فى الذاكرة العربية المعاصرة، ارتبطت هذه المدينة المضيئة بعميد الأدب العربى طه حسين، الذى وصفها بأنها «المدينة الأكمل والأجمل»، ولعل عبارته الشهيرة «مدينة الجن والملائكة» هى أصدق تعبير عن سحرها العميق وأثرها البالغ فيه عند وصوله إليها عام 1914.
والآن، بعد أكثر من قرن من الزمن، ما زالت باريس تشع بنور العلوم والمعارف، وتتجمل بإبداعات الفنون، غير أنها رغم كل هذا البريق، تتعثر أحيانًا فى «فن قبول الآخر»، ذلك الفن الذى لا يُقاس بالمعالم الثرية ولا باللوحات الفنية، بل يُقاس بما تم غرسه فى القلوب والعقول.
لذا ففى ظل تحولات المجتمع الفرنسى فى العقود الأخيرة، أدرك القائمون على الملف التعليمى أن هذا القبول ليس غريزة يولد بها الإنسان، لكنه مهارة وفن يُكتسبان بالتجربة والتربية والانفتاح على الاختلاف، فأدرجوا فى المناهج التربوية ما يُعرف بـ«دروس الحياة» ضمن المقررات الدراسية، وهى حصص إجبارية، تزداد أهميتها يومًا بعد يوم ويصقل محتواها؛ حيث يَدرِس الطفل مفهوم «قبول الآخر» بوصفه قيمة أساسية فى الحياة، ورغم أن فكرة قبول الآخر تبدو أحيانا صعبة لأن النفس البشرية تميل إلى التشابه، وإلى ما يوافق أفكارها ومعتقداتها. لكن مع الوعى والنضج، يبدأ الإنسان منذ طفولته بإدراك أن الاختلاف لا يهدّد وجوده، بل يثريه.
قد لا يصل الجميع إلى «فن» قبول الآخر، لكن منْ يسعى بصدق لفهم الناس، ويضع نفسه مكانهم، ويتأمل أن لكل شخص حكاية ووجهة نظر وظروفا، يقترب أكثر فأكثر من هذا الفن بل ويجيد ممارسته.
مع نهاية القرن العشرين، وبعد أن صكّ جوزيف ناى مصطلح «القوة الناعمة»، برزت معه قيم كثيرة تحمل فى طياتها دعائم للتفاهم والتقارب، كان من أبرزها «قبول الآخر»، لكن ما أودّ أن أؤكده هو أن «قبول الآخر» ليس مجرد شعار سياسى يُرفع فى المظاهرات أو المؤتمرات، بل هو رحلة طويلة تبدأ من الأسرة، وتغرس جذورها فى المدرسة، وتتعمق عبر الثقافة العامة، كما أودّ أن أؤكد أن المجتمعات التى استثمرت فى تربية أبنائها على قيم التعددية والاحترام نجحت فى بناء نماذج للتعايش، بينما تلك التى أهملت هذه القيم، فقد وجدت نفسها أسيرة صراعات الهوية والخوف من المجهول.
عزيزى القارئ
أود أن أنبهك إلى شعرة معاوية بين «قبول الآخر» فى إطاره الأصيل كجزء من منظومة القيم الإنسانية، وبين تسييس هذا المصطلح حين يُختزل فى خطابات المصالح أو يُستغل لتبرير مواقف متناقضة.
الفارق كبير والأهداف شبه عكسية ومتناقضة!
فقبول الآخر، فى بُعده الإنساني، يقوم على الاعتراف بكرامة الإنسان وحقه فى الاختلاف، وعلى بناء جسور الحوار التى تعزز التعايش والسلام، أما حين يتم تسييسه، فإنه يتحول إلى شعار انتقائى يُرفع فى ساحات معينة ويُسقط فى أخرى؛ فتُساند قضايا بعينها بينما تُقصى أخرى، ويصبح المصطلح مجرد أداة للنفوذ لا قيمة أخلاقية بحد ذاته. وهنا يضيع جوهر الفكرة، لأن قبول الآخر لا ينبغى أن يكون ورقة سياسية، بل قاعدة إنسانية راسخة.
فعلى سبيل المثال، المشاهد المتناقضة التى نراها اليوم، بين رفض المهاجر فى أوروبا، ومساندة الفلسطينى فى أستراليا، والتقارب الصينى الإفريقي، تكشف أن السياسة ليست سوى مرآة لما غُرس فى النفوس منذ الصغر.
فنستطيع أن نقول ونعلى الصوت إنه حين تكون الثقافة جسرًا، تصبح السياسة إنسانية وواعدة، وحين تتحول إلى جدار، تنقلب السياسة إلى صراع دائم مع «الآخر»، كأنها مرآة تكشف ما يضطرب فى أعماقنا قبل أن تُظهره للعالم.
وعلى هذه الخلفية، أطرح فى قلب مقالى هذا مجموعة من الأسئلة التى أرى أن الجواب عليها هو ذاته الجواب الصائب على السؤال الحائر: هل تَعَلم الإنسان فن قبول الآخر؟
كيف تتعامل الأم مع أبنائها لغرس بذور الفكر السليم فى عقولهم؟
كيف يشكل المعلّم وجدان تلاميذه فى تناول الأفكار العقائدية والتصدى للتطرف والتجمد الفكري؟
كم أغوى الكتاب المدرسى بحكاياته وصوره وحواديته عن تجربة الأجداد قلوب وعقول التلاميذ؟
وهل الأم كانت بالفعل مدرسة تم إعدادها لإعداد شعب طيب الأعراق؟ أم أنها انشغلت أحيانًا ببريق الاستهلاك وموضات الشهرة السطحية، فضاعت رسالتها التربوية
تأتى الإجابات عن هذه الأسئلة لتوضح وضوح الشمس، ضرورة الاستناد إلى التربية والثقافة معًا، فهما وجهان لعملة واحدة، وبهاتين الركيزتين يُصنع مستقبل الأمم. إما أن تُنجب أجيالًا تحمل بذور الانفتاح وقادرة على تحويل الاختلاف إلى طاقة خلاقة، وإما أن تُلقى بأبنائها فى ظلال الانغلاق والخوف، فتظل المجتمعات عالقة فى صراع مع «الآخر»، وكأنها تعيد امتحان الإنسانية من جديد.
ومن هنا ندرك أن «قبول الآخر» ليس ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل حجر الأساس لأى مشروع حضارى يسعى إلى البقاء والتطور ومواجهة تقلبات السياسة وصراعات الهوية، والحقيقة أنه ونحن نعبر العقد الثالث من الألفية الثالثة، يبدو جليًا أن نجاح المجتمعات لا يُقاس بما حققته من منجزات مادية فحسب، بل بقدرتها على أن تُعلّم أبناءها كيف يعيشون مع المختلف عنهم بسلام.
وفى المقابل، يظهر ضعف الاستثمار فى التعليم والتربية النقدية كأحد الأسباب الرئيسة وراء عجز بعض المجتمعات العربية عن التعامل مع «الآخر»، خصوصًا حين يكون مختلفًا دينيًا أو ثقافيًا. وهو السبب ذاته الذى أفسح المجال لظهور أنماط من التعصب والانغلاق حلت محل قيم الحوار والانفتاح، فانعكس ذلك مباشرة على المشهدين السياسى والاجتماعى المعاصرين.