلم وسميت هذا الأماكن باسم بيوت الحياة حيث عرفوا الحياة وأسرارها من خلال تلك البيوت التى كانت بمثابة جامعة علمية أكاديمية تعلم فيها المصرى القديم المعرفة والعلم وعمل على نقلها إلى الأجيال القادمة وكان من أهم تلك العلوم علم الطب البشرى الذى برع فيه بل كان له الفضل فى تأسيس الطب الحديث وتأصيل أركانه بعد أن اجتهد وتعلم وعلم بل سجل كل تلك المهارات والعلوم فى سجلات أكاديمية علمية وأطلق عليها البرديات الطبية، حيث ترك المصريون القدماء سجلًا علميًا مذهلًا سبق كل الأمم يقدر بثلاث عشرة بردية طبية تقدم العلوم الطبية فى شرح علمى ومتقن .

والغريب أن أحفاد تلك الحضارة لا يمتلكون تلك السجلات الطبيبة العظمية والفريدة فمنهم من يعرض فى إنجلترا و أمريكا وألمانيا والنمسا ولا يملك أصحابها حق المطالبة بها.

غير أن كثيرا من تلك الكنوز المعرفية خرجت من أرضها، في زمن غياب القوانين، وبعضها بطرق مشبوهة، لتُعرض اليوم في متاحف أوروبا وأمريكا تحت لافتة «الاكتشاف الأثري». وهكذا تحول الإرث العلمي المصري إلى تراث منهوب يدر على الآخرين علمًا ومكانة ومكاسب، بينما ما زالت مصر تطالب بحقها في استعادة تاريخها الفكري.

وقد باحت الحضارة المصرية القديمة لأبنائها ببعض أسرارها حيث  وجدت عشرات البرديات في مناطق مختلفة من مصر مثل الأقصر والفيوم وسقارة، إلا أن اثنتين منها تمثلان قمّة الفكر الطبي القديم، وهما: بردية إدوين سميث وبردية إيبرس.
هاتان الوثيقتان لم تُكتب فقط بالحبر على ورق البردي، بل نُقشت فيهما أول محاولة منهجية لفهم جسم الإنسان وتشخيص أمراضه، أي قبل أن يعرف العالم الإغريقي أو الروماني الطب الحديث بقرون طويلة.

بردية إدوين اسميث ( كتاب الجراحة العامة )

في منتصف القرن التاسع عشر، تحديدًا  فى عام  1862، عثر التاجر الأمريكي إدوين سميث في مدينة الأقصر على بردية بالغة الأهمية كانت بحوزة أحد تجار الآثار يدعى "مصطفى أغا"، دون أن يدرك حينها أنه يقتني أقدم وثيقة جراحية في تاريخ البشرية.

فتلك البردية كانت مكتوبة بالخط الهيراطيقي، ويعود أصل نسخها إلى  حوالي عام 1600 قبل الميلاد، وربما كانت نسخة عن نص أقدم يرجع لعهد الملك "زوسر" في الدولة القديمة.

تتألف بردية إدوين سميث من أربعٍ وأربعين صفحة تصف بالتفصيل نحو ثمانٍ وأربعين حالة إصابة في الرأس والرقبة والصدر والعمود الفقري و تعالج هذا البردية إصابات خلع المفاصل المختلفة حيث اتضح منه أن أجدادنا قدماء المصريين برعوا فى علاج تلك الإصابات والجراحات الدقيقة التى تحتاج اليوم إلى عمليات معقدة والمذهل أن البردية تتّبع منهجًا علميًا تحليليًا في التعامل مع الإصابات: تبدأ بـ الفحص البصري، ثم التحليل السريري، ثم التشخيص، وأخيرًا تقدير فرص الشفاء.

ورغم أن بعض المعارف الطبية في ذلك الوقت كانت ممزوجة بمعتقدات دينية، فإن هذه البردية تعد استثناء واضحا، إذ تخلو تقريبا من الطابع السحري الذي كان يدمج مع العلاج الطبى فى  الطب المصري القديم، وتعتمد على الملاحظة الدقيقة والتجربة العملية، وهو ما جعل العلماء الغربيين يعدّونها أول وثيقة علمية في تاريخ الطب البشري.

بعد وفاة إدوين سميث، انتقلت البردية إلى ابنته، ثم إلى الباحث الأمريكي "جيمس بريستد" الذي قام بدراستها وترجمتها في أوائل القرن العشرين، قبل أن تُودع عام 1930 في أكاديمية الطب بنيويورك، حيث تعرض اليوم كأحد أعظم مقتنيات المتحف الطبي الأمريكي.

وهكذا خرجت البردية من مصر دون أن تعود، لتتحول إلى مرجع علمي في جامعات العالم، فيما بقيت مصر  صاحبة هذا الإرث محرومة من الأصل ومجبرة على مطالعة صورته عبر المراجع الأجنبية.

بردية إيبرس موسوعة الطب العام

بعد أكثر من عقدٍ من اكتشاف بردية إدوين سميث، جاء العالم الألماني جورج إيبرس إلى مصر باحثًا عن الكنوز العلمية القديمة. وفي شتاء عام 1873، اشترى من أحد تجار الأقصر بردية ضخمة يبلغ طولها نحو عشرين متراً، وتضم 886 وصفة طبية تغطي مختلف فروع الطب، من الأمراض الباطنية والجلدية والعينية إلى أمراض النساء والولادة والجراحة والعظام.

تخطت بردية إيبرس كل البرديات الطبية الأخرى؛ وذلك فيما يتعلق بالأهمية، وثراء المحتوى، والكمال، والإتقان. فتُعد هذه البردية بمثابة الأكبر، والأروع كتابةً، والأفضل حفظاً من بين كل البرديات الطبية.،هذه البردية، التي تعود إلى حوالي 1550 قبل الميلاد، تُعرف اليوم باسم بردية إيبرس، وهي محفوظة في مكتبة جامعة لايبزيغ بألمانيا.

وما يميزها عن غيرها هو شمولها وثراؤها اللغوي، إذ تدمج بين الوصفات الطبية الدقيقة والأدعية الدينية، مما يعكس فلسفة الطب في مصر القديمة القائمة على العلاج المادي والروحي في آنٍ واحد حيث يعد العلاج الدينى من أحد اساليب العلاج النفسى الذى يكشف لنا أن المصرى القديم عرف العلاج النفسى .

ورد في نصوصها استخدام أكثر من 800 مكوّن طبيعي من نباتات وأعشاب ومعادن، بعضها ما زال يُستخدم حتى اليوم في الطب الشعبي، مثل العسل والمر والكمون والثوم. كما وصفت حالات معقدة لأمراض القلب والكبد والطفيليات والأورام.

لقد كانت بردية إيبرس بمثابة مرجع طبي موسوعي ساعد العلماء الأوروبيين في القرن التاسع عشر على فهم تطور الطب المصري، ومهدت الطريق أمام دراسات مقارنة مع الطب الإغريقي والروماني، ما جعلها من أعمدة التاريخ الطبي العالمي.

وفي هذا السياق، تناولت في أطروحتي العلمية بعنوان «أمراض العيون عند قدماء المصريين وطرق علاجها ومقارنتها بالعلاج الحديث»، تحليلًا تفصيليًا لما ورد في هذه البردية من وصف دقيق لأمراض العين مثل الرمد، والتهابات القرنية، والظفرة، وطرق علاجها باستخدام العسل والصمغ والنباتات الطبية. وتكشف هذه النصوص عن فهمٍ عميقٍ لتركيب العين ووظائفها، ما يؤكد أن المصريين القدماء كانوا روّاد طب العيون في التاريخ الإنساني. كما تبرهن المقارنة مع الطب الحديث أن بعض العلاجات الفرعونية ما زالت تحمل أساسًا علميًا يعتمد عليه الأطباء حتى اليوم.

كيف خرج هذا الإرث من مصر؟

تزامن اكتشاف معظم هذه البرديات مع فترة من الاضطراب الإداري في القرن التاسع عشر، حين كان تجار الآثار والمغامرون الأجانب يجوبون وادي النيل لشراء أو تهريب القطع الأثرية، وكانت القوانين حينها غائبة أو ضعيفة، ما سمح بنقل كثير من الكنوز الفكرية والفنية إلى أوروبا.فقد بيعت بردية إدوين سميث لتاجر أمريكي دون توثيق رسمي، فيما خرجت بردية إيبرس عبر وسطاء محليين إلى ألمانيا، وسط غياب أي رقابة مصرية حقيقية.

اليوم، تُعرض تلك البرديات في المتاحف والمكتبات الكبرى باعتبارها «ممتلكات علمية عالمية»، لكن الواقع أن مصدرها الحقيقي هو التراب المصري، وأنها تمثل تراثًا وطنيًا لا يقدّر بثمن.

الإرث المنهوب ودوره في النهضة الطبية الغربية

بعد انتقال هذه البرديات إلى الغرب، أصبحت أساسًا لكثير من الأبحاث في تاريخ الطب القديم ،فقد استعان العلماء الألمان والإنجليز والأمريكيون بمضامينها لفهم نشأة الطب العلمي ،وبفضل ترجمة بريستد لبردية إدوين سميث عام 1930، اكتشف الباحثون أن المصريين القدماء كانوا أول من وصف وظائف الدماغ والأعصاب، وتحدثوا عن السوائل النخاعية والكسور والتجبير والعلاج بالضغط وايضا أستطيع عن تجربتى الشخصية بان أثبت للعالم كله بان تلك البردية كانت إحدى مهارات الطبيب المصرى القديم فى علاج إصابات خلع المفاصل وأن طريقة رد مفصل الكتف التى تسمى باسم الألمانى كوتشر عام 1960 هى طريقة مصرية قديمة تعود إلى تلك البردية وذلك من خلال أطروحتى للعلمية التى تحمل إصابات خلع المفاصل عن قدماء المصريين وطرق علاجها ومقارنتها بالعلاج الحديث .

أما بردية إيبرس فقد لعبت دورًا كبيرًا في النهضة الطبية الأوروبية، إذ ألهمت الباحثين لإعادة دراسة الأعشاب والعلاجات الطبيعية، وأسست لفكرة العلاقة بين البيئة والمرض، وهي فكرة تبناها الطب الحديث لاحقًا.

وتتكون بردية "إيبرس" من 110 صفحات؛ وترجع إلى حوالي عام 1534 قبل الميلاد، في فترة حكم "أمنحتب الأول". واشتملت البردية على عدد من التعاويذ السحرية، وقسم لأمراض الجهاز الهضمي، وآخر للطفيليات المعوية، والجلد، وأمراض الشرج، وأطروحة صغيرة عن القلب، وبعض الوصفات الطبية التي اعتقدوا أنها كانت مستخدمة من قبل الآلهة. كما أنها قد اشتملت على أقسام مخصصة لعلاجات الصداع النصفي، واضطرابات المسالك البولية، والسعال، وأمراض الشعر، والحروق والجروح المختلفة، وأطراف الجسم (أصابع اليدين والقدمين)، واللسان، والأسنان، والأذن، والأنف، والحنجرة؛ ذلك بالإضافة إلى بعض حالات أمراض النساء وأمراض العيون ، والقسم الأخير الذي تناول الأورام الخبيثة.

وكانت هذه البردية قد كُتبت منذ حوالي سبعة آلاف سنة ماضية، وظلت مخبأة لما يقرب من أربعة آلاف سنة بين أرجل إحدى المومياوات المصرية القديمة حيث تم العثور على هذه البردية في مقبرة تُدعى باسم "أسيوط”، وهي جزء من مقبرة كبيرة في "طيبة"؛ وكانت البردية محفوظة بين أرجل إحدى المومياوات. ونظرا لوفاة مكتشف البردية، كان من المستحيل تحديد موقع تلك المقبرة التي حوت هذا الكنز النفيس. وبمساعدة العالم الشهير "لودويج ستيرن" (Ludwig Stern) وبعض علماء المصريات الآخرين، قام "إيبرس" بنشر حقيقة أن الطبيب اليوناني الشهير "أبقراط" (Hippocrates)، والذي ظل طوال 2300 عام معروفا لدى العالم أجمع على أنه "أبو الطب"، لم يعد لديه هذا الامتياز بعد الآن. فقد تم انتزاع هذا الامتياز من الطبيب اليوناني، بمجرد اكتشاف هذه البردية، والتي ترجع إلى عهد سحيق للغاية لدرجة أنها تضع "أبقراط" ضمن صفوف أطباء العصر الحديث.

هكذا، أسهم الإرث الطبي المصري المسروق في تطور المعرفة الطبية الغربية، لكنه ظل شاهدًا على فقدان مصر لجزء من ذاكرتها العلمية التي سبقت العالم بألفي عام.

ما بين السرقة والتقدير: معركة الوعي الثقافي

من الإنصاف القول إن الغرب أسهم في حفظ هذه البرديات من التلف عبر ترميمها وصيانتها، لكن من الظلم أن تبقى محجوبة عن مصر التي أنجبتها، فالمتاحف الغربية تجني اليوم ملايين الزوار سنويًا لمشاهدة آثار مصر، بينما لا يملك المواطن المصري رؤية تلك البرديات إلا عبر صور أو نسخ رقمية.

ولعل القضية ليست مادية بقدر ما هي ثقافية وهويّاتية؛ فاستعادة هذه البرديات  أو حتى نسخها الأصلية إلكترونيًا  تعني استعادة جزء من روح الحضارة المصرية القديمة حيث إنها ليست أوراق بردي فحسب، بل وثائق لذكاء الإنسان المصري وقدرته على البحث والتجريب، وهي شهادة حية على أن مصر كانت، وما زالت، منبع الطب والعلم.

إن قضية الإرث الطبي المنهوب تفتح الباب أمام حوار حضاري واسع حول حق الشعوب في تراثها الفكري والعلمي ،فالبرديات الطبية المصرية لم تكن مجرد أدوات علاج، بل كانت تعبيرًا عن فلسفة إنسانية متكاملة ترى في الطب رسالة مقدسة للشفاء والحياة ،لقد ساعدت هذه البرديات على تشكيل الفكر الطبي الغربي، لكنها خرجت من مصر في زمنٍ لم يكن العالم يعرف بعد معنى "الملكية الثقافية".

واليوم، وقد تغيّرت المفاهيم وأصبح الوعي بحقوق التراث أكثر نضجًا، فإن الوقت قد حان لأن تُعاد لمصر مكانتها المعرفية عبر مشروعات بحثية دولية مشتركة تتيح عرض هذه البرديات أو نسخها الأصلية في المتحف المصري الكبير أو في مكتبة الإسكندرية.

فكما استعادت مصر مومياواتها الملكية بموكب مهيب، يمكنها أن تستعيد  ولو فكريًا مومياواتها الفكرية من برديات الطب المنهوبة.

إنها ليست معركة ضد أحد، بل دعوة لاستعادة العدل العلمي وتذكير للعالم بأن أول طبيب في التاريخ كان مصريًا، وأن أول قسم أخلاقي للطب لم يُكتب في أثينا… بل على ورق البردي في طيبة.

أخبار الساعة