رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

رتيبة الحفني.. جنرال الأوبرا المصرية

2-12-2025 | 13:39

رتيبة الحفني

طباعة
همت مصطفى

في عالم تحكمه عصا المايسترو الذكورية، وقفت امرأة على منصة دار الأوبرا المصرية، لا لتغني فقط، بل لتقود، ولم تكن مجرد صوت سوبرانو يملأ القاعات، لكنها  كانت ثورة هادئة اخترقت أسوار التقاليد الصلبة.

«الجنرال رتيبة»، هكذا لقّبوها في كواليس الأوبرا المصرية، ليس استهانة  ولكن إجلالًا لقوة شخصيتها وحزمها في إدارة عالم الموسيقى الراقية؛ فمن قلب أسرة موسيقية عريقة، حيث كان والدها محمود أحمد الحفني رائد إدخال الموسيقى في المدارس المصرية، وجدتها مغنية أوبرا ألمانية، نشأت رتيبة محاطة بالنغمات والألحان، لتُصبح أول امرأة تتولى منصب مدير دار الأوبرا المصرية، محطمةً بذلك جدران التقاليد الصلبة.

قدمت رتيبة الحفيني أكثر من 500 عرض أوبرالي على مسارح القاهرة وباريس وميونخ، 29 عامًا في عمادة معهد الموسيقى العربية، وأول امرأة تدير دار الأوبرا المصرية. هذه ليست مجرد أرقام في سيرة ذاتية، بل هي شهادة ميلاد لعصر جديد آمنت فيه امرأة بأن الموهبة لا جنس لها، وأن الفن رسالة تستحق أن تُكتب بحروف من نور.

البداية.. طفولة وسط النغمات

ولدت رتيبة الحفني في  مثل هذا اليوم 2 ديسمبر 1931 بالقاهرة، وكانت نشأتها في أسرة لم تكن الموسيقى فيها هواية بل هُوِيَّة، والدها، محمود أحمد الحفني، كان رائد إدخال الموسيقى في المدارس المصرية ومؤلف 45 كتابًا في الموسيقى، و كانت جدتها لأمها مغنية أوبرا ألمانية، في هذا البيت المفعم بالألحان، أجادت رتيبة عزف البيانو وهي في الخامسة، وتعلمت العود على يد الموسيقار محمد القصبجي، لتبدأ رحلة عشق مع الموسيقى لم تنتهِ إلا برحيلها ودفعها حبها للموسيقى إلى صقل تلك الموهبة بالدراسة الأكاديمية

الدراسة.. من القاهرة إلى أوروبا

حصلت رتيبة الحفني على دبلوم المعهد العالي لمعلمات الموسيقى  (كُلِّيَّة التربية الموسيقية حاليًا)  عام 1950م، لكن طموحها لم يقف عند حدود القاهرة، سافرت إلى برلين وميونخ لدراسة الفن الشعبي والغناء الأوبرالي، وحصلت على أعلى مؤهل متخصص في الغناء الأوبرالي من المدرسة العليا للموسيقى في ميونخ عام 1955م، المعادل للدكتوراه المصرية،  كما نالت دبلومًا في قيادة الكورال وتعليم الغناء الأوبرالي من معهد كراينر في لوكسمبورج 1955م.

وعند عودة  رتيبة الحفني إلى القاهرة بعد أن ذاع صيتها  في الغناء والموسيقى ومحملة بالعلم والخبرة، رشحها  الرئيس الراحل جمال عبد الناصر  لأحد الأدوار الفنية، و قام بالتوصية بها بشكل شخصي في دار الأوبرا المصرية بالقاهرة وغنت في أوبريت الأرملة الطروب في عام 1961 ومثلت بدور البطولة في أوبرا «عايدة» العالمية الشهيرة  لـ فيردي في باريس.

المناصب: ثلاثة عقود من القيادة

عمادة معهد الموسيقى العربية (1951-1986)
بدأت رتيبة مسيرتها الأكاديمية معيدة في المعهد العالي لمعلمات الموسيقى عام 1950م، ثم انتُدبت لعمادة معهد الموسيقى العربية  (قسم البنات) عام 1951م، وهو في طور إنشائه الأول،ا قمت بالإدارة كاملة لعمادة المعهد الموسيقى العربية، عام 1962م،و  ظلت عميدة للمعهد لمدة 29 عامًا، حولته خلالها إلى صرح فني وأكاديمي رفيع المستوى، والذي تحول إلى المعهد العالي للموسيقى العربية،

رئيسة البيت الفني للموسيقى والأوبرا (1980)
تولت منصب رئيسة البيت الفني للموسيقى والأوبرا بدرجة وكيل وزارة، لتكون بذلك واحدة من أوائل النساء اللاتي وصلن إلى هذا المستوى القيادي في وزارة الثقافة المصرية، وتم إعادة تعيينها كعميدة في المعهد العالي للموسيقى العربية، عام 1986، ورئيس للمركز الثقافي القومي (دار الأوبرا) من يونيو 1988م حتى مارس 1990م، وأستاذة متفرغة بأكاديمية الفنون (المعهد العالي للموسيقى العربية).

مديرة دار الأوبرا المصرية (1988-1990)
في يونيو 1988، حققت رتيبة إنجازًا تاريخيًا بتوليها منصب رئيس المركز الثقافي القومي (دار الأوبرا)، لتصبح أول امرأة تدير هذا الصرح الفني العريق،  استمرت في المنصب حتى مارس 1990م، تاركة بصمة لاتُمحى في تاريخ الدار.

الإنتاج الفني والإعلامي: نشر الوعي الموسيقي

قدمت رتيبة أدوار البطولة في الأوبرات العالمية في مصر وأوروبا وأمريكا، وأشرفت على الموسيقى في البرنامَج الثاني بالإذاعة المصرية من 1957م إلى 1960م، كما أعدت وقدمت برنامج «الموسيقى العالمية» بالتلفزيون منذ عام 1960، وبرنامج «مع الموسيقى العربية» لمدة 22 عامًا.

أعدت مسلسلًا موسيقيًا تعليميًا للأطفال من 30 حلقة باسم «اللحن المفقود»، وقدمت صورًا غنائية خاصة بأعلام الموسيقى  المبدعين المتفردين مثل محمد القصبجي وسيد درويش وسيد مكاوي ضمن فعاليات مهرجان الموسيقى العربية.
المؤلفات..  توثيق التاريخ الموسيقي
ألّفت رتيبة الحفني كتبًا مهمة في تاريخ الموسيقى العربية، منها: «أم كلثوم معجزة الغناء العربي» 1996م، «محمد عبد الوهاب: حياته وفنه» (1991م)، «محمد القصبجي: الموسيقار العاشق» (2006)م، «السلطانة منيرة المهدية والغناء في مصر قبلها وفي زمانها» (2002م)، «الموسوعة الموسيقية للأطفال» (50 جزءًا) - مصر ولبنان (1992)م «الصولفيج» الكويت (1977م)

الحياة الشخصية.. بين الفن والأسرة
تزوجت رتيبة مرتين: الأولى من الموسيقار مصطفى ناجي وأنجبت منه ابنتها ماجدة، والثانية من المايسترو أحمد عبيد وأنجبت منه ابنتها علا، و نجحت في التوفيق بين حياتها الأسرية ومسيرتها الفنية الحافلة، مثبتة أن المرأة قادرة على النجاح في كل الميادين.

التكريم.. تقدير لرائدة  الموسيقى العربية
حصلت رتيبة على جائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة المصري عام 2004م، وكرّم مهرجان الموسيقى العربية اسمها في دورته الـ 25 وسلّم أسرتها جائزة أوسكار المهرجان، واحتفل محرك البحث جوجل بذكرى ميلادها الـ 86 تقديرًا لمشوارها الفني والموسيقي.

الرحيل: وداع من قلب الأوبرا
في 16 سبتمبر 2013، توقف قلب رتيبة الحفني بعد هبوط في الدورة الدموية، عن عمر ناهز 82 عامًا قضتها في إثراء الفن المصري والموسيقى الراقية، و أوصت أن تُشيّع جنازتها من مسجد دار الأوبرا، المكان الذي أحبته وأعطته عمرها، في مشهد مهيب يليق بامرأة عاشت ورحلت وسط النغمات.

شكّل رحيل  جنرال الأوبرا المصرية رتيبة الحفني، صدمة لكل محبي الفن الراقي، وخسارة كبيرة لا يسهل تعويضها، ولكن إرثها الفني والأكاديمي يبقى شاهدًا على امرأة آمنت بأن الموسيقى لغة عالمية، وأن القيادة فن يتقنه من يملك الإرادة والموهبة، بغض النظر عن النوع.

رتيبة الحفني  اسم نُقش بحروف من ذهب في تاريخ الفن المصري والعربي، وقصة ملهمة لكل امرأة تحلم بأن تقود وتبدع في عالم يحاول أن يحصرها في قوالب جاهزة، إنها «الجنرال» الذي لم يحمل سلاحًا إلا عصا المايسترو، ولم يخض حربًا إلا ضد التقاليد البالية، ولم ينتصر إلا للفن الراقي والموسيقى الخالدة.

 

أخبار الساعة