رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

معجزة نقل آثار مصر فوق أنامل الحذر


31-10-2025 | 18:01

.

طباعة
أعدت الملف: أمانى عبد الحميد

«الرحلة البطولية» ليست رحلة واحدة بل هى آلاف الرحلات التى قامت بنقل أكثر مئات الآلاف من القطعة الأثرية بمختلف أنواعها وأشكالها من تماثيل، مومياوات، توابيت، مسلات ، من موقعها إلى مكان آخر. منها الضخم ومنها الهش, منها الجرانيتى أو الحجرى الذى يفوق وزنه عشرات الأطنان ومنها المصنوع من مواد عضوية قد تتأثر بالاهتزازات أو حتى من نفحات الهواء. بطريقة تتناسب مع حالة كل قطعة ومكوناتها. يقطعون طرقات مصر شمالا وجنوبا ليؤدوا الأمانة إلى مستقرها الأخير. عيونهم وقلوبهم وأدواتهم تحمى تلك الكنوز كى لا تتعرض لمخاطر الكسر أو التدمير. يخوضها فريق محترف وعلمى متعدد التخصصات، يضم أثريين، مرممين، خبراء تصوير ثلاثى الأبعاد، ومهندسين متخصصين فى النقل الهندسى المعقد.

لحظات تاريخيّة جسدت فصلاً مثيراً للدهشة من فصول بناء المتحف المصرى الكبير عبر عقدين من الزمن. عندما تهادت مراكب الشمس الملكية بصمت، أو امتطى تمثال ملكى مهيب شاحنة محاطة بالأضواء، أو سارت مومياء عبر شوارع القاهرة فى منتصف الليل. تلك الرحلات الليلية الشاقة البالغة الخطورة والتى تترقبها العيون الساهرة، كشفت عن بطولات هؤلاء الذين يبيتون ليلتهم مستيقظين متيقظين. كى ينجحوا فى نقل كنوز الحضارة المصرية القديمة فوق أنامل من الحذر حتى تبلغ مستقرها الأخير بأمان وسلامة داخل المتحف المصرى الكبير.

البداية، وقبل الشروع فى النقل يقوم فريق العمل بفحص كل قطعة كأنها مريض قبيل الجراحة عبر تصوير طبقى، مسح ليزرى، وتوثيق مفصل، للتأكد من حالة القطعة قبل الشروع فى نقلها. وهو ما يتم مقارنته لاحقاً بعد وصولها إلى المتحف. ثم يقومون بعملية التغليف ، كما لو كانت تحيط روحاً بشرية بدرع واقية. القطع تخضع لعملية تغليف حسب طبيعتها. العربات التى تنقل الكنوز ليست عادية، بل مزودة بتقنيات تعليق هوائى ونظام تحكم بيئى يحاكى ظروف التخزين فى المتحف.

وبعد الفحص والتغليف ، تبدأ الرحلة حين تصمت الشوارع. يسيرون ليلاً بسرعة لا تتجاوز 7 كم فى الساعة. وسط موكب أمنى وعلمى. الرحلة التى قد تستغرق وقتاً أقل بكثير إذا قام بها أى شخص لكنها شاقة وبالغة الصعوبة على تلك القطع الأثرية عند نقلها من مكان إلى آخر. تحتاج إلى ساعات طويلة تسير خلالها الهوينى بسرعة السلحفاء. قد تتوقف خلالها المسيرة لدقائق لالتقاط الأنفاس والاطمئنان على حالتها. الأمر قد يستغرق ساعات الليل كله وبعضاً من ساعات النهار المبكرة. بعض عمليات النقل تتحول إلى رحلة مصورة يطالعها العالم أجمع كما حدث مع رحلة موكب المومياوات الملكية من ميدان التحرير إلى مستقرها داخل المتحف القومى للحضارة المصرية. وبعضها يكون شديد الخطورة أو الحساسية نظرا لكونها قطعا أثرية فريدة أومهددة بسبب النقل. كما حدث مع عمليات نقل بعض القطع الفريدة مثل رأس مسلة الملكة “حتشبسوت” المنحوتة من صخور الجرانيت الأحمر ويبلغ وزنها 14 طناً تقريباً. كذلك نقل تابوت الملك “توت عنخ آمون” الذهبى من الأقصر إلى القاهرة، ونقل مقاصيره وأسرته الجنائزية من المتحف المصرى بالتحرير. كثير من تلك القطع الأثرية يحتاج لمزيد من الحذر الشديد نظرا لهشاشتها وضعفها مثل نقل مراكب الشمس التى تخص الملك “خوفو”. وبعضها يتحول إلى مسيرات شعبية مثل عملية نقل تمثال الملك رمسيس الثانى القطعة رقم (1) داخل المتحف.

رحلة القطع الأثرية لا تنتهى بالوصول. لايزال طريقها طويلاً حتى تبلغ مستقرها الأخير. عليها أولاً أن تدخل فى مراحل الفحص والتعقيم والترميم المجهرى. ترقد بين أنامل المرممين الخبراء للتأكد من سلامتها معالجتها وترميمها كى تعود لحالتها الأصلية. وذلك قبل خروجها للعرض المتحفى سواء داخل القاعات وما بها من فاترينات أو حتى لتقف فوق عتبات الدرج الملكى أو وسط البهو العظيم.

رحلات نقل القطع الأثرية وسفرها وتنقلها عبر شوارع وميادين مصر نجحت فى تأسيس مدرسة متفردة فى علوم نقل وصيانة الآثار وترميمها. كل حالة نقل أصبحت مرجعا علميا. وكل قطعة وصلت إلى المتحف شهادة على أن مصر حارسة الحضارة. وذلك بفضل أبطال العلماء الذين بدأوا العمل داخل تلك المدرسة حتى أصبحوا بحكم خبراتهم أساتذة عظاما. ونتيجة لعظمة جهودهم ، باتت مصر تملك أهم مدرسة علمية وأثرية متخصصة فى نقل القطع الأثرية على مستوى العالم. وفى مقدمتهم الدكتور عيسى زيدان مدير عام الشؤون التنفيذية لترميم ونقل الآثار داخل المتحف الكبير. الذى بات أحد أبرز خبراء نقل الآثار حول العالم.

وبالرغم من خبرته الطويلة نجده يصف عملية النقل بقوله : “لم تكن هينة أبدًا..” بل جاءت بعد دراسة مستوفية لحالة القطع قبل نقلها وترميمها بشكل أولى ثم القيام بالتغليف بشكل علمى مدروس. والذى يفتخر دوماً بدور مدرسة الترميم ونقل القطع الأثرية الفريدة من نوعها على مستوى العالم. وأنها بشكل غير مسبوق أضافت بمجهودات أبطالها إلى علم نقل الآثار.

وبعد الانتهاء من عمليات النقل تخص القطعة الأثرية التى تحمل تقرير حالة مفصل بصورة دقيقة. تخضع مرة أخرى لعملية مسح راداى كامل وتصوير ثلاثى الأبعاد وليز سكان. تمهيداً لفك التغليف والتعامل مع القطعة الأثرية المخزنة داخل قفص معدنى مبطن بالفوم لحمايتها من أية اهتزازات أثناء عملية النقل. حيث يتولى فريق عمل من المرممين المحترفين أعمال ترميمها تمهيدا لعرضها فى الأماكن المقررة لها.

وسيظل التاريخ يذكر بانبهار تفاصيل رحلة نقل مراكب الشمس التى تخص الملك “خوفو” من أمام هرمه الأكبر إلى داخل المتحف المصرى الكبير. تلك المركبة الخشبية الضخمة التى ليست كغيرها من المراكب أو السفن. فهى مركب مقدس تحمل تاريخاً قديماً من العقائد الثابتة داخل نفوس المصريين القدماء. فاق عمرها الخمسة آلاف عام. وهى مركب ضخمة يبلغ طولها أكثر من 42 مترا ووزنها أكثر من 20 طناً مصنوعة من الأخشاب المجلوبة من خارج مصر. ظلت ترقد تحت أقدام الهرم الأكبر الخاص بالملك “خوفو” العظيم. مخبأة بعناية بعدما أدت مهمتها واصطحبت روح مليكها إلى العالم الآخر. لكن رحلتها الأبدية التى سجلتها نقوش الكتابة الهيروغليفية فوق جدران المعابد المصرية القديمة ، تختلف عن رحلتها القصيرة الشاقة التى قطعتها لتستقر داخل متحف تم بناؤه خصيصاً لها ملحق بالمتحف المصرى الكبير.

وآخر ما قام به فريق الترميم والنقل استكمال عمليات نقل مقتنيات الملك توت عنخ آمون من المتحف المصرى بالتحرير إلى مستقرها الأخير داخل أكبر قاعة عرض متحفية فى العالم مخصصة لعرض مقتنيات الملك الذهبى. المهمة بدأت من سنوات معدودة بعد دراسات علمية متعمقة لكل قطعة من مقتنياته البالغ عددها أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية. الفريق نجح فى نقل عدد من مقتنياته الملكية أهمها المقاصير الخشبية المذهبة والأسرة الطقسية والعربات الحربية للملك والتى كانت تعانى من تدهور حالتها. علما بأن وزارة السياحة والآثار كانت قد عقدت مؤتمرا دوليا خصيصا لبحث طرق النقل بشكل آمن لمقتنيات الملك. حضره أشهر علماء المصريات وخبراء الترميم ومديرو المتاحف الكبرى لمناقشة كيفية نقل تلك الكنوز التى تعتبر تراثا إنسانياً إلى مبنى المتحف المصرى الكبير مع بحث طرق الترميم الأفضل لها قبل النقل وبعده

أخبار الساعة

الاكثر قراءة