تحويل النفايات إلى موارد (الاقتصاد الدائري) يقلل التلوث، يوفر خامات لصناعات محلية، ويولد فرص عمل ويخفف ضغط استهلاك الموارد الطبيعية، مما يجعلها ركيزة للتنمية المستدامة.
هذا وتشير التقارير الدولية الحديثة كتقرير UNEP / Global Waste Management Outlook (2024) إلى ارتفاع هائل فى إنتاج النفايات بصيغة شاملة عند حوالى 2.1 مليار طن فى 2023 مع توقعات بالارتفاع إلى 3.8 مليار طن سنوياً بحلول 2050؛ إذا استمرت وتيرة تصاعد إنتاج النفايات بنفس الحال، كما أشارت التقديرات إلى أن التكلفة المباشرة العالمية لإدارة النفايات كانت تقارب 252 مليار دولار فى 2020، وترتفع عند احتساب التكاليف الخفية، كما تشير التقديرات حسب مصادر أكاديمية ورسمية إلى أن مصر تنتج نحو 90–100 مليون طن من النفايات سنوياً تشمل المخلفات بأنواعها المختلفة؛ أى ما يوازى عشرات آلاف الأطنان يومياً (حوالى 50–70 ألف طن/ يوميا وفقا لتقارير محلية).
هذا وتشير التقارير إلى أن حجم سوق إدارة النفايات العالمى يوازى تريليون دولار سنوياً (تقديرات 2024–2025)، هذا الرقم يشمل خدمات الجمع، المعالجة، إعادة التدوير، تحويل النفايات إلى طاقة والخدمات الهندسية، كما وتشير التقارير العالمية أيضا إلى أن السوق المصرى يتوسع بمعدل نمو سنوى مركب يتجاوز 6–7 فى المائة نتيجة المشاريع الحكومية (برنامج الإدارة القومية للنفايات)، والاستثمارات الأجنبية والمحلية فى محطات فرز وتحويل وسماد وتحلل (التسميد) ومحطات الوقود الحيوي.
تلك المؤشرات تعكس نمو الوعى العالمى بصناعة إدارة النفايات، وهو ما يظهر من خلال ممارسات فاعلة للدول المتقدمة فى هذا السياق، تتمثل فى سياسات قوية للحد من الطمر (landfill diversion)، أنظمة فرز متقدمة، وقوانين مسئولية المنتج الممتد (EPR)، تلك السياسات تسلّط الضوء على ثلاثة عوامل نجاح: إطار تنظيمى واضح وقوانين حوافز/عقوبات، بنية تحتية للفرز والمعالجة، وإدماج القطاع غير الرسمي/الخاص فى سلسلة القيم، هذا وتبرز تلك السياسات فى عدد من الدول الأوروبية كألمانيا والسويد وهولندا، وعدد من دول شرق آسيا مثل كوريا واليابان.
وهنا نطرح سؤالا: كيف يمكن لجمهورية مصر العربية أن تتبنى آليات فاعلة تساعد فى نمو صناعة إدارة النفايات بها، بما يدعم جهودها فى الارتقاء بنواتج وخطط ورؤى التنمية المستدامة التى تتبناها الحكومة المصرية؟
وفى هذا السياق نجد أن الأنسب هو تبنى حزمة من الآليات المدعومة بتجارب دولية ومبادرات محلية، لعل أبرزها:
تحديث الإطار القانونى والتنظيمى وتفعيل المسئولية الممتدة للمنتج (EPR) بحيث يتم تفعيل قوانين تُلزم المنتجين بالمساهمة فى تكلفة جمع وإعادة تدوير منتجاتهم (تغليف، إلكترونيات، مركبات، بلاستيك)، وفرض حصص فصل/ استرجاع، يخلق سوقاً دائماً للمواد المعاد تدويرها، ويخفض العبء على المال العام. وهذا ما تبنته دول أوروبية ونجحت فى إرساء سلاسل قيمة لإعادة المواد.
الاستثمار فى البنية التحتية للفرز والمعالجة والسماد ومرافق تحويل الطاقة بحيث يتم خلق آلية بديلة من الاعتماد على الطمر، وتوسيع وحدات الفرز الميكانيكية- البيولوجية، مصانع التسميد للعضويات، ومشروعات تحويل الغاز الحيوى والطاقة من النفايات (مع تقييم بيئى دقيق). حيث أثبتت التجربة المصرية فى مشاريع محلية وبرامج مدعومة دولياً أن محطات فرز صغيرة متنقلة قادرة على إدماج القطاع غير الرسمى ورفع معدلات التدوير.
آليات تمويل مستدامة (خليط من الموازنة العامة، قروض تنموية EPR، رسوم خدمات)
بحيث يتم توفير آلية تمويلية مستدامة عبر صندوق بيئى (Environmental Protection Fund)، يعتمد على (تمويل حكومى، وقروض تنموية - رسوم جمع مرتبطة بالخدمة)، وذلك لتقديم تسهيلات ائتمانية للمشروعات الصغيرة لإقامة محطات فرز أو مصانع سماد يضمن توسعا مستداما.
وضع سياسات لتحفيز الطلب على المواد المُعاد تدويرها (حوافز ضريبية، مقاعد فى المناقصات الحكومية للمنتجات المعاد تدويرها).
بحيث يتم خلق سوق داخلى لمنتجات مُعاد تدويرها (أكياس، أسمدة، بلاستيك مُعالج) عبر إعفاءات ضريبية أو تفضيل فى عقود الإنشاء والدولة يزيد الطلب، ويضمن استدامة سلاسل قيمة؛ حيث إن دراسات الاقتصاد الدائرى تؤكد أن الربط بين العرض والطلب أساسى لنجاح القطاع.
بناء القدرات والتوعية المجتمعية والتعليم البيئي
بحيث يتم إطلاق مبادرات هادفة للتوعية بالفرز من المصدر وبرامج تعليمية فى المدارس والجامعات، إلى جانب تدريب فِرق تشغيلية للفرز والمعالجة، بما يحسّن نتائج البرامج ويقلل التكاليف التشغيلية؛ حيث إن نجاح الدول الرائدة رُبط دائماً ببرامج تعليمية شاملة.
جدير بالذكر أن المساعى الحكومية المصرية بصدد إدارة النفايات وصناعتها متنامية بشكل مستمر، متمثلة تلك المساعى فى جهود وزارة البيئة حجر الزاوية فى كافة المبادرات البيئية، وذلك بالتعاون مع وزارة التنمية المحلية، وزارة الإسكان، وزارة الزراعة والصناعة. كما يشارك شركاء دوليون مثل الاتحاد الأوروبى والوكالة الألمانية للتعاون الدولى GIZ، ولعل أبرز المبادرات التى أطلقتها الحكومة المصرية مع شركائها الدوليين خلال العقد الأخير بهدف تطوير منظومة إدارة المخلفات الصلبة وتحويلها إلى صناعة داعمة للتنمية المستدامة:
البرنامج القومى لإدارة المخلفات الصلبة (NSWMP)
الخطة القومية لإغلاق المقالب العشوائية وإنشاء مدافن صحية آمنة
مشروعات تحويل المخلفات إلى طاقة (WtE)
مبادرة الحد من البلاستيك أحادى الاستخدام
مبادرة «100 مليون شجرة»
استراتيجية مصر للتحول للاقتصاد الدائرى وإدارة الموارد 2030.
تلك الجهود التى تبذل داخل الواقع العملى المصرى تعكس نمو الوعى الحكومى المصرى نحو صناعة إدارة النفايات؛ كونها منظومة اقتصادية- بيئية قوية، تستطيع أن تدفع مصر نحو تنمية مستدامة إذا رُبطت سياسات واضحة، بنية تحتية ملائمة، تمويل مستدام، وإشراك القطاع الخاص والمجتمع المدنى والقطاع غير الرسمي.
الفائدة ليست بيئية فحسب، بل اقتصادية واجتماعية: خلق وظائف، تأمين خامات للصناعة، وخفض التكاليف الصحية والبيئية طويلة الأجل. التركيز الآن يجب أن يكون على التنفيذ المُنظم والحوافز لخلق سوق دائرى مستدام فى مصر.