أكد الدكتور مهندس محمود مالك علوان، عضو المجلس الأعلى للطرق الصوفية، وشيخ الطريقة العلوانية الخلواتية، أن احتفالات المصريين بموالد الأولياء والصالحين من آل بيت النبى صلى الله عليه وسلم إنما هى تعبير عن المحبة من جموع المصريين لهؤلاء الأولياء الربانيين الذين اصطفاهم الله تعالى.
«د. علوان»، أوضح أيضا فى حديثه لـ«المصور»، أن كل ممارسة أو طقوس تقع فى الموالد وتنافى الشرع الشريف، إنما وقعت من مدعٍّ أو مدلس، خارج عن الفهم الصحيح للتصوف السنى الشرعى، وخارج عن منهج الإسلام القويم.
كما طالب شيخ الطريقة العلوانية الخلواتية، بتصحيح المفاهيم المغلوطة، وتبيان الحقائق للناس، ورفع اللبس عن الموالد، والتمييز بين الاحتفال الشرعى السنى الجائز، وبين الاحتفال بخرافات وطقوس تثير الجدل، تهدم ولا تبني.. وكان الحوار التالى:
بداية، شهدنا قبل أسبوعين احتفال المصريين بمولد «شيخ العرب» أحمد البدوى فى طنطا، ثم شهدنا الأسبوع الماضى الاحتفال بقدوم رأس الإمام الحسين إلى مصر، ونحتفل هذا الأسبوع بمولد القطب إبراهيم الدسوقى، والمحبون وأهل التصوف يعرفون قدر الأولياء، ويحضرون موالدهم بمحبة ومودة، لكن بعض المنكرين للأولياء يذمون الموالد، خاصة أن بعض الجهلاء تقع منهم مخالفات شرعية تسيء إلى موالد الأولياء، فماذا تقول عن تلك القضية القديمة الجديدة، والتى شغلت ملايين الناس مؤخرا، وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعى؟
الاحتفال بموالد الأولياء يعد تعبيرا عن محبة الأولياء الربانية، ولكن كل ممارسة تخرج عن إطار الشرع تعتبر دليلا واضحا على أن منْ يقوم بذلك ما هو إلا مدعٍّ للورع، ومدلس، يقوم بالغلو فى حق الأولياء، وتقديسهم، ونسب صفات إلهية لهم، أو من خلال حركات يروج لها دون وجود أساس شرعى لها، ويزعم أنها من الورع، كما يسمح هذا المدعى بالاختلاط غير الجائز بين الرجال والنساء فى السرادقات، وهو اختلاط محرم شرعا، ويؤدى لخرق الآداب العامة والحياء، إضافة إلى تفويت الصلوات المفروضة، أو التهاون فى الواجبات، بحجة الانشغال فى المولد، أو التحدث بكلام غير مفهوم، أو صراخ مرفوض شرعا، وكل ما يثير الفوضى مرفوض شرعا وعرفا وقانونا، ويعد ادعاءات غير صادقة، وكل منْ يقوم بذلك إما مدعيا متصنعا التصوف، أو جاهلا لا علم عنده، وفى الحالتين هو يمثل نفسه، ولا يمثل التصوف.
أما الاحتفال بالأولياء فهو ظاهرة دينية وثقافية ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية، وهو ما نطبقه فى مولد (سيدى أبو علوان) فى بلبيس، حيث نركز على الاقتداء الكامل برسول الله صلى الله عليه وسلم، والتركيز على الجانب الروحى من خلال إقامة المجالس لتلاوة القرآن والتدبر، ومجالس الذكر الشرعى، والصلاة على النبى، مع التزام الهدى النبوى، والآداب العامة.
إن محبة الأولياء قدوة توجه السلوك العام للمحب سواء كان متصوفا أو غير متصوف، حين يحقق الإنسان الفقر إلى الله تعالى، بقوله: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغنى الحميد)، آية 15 من سورة فاطر، والخضوع لله، والتمسك بالعقيدة الصحيحة، من خلال الرجاء من الله وحده، والإيمان الصادق بالله ورسوله، ومن آليات تحقيق الاتباع قبل الادعاء، الإيمان والعلم والعمل والرياضة الروحية، والتى منها، مجالس الذكر الشرعى وفق الآداب المطلوبة التى تتسم بالهدوء والوقار، وإقامة الندوات العلمية تحت إشراف علماء الأزهر والأوقاف، وإلقاء محاضرات توعوية عن الاقتداء بأعمال وأحوال الأولياء الصالحين للوصول إلى العبودية الكاملة والخالصة لله وحده، مع خدمة الوطن والمجتمع المحلى من خلال دعم الأفراد ومنظومة الأسرة، وتوزيع الصدقات، وخدمة الزوار، وعابرى السبيل، دون تمييز بينهم، مهما كان اعتقادهم، أو وضعهم الاقتصادى أو الاجتماعى، فإطعام الطعام ظاهرة ثابتة فى كل الموالد عملا بقوله تعالى: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا)، الآيات 8 و9 من سورة الإنسان.
إذن الاحتفالات هى شرعية سنية، وكل الطرق الصوفية تعارض كل مخالفة شرعية تقع فيها، حتى لو وقعت ممن ينتسب للتصوف، أليس كذلك؟
نعم، فالطرق الصوفية جميعها طريقها هو الاتباع الكامل لسنة النبى صلى الله عليه وسلم، والمحبة الشرعية للأولياء والصالحين، والخدمة الخالصة لله فى الوطن والمجتمع، وإنما الأعمال بالنيات، والاحتفالات الصوفية تطبيق عملى للآية الكريمة: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم، والله غفور رحيم)، آية 31 من سورة آل عمران، لذلك نحن كأعضاء منتخبين للمجلس الأعلى للطرق الصوفية، وكمشايخ طرق نعمل باستمرار على منع التساهل مع كل ما يشوب التوحيد الخالص، أو يخالف الشريعة، مع معالجة ذلك بالحكمة والرفق والموعظة الحسنة، كما تعلمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هل تصححون مفاهيم العوام أو البسطاء، وتردون على المنكرين الذين يرمون كل الصوفية بالشرك والبدع؟
نعم، تصحيح المفاهيم مهم، ومن هذا المنطلق نقول ونؤكد أن كل منْ شهد بأنه لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، لا يجوز له أن يقبل ما يتعارض مع هذا الركن العظيم، من عقيدة أو سلوك، أو آداب عامة، ومسلكنا الصحيح كمحبين، وأهل تصوف حقيقى، شرعى سنى، هو السعى نحو مقام الإحسان كما وصفه النبى صلى الله عليه وسلم: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، لذلك نحن أول منْ يرفض رفضا قاطعا كل ما يمس جوهر التوحيد الوارد فى سورة الإخلاص: (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد)، ونقف بحزم ضد كل ما يخالف آداب الشريعة، بل نقوم دائما على إصلاح تلك الأوضاع بالحكمة والموعظة الحسنة والرفق.
ما تفسيرك للحملة الشديدة هذه المرة على الصوفية وموالد الأولياء، لدرجة أن المشيخة العامة للطرق الصوفية أصدرت بيانا توضيحيا، وكذلك نقابة الأشراف، ودار الإفتاء المصرية، وتصدى الأزهر وشيخه وعلماؤه للحملة ضد الأولياء؟
نحن جميعا نعلم أن الشعب المصرى متدين بالفطرة، ومحب للخير والجمال والحق، هذا الشعب الكريم هو الذى استقبل السيدة زينب بنت الإمام على، وركبها من آل البيت من أرامل وأطفال، وعرف قدرهم، وأسكنهم فى القلب قبل الأرض، وهو نفس الشعب الكريم الذى استقبل رأس الإمام الحسين فى العصر الفاطمى، وهو الشعب الذى اختاره أئمة أهل البيت، وكبار الأولياء ليسكنوا بين أهله، وفى أرض مصر، وتعلق المصريين بالصالحين قديم جدا، فقد أحبوا النساك، وقدروهم فى كل شريعة من يهود ونصارى، والدليل أن المصريين هم منْ حموا وأخفوا (بنيامين) كبير نصارى مصر من الاضطهاد الرومانى، واحتضنوا الرهبان فى الأودية والصحارى، وأقاموا الموالد للقديسين كما أقاموها لآل البيت، فالمصرى متدين، يقدر الصالحين، ويتبارك بهم فى كل عصر، دون تقديس، أو عبادة، أو غلو.
أيضا الموالد هى بمثابة حصن حصين حمى هوية مصر من الغلو يمينا أو يسارا، فلم تعرف تربة مصر التطرف المقيت، ولا التحرر المبتذل، وليست أرضا صالحة لنمو الإرهاب، ولا الإلحاد، بل إن المصريين يكرهون الإرهابيين والملحدين بفطرتهم النقية السوية.
ومن هنا فالموالد أمن قومى لمصر، واحتفالات تشيع البهجة والفرحة بين الناس، ولها أبعاد اجتماعية حيث تقوى الروابط بين الناس والعائلات، ولها أبعاد اقتصادية برواج صناعة الحلوى ولعب الأطفال، فهى مواسم للعبادة وللتجارة وللبهجة.
والموالد كما نعرفها كصوفية، وكأبناء مشايخ كبار توارثوا الاحتفال بها جيلا من بعد جيل، هى تطبيق عملى لدعوة النبى صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة المنورة فقال للناس، لكل الناس: (أيها الناس أفشوا السلام، وصِلوا الأرحام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا جنة ربكم بسلام).
من هنا أصدرت المشيخة العامة للطرق الصوفية بيانا بعد الحملة الشرسة على مولد سيدى أحمد البدوى، كما أصدرت نقابة السادة الأشراف بيانا، وأصدرت دار الإفتاء المصرية بيانا، وجميع البيانات أكدت على شرعية موالد آل البيت والأولياء والصالحين، وأكدت على صحة نسب الأولياء الكبار، فالسيد أحمد البدوى شريف حسينى، كان شقيقه الأكبر الشريف حسن زعيم الأشراف فى مصر، وباسمه شارع حسن الأكبر فى حى عابدين، ومقامه داخل قصر عابدين، وسيدى إبراهيم الدسوقى شريف حسينى حسنى من جهة أبيه وأمه، وشيخ الإسلام فى عصر، حيث اختاره الظاهر بيبرس لهذا المنصب، وكان السلطان خليل بن قلاوون، يرسل إليه طالبا الدعاء ويصف نفسه بـ«مملوك وخادم الدسوقي»، وقد بشره سيدى إبراهيم الدسوقى بفتح عكا والنصر على الصليبيين، أما الإمام الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، والسيدة فاطمة النبوية، وسيدى على زين العابدين، وغيرهم فهم من كبار أئمة أهل البيت فى مصر، ولا شك فى سيرهم النورانية، وقربهم كذرية من حضرة النبى.
على ذكر إبراهيم الدسوقى الذى نحتفل بمولده هذه الأيام، اذكر لنا خلاصة من سيرته المباركة؟
هو القطب الهاشمى القرشى، شيخ الإسلام، أبو العينين، إبراهيم بن عبد العزيز أبو المجد، وينتهى نسبه لسيدنا الحسين من جهة أبيه، ولسيدنا الحسن من جهة أمه، ولد سنة 653 هجرية، كان قطبا نورانيا، وله تلاميذ عظام، وانتشرت طريقته فى كل من مصر والشام واليمن والحجاز والسودان وغيرها، دخل الخلوة ومكث بها سنوات فى معية الله، ولم يخرج منها إلا بسبب وفاة والده، وله مؤلفات فى التوحيد والفقه والتفسير والتصوف، وهو من أعلام التصوف الإسلامى، وحين نلتقى فى رحابه نعمل على تواصل الأجيال، وندعو الناس للاقتداء به فى أخلاقهم وسلوكهم ومواقفهم التى اتسمت بالشجاعة الأدبية والكرامات الربانية، وإلى جانب أعماله وكراماته كانت له مواقفه الوطنية فى خدمة بلاده والعباد، وهذا شأن الأولياء يجمعون بين أبناء الوطن الواحد للاقتداء بهم، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه واحشرنا مع الأنبياء والشهداء وحسن أولئك رفيقا. وبهذه المناسبة ندعو لتنقية التصوف من الدخلاء، وندعو الشباب أن هلموا لمجالس الذكر وصحبة الصالحين واتركوا مجالس الحاقدين والمتشددين والكارهين، واملأوا قلوبكم بالحب والتواضع والتسامح، واملأوا الدنيا عملا وعطاء وخيرا وسلاما، فالإسلام دين عمل ويقين ورحمة وغاية الرسالة المحمدية العالمية الرحمة لكل البشر: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، اللهم اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا سخاء رخاء، وأن يوفق ولاة أمورنا لما فيه الخير.
أخيرا نختم بوصية غالية من وصايا الدسوقى لمريديه:
(يا فلان ليكن زادك كتاب الله وسنة نبيه، وأن تقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وأن تحج البيت إن استطعت إلى ذلك سبيلا، وأن تطيع الأوامر الشرعية، ولا تنظر لزخارف الدنيا، ولا تنشغل بالبطالة). فقد كان لا يقبل بين تلاميذه عاطلا عن العمل، وسمى (أبو العينين) لدرايته بعلمى الشريعة والحقيقة، وقد ربى رجالا ملأوا الدنيا علما وأدبا، وقد قلده كثيرون، وانتشرت طريقته فى معظم البلاد العربية والإسلامية، وكان رضى الله عنه عالما وشاعرا وفى مكتبة لندن قصائد مخطوطة له.
ختاما، ما هو التصوف الحق؟
التصوف الحق إخلاص العبادة لله، وتصفية الروح، وتطهير النفس، والتحلى بالأخلاق الحميدة، وأن يبلغ الإنسان درجة الإحسان التى هى أعلى درجات الإيمان، وكما قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين)، والإحسان كما عرفه النبى: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فهو يراك)، ورسول الله قدوتنا فى أخلاقه ودعوته إلى الله، فهو الرحمة المهداة للعالمين، وقد وصفوه بأنه قرآن يمشى على الأرض، فما أروع أن نتأسى به ونسير على درب الأولياء الصالحين، وأن ننشر قيم التسامح والمحبة والإخاء ونشارك فى مسيرة وطننا الغالى، فالأمم لا تبنى إلا بالأخلاق والعلم والعمل.