مهرجان الغردقة السينمائى الدولى لسينما الشباب، الذى بدأ فى عام 2023، استطاع أن يفرض نفسه على خارطة المهرجانات العربية والدولية رغم حداثة عمره، فمنذ دورته الأولى، أعلن عن هوية خاصة تجمع بين الفن والسياحة، وبين الأصالة والانفتاح، كما أكد أن الغردقة ليست فقط وجهة للاسترخاء، بل أيضًا منارة للإبداع السينمائى للشاب.
تأسس المهرجان على يد السيناريست والناقد محمد الباسوسى، الذى آمن بضرورة أن يكون للشباب صوت فى عالم السينما، بعيدًا عن ضوضاء الأسماء الكبرى وشروط الإنتاج المعقدة، وكان الهدف منذ البداية هو خلق منصة تمنح الفرصة للمواهب الجديدة لعرض أفلامهم وتجاربهم الأولى أمام جمهور واسع من النقاد والسينمائيين.
«الباسوسى» أوضح أن «اختياره للغردقة موقعًا لإقامة المهرجان لم يكن بمحض الصدفة، فالمدينة، ببنيتها السياحية المتطورة وموقعها المتميز، توفر أجواء مثالية لحدث ثقافى دولى، كما أنها تمثل واجهة مشرفة لمصر أمام العالم، تجمع بين الطبيعة الخلابة والقدرة على التنظيم والضيافة»، مضيفًا أننا «نحن نؤمن بأن الفكر السينمائى الجديد لا يجب أن يخضع لمعادلات السوق، فالإبداع الحقيقى يولد من الرغبة فى التعبير الحر، لا من منطق الأرقام، ولذلك فإن منح الفرص للشباب، سواء من مصر أو من مختلف أنحاء العالم، هو مكسب للسينما قبل أن يكون مكسبًا للمهرجان نفسه».
وقال إن المهرجان منذ انطلاق دورته الأولى، يضع نصب عينيه هدفًا واضحًا، وهو احتضان الأصوات الشبابية الجديدة ومنحها مساحة للظهور والنقاش والتجريب، وأرى أن الشباب هم القادرون على إعادة تعريف السينما المصرية والعربية؛ لأنهم أبناء اللحظة الراهنة ويعبّرون عن واقعهم بلغتهم الخاصة، بلغة الصورة لا الخطابة.
كما لفت إلى أن «اختيار مدينة الغردقة لم يكن عشوائيًا، لأن مدينة الغردقة لها هوية عالمية معروفة، تجمع بين السحر الطبيعى والانفتاح الثقافى، ونحن عندما ندعو فنانًا أجنبيًا أو عربيًا للمشاركة، يكفى أن تقول له (الغردقة) ليعرف أين يذهب، وما الذى ينتظره هناك من جمال وتجربة، هذا فى حد ذاته دعم للسياحة الثقافية، ويمنح المهرجان طابعًا خاصًا لا يشبه غيره».
«الباسوسى»، انتقل بعد ذلك للحديث عن أبرز التحديات التى واجهت المهرجان خلال دوراته الثلاث، موضحًا أن «إدارة المهرجان لم تتلقَّ الدعم المادى المنتظر من وزارة الثقافة رغم نجاح التجارب السابقة، وأعتقد أنه حان الوقت لإعادة النظر فى آليات دعم المهرجانات المستقلة التى أثبتت قدرتها على البقاء والتأثير، فالمهرجان لم ينتظر الدعم، بل اعتمد على روح الفريق إيمانا بأهمية المشروع الثقافى نفسه، لأننا نؤمن بأن الاستمرار فى تقديم تجربة حقيقية أهم من أى دعم مؤقت، كما أن السينما ليست للترفيه، بل ضرورة للوعى، ومهرجان الغردقة السينمائى للشباب ليس مجرد حدث فنى، بل هو مساحة حقيقية للحلم والتجريب والبحث عن لغة جديدة للصورة، ربما نواجه الصعاب، لكننا نملك الإصرار والإيمان بأن الغد للموهوبين».
من قصر ثقافة الغردقة إلى العروض المفتوحة على الكورنيش، كان المهرجان حدثًا يتنفس الفن فى كل زاوية من المدينة، وفى كل فعالية، بدا واضحًا أن الغردقة لا تكتفى بأن تكون مقصدًا سياحيًا، بل تسعى لأن تكون مركزًا للفن والتنوير، ولعلّ أهم ما يميز هذه الدورة هو تزاوج السياحة بالسينما، حيث تحوّلت المدينة إلى منصة دعائية طبيعية لمصر، من خلال الأفلام المشاركة فى مسابقة الفيلم السياحى التى لاقت ترحيبًا واسعًا من الجمهور والنقاد، فضلا عن تكريم بعض المبدعين المفضلين لدى الجمهور داخل مدينة الغردقة.
كانت لحظات التكريم فى الدورة الثالثة من مهرجان الغردقة لسينما الشباب، من أكثر المشاهد تأثيرًا فى المهرجان، حيث تم تكريم الفنان محمد ممدوح الذى قال: أهدى هذا التكريم إلى فلسطين ولعائلات ضحايا غزة، فإن هذا التكريم يضع الفنان فى مسئولية كبيرة تجاه خطواته المقبلة، ويجب ألا يقل الفنان فى أعماله عن المستوى الذى استحق عنه أى تكريم له قيمة، وأوجّه تحية تضامن من قلب البحر الأحمر إلى قلب فلسطين.
وقالت الفنانة غادة عادل: أشعر بالفخر لأن أكون جزءًا من حدث يجمع بين الفن والإبداع فى مكان يعكس جمال مصر وسحرها، واختيارى للتكريم من مهرجان يضع سينما الشباب فى القلب يُعد إشارة قوية ومهمة، وأرى أن هذه الفعالية تُبرز روح التجديد والتطلع للأمام، فأنا أشعر بأن المساحة التى يُعطى فيها الشباب قدرًا من التقدير تمنحهم دفعة قوية للاستمرار والإبداع، وأهدى هذا التكريم إلى روح المخرج الراحل محمد خان، الذى كان أول من آمن بى وفتح لى باب السينما.
وفى أجواء مفعمة بالفرح والدفء، وقبيل لحظة تكريمها ضمن فعاليات الدورة الثالثة من مهرجان الغردقة السينمائى الدولى لسينما الشباب، بدت الفنانة نيرمين الفقى فى قمة سعادتها، وهى تتحدث عن معنى هذا التكريم بالنسبة لها، وعن تجربتها كعضو لجنة تحكيم تشارك فى تقييم أعمال صنعها شباب بداخلهم الطموح من مختلف أنحاء العالم.
وقالت أشعر بفخر كبير لأن أكون جزءًا من هذه التظاهرة الفنية التى تحتفى بموهبة الشباب، وأرى أن المهرجان هذا العام ليس مجرد حدث سينمائى، بل مساحة صادقة للحلم، ومنصة تُعبّر عن جيل جديد يمتلك الرغبة فى الإبداع والتغيير، وانضمامى إلى لجنة التحكيم تجربة مميزة بالنسبة لى، لأنها تتيح لى مشاهدة أعمال متنوعة من مدارس فنية مختلفة، بعضها من دول لا تصلنا أفلامها عادة فى دور العرض، وتلك التجارب الشابة تذكّرنا دائمًا بأن السينما ما زالت قادرة على دهشة العالم.
وأضافت: السينما ليست فقط صناعة، بل مسئولية ورسالة، ما يقوم به مهرجان الغردقة هو خطوة مهمة فى إعادة الاعتبار لفكرة الفن كقوة ناعمة تصنع الوعى والجمال معًا، ودعم الشباب لا يجب أن يكون شعارًا بل ممارسة حقيقية، وهذا ما يفعله المهرجان بالفعل، وأنا متفائلة جدًا بالجيل الجديد من صُناع الأفلام فى مصر، لدينا شباب يحققون حضورًا فى مهرجانات دولية كبرى مثل “كان” و“برلين” و“فينيسيا”، بأفلام خرجت من روح الحياة اليومية، ومن إحساس صادق بالواقع المصري.
وعن علاقتها بالفنانة غادة عادل التى كُرّمت أيضًا فى نفس الدورة من مهرجان الغردقة، قالت «نرمين»: غادة صديقة عزيزة منذ سنوات طويلة، ونحن نلتقى دائمًا على حب الفن واحترام الموهبة، وسعادتى بتكريمها لا تقل عن سعادتى بتكريمى، والفن فى النهاية ليس منافسة، بل رحلة من التعاون والتقدير المتبادل، فإنه حين يصعد الفنان إلى المسرح لتُمنح له جائزة أو شهادة تقدير، يشعر بأن سنوات من العمل والإخلاص لم تذهب هباءً، وهذا التكريم يمنحنى طاقة جديدة لأواصل حياتى الفنية، ويؤكد لى أن الجمهور والنقاد ما زالوا يقدّرون الجهد الحقيقى، ورسالتى لكل مَن يحلم بأن يصنع فيلمًا أو يقف أمام الكاميرا، أقول لهم لا تفقدوا إيمانكم، فإن الطريق قد يكون صعبًا، لكن الفن لا يحب الشخص غير الصبور، ومن يعمل بإخلاص يصل، ومن يصدق حلمه يصنع تاريخه.
يُشار هنا إلى أنه منذ لحظة افتتاح مهرجان الغردقة الدولى لسينما الشباب، فى دورته الثالثة وحتى ختام الفعاليات، امتلأت أروقة المدينة بطاقة فنية مدهشة جمعت بين جيل من المبدعين الشباب وأسماء لامعة فى عالم السينما، وسط حضور عربى ودولى يعكس أهمية المهرجان كمحطة فنية باتت تفرض حضورها على خريطة المهرجانات السينمائية فى المنطقة.
ومنذ الإعلان عن فتح باب المشاركة فى مايو الماضى وحتى يوليو، تلقّى المهرجان أكثر من 600 فيلم من مختلف أنحاء العالم، بين أفلام قصيرة وطويلة وتجارب طلابية، وبعد مشاهدات دقيقة قامت بها لجان مختصة، تم اختيار 58 فيلمًا من 30 دولة لتمثيل روح الدورة الثالثة، فى مزيج فنى متنوّع يعبّر عن ثقافات متعددة واتجاهات سينمائية مختلفة.
وتنوعت مسابقات الدورة الثالثة لتشمل مسابقة الأفلام الطويلة، التى ضمّت مجموعة من التجارب الإخراجية الجريئة لشباب من العالم العربى وأوروبا، ومسابقة الأفلام القصيرة، التى جذبت الأنظار بموضوعاتها الإنسانية، ومسابقة أفلام الطلبة، لتفتح الباب أمام جيل جديد من السينمائيين، والجائزة الخضراء، المخصصة للأفلام التى تتناول قضايا البيئة والمناخ، ومسابقة الفيلم السياحى، وهى الإضافة الجديدة لهذا العام، وإلى جانب المسابقات، نظّم المهرجان ورش عمل ودورات تدريبية فى فنون الإخراج والكتابة والتصوير، بمشاركة خبراء من مصر وروسيا والهند وفرنسا، إيمانًا بدور التعليم الفنى فى دعم الجيل الجديد.
المهرجان لم يقتصر على الأسماء اللامعة فقط، بل قدّم منصة فريدة لصُناع الأفلام الشباب، إذ عُرضت أفلام من دول عدة بينها روسيا، ألمانيا، الهند، المكسيك، فرنسا، المغرب، وفلسطين، بعضها عُرض للمرة الأولى عالميًا، حيث شهدت العروض نقاشات حية بين الجمهور وصُناع الأفلام، أظهرت عمق الاهتمام بالقضايا الإنسانية، من الهجرة والهوية إلى البيئة والسلام، كما خُصصت فقرة كاملة «يوم السينما الروسية» لعرض مجموعة مختارة من الأفلام الروسية الحديثة، ما أضفى بعدًا ثقافيًا عالميًا على أجواء المهرجان.
مع ختام الفعاليات، أجمع الحضور على أن الدورة الثالثة لم تكن مجرد عرض أفلام أو مراسم تكريم، بل كانت احتفالية بالفن كقوة ناعمة، وبالشباب كقلب نابض للمستقبل، وأضاءت الغردقة لياليها بالسينما، وكتبت فصلًا جديدًا فى علاقة البحر بالفن، والحلم بالواقع، وهكذا، يثبت مهرجان الغردقة لسينما الشباب أنه لم يعد مجرد تجربة تُقام على الهامش، بل أصبح حدثًا سينمائيًا عربيًا له هوية خاصة ورسالة واضحة.
لم يكن تأثير المهرجان محصورًا فى القاعات، بل امتد إلى شوارع المدينة ومقاهيها وأسواقها، تحوّل كورنيش الغردقة إلى مساحة مفتوحة للقاءات بين الفنانين والمخرجين والجمهور، فيما خصصت إدارة المهرجان عروضًا مجانية فى الهواء الطلق على الشاطئ، ما منح الأهالى والزائرين فرصة لمشاهدة الأفلام تحت نجوم البحر الأحمر، حيث تلك المبادرات أعطت المهرجان طابعًا شعبيًا وإنسانيًا، وجعلته قريبًا من الناس، لا ينعزل فى قاعات مغلقة، بل ينزل إلى الشارع ويشارك الحياة اليومية لأبناء المدينة.