ربما يكون من قبيل المصادفة أن يتزامن قرار وكالة "ستاندرد آند بورز" تثبيت التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان عند مستوى الجدارة الاستثمارية "BBB-" مع نظرة مستقبلية مستقرة، مع قرار الحكومة العُمانية باعتماد مخرجات ورشة العمل التي نظمتها وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار، لحلحلة التحديات والعقبات التي تواجه ممارسة الأعمال في عُمان، والتوسع الآمن في تهيئة بيئة الأعمال أمام المستثمرين الأجانب، بما يضمن استدامة التنويع الاقتصادي.
لعل هذا التزامن يكشف عن استدامة الجهود العُمانية المبذولة من أجل تحقيق مستهدفات رؤية عُمان 2040، بما تتضمنه هذه الجهود من طرح مبادرات واستراتيجيات ومناقشات مستفيضة لكافة القطاعت الاقتصادية في إطار الشراكة والتكامل المؤسسي المنضبط والمنفتح على كافة الآفاق.
ففي الوقت الذي تحرص فيه عُمان على إبراز الفرص الاستثمارية المتوقع إطلاقها عبر منصة "طاقة"، والحوافز والتسهيلات التي تضمنتها اللائحة الاستثمارية الجديدة، في مجال التعدين خلال مشاركتها في معرض دولي في إيطاليا، باعتبار أن قطاع التعدين يُعد أحد المحاور الرئيسة في رؤية "عُمان 2040"، ويتضمن لوائح حديثة تحمي حقوق المستثمرين، وتقنيات رقمية لتبسيط الإجراءات وتعزيز الشفافية، وحوافز تدعم النمو المستدام للاستثمارات المحلية والدولية، فإنها تحرص في ذات الوقت على إبراز ملف التوظيف والباحثين عن عمل كأحد أهم التحديات في سلطنة عمان، وتبذل وزارة العمل جهودا كبيرة لتعزيز فرص التشغيل ومعالجتها، وتحديث سياسات سوق العمل؛ حيث أطلقت الوزارة مؤخراً منصة "توطين" لتكون حلقة وصل بين الباحثين عن عمل وأصحاب الأعمال وصناع القرار والمؤسسات التعليمية مصممة لتنظيم التشغيل في 18 قطاع اقتصادي بما يتواكب مع "رؤية عمان 2040". وتمثل "توطين" نموذجا متقدما في التحول الرقمي لقطاع التشغيل بتركيزه على تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحليلات التنبؤية لسوق العمل.
وإذا كان تثبيت التَّصنيف الائتماني لسلطنة عُمان عِندَ مستوى الجدارة الاستثماريَّة «BBB-» من وكالة «ستاندرد آند بورز» مع نظرة مستقبليَّة مستقرَّة، يعد مؤشراً على تعزيز الثقة بمسار الإصلاحات الَّتي اتَّبعتها سلطنة عُمان منذُ سنوات، فإن هذا التقييم يعكس أيضاً إدراكًا دوليا بأن عُمان تجاوزت معالجة التحديات القصيرة المدى، وانتقلت إلى مرحلة بناء نموذج اقتصادي طويل الأمد يقوم على إعادة هيكلة المؤسسات، وتعزيز الشفافية وإطلاق مبادرات استراتيجية مثل صندوق عُمان المستقبل، ليصبح هذا النهج قاعدة راسخة للتعامل مع السنوات المقبلة بثقة متزايدة، رغم التحديات والتقلبات في أسواق الطاقة العالمية.
ولا شك أن هذه القرير ـ بجانب ما يحمله من رسائل طمأنة للأسواق ـ يكشف أيضا عن جملة التحديات الَتي ما زالت ماثلة أمام الاقتصاد العُماني خلال السَّنوات المقبلة. فالعجز المتوقع في الحساب الجاري بنسبة تقارب (١.٩) بالمئة نتيجة تراجع أسعار النفط يوضح أن التنويع الاقتصادي لا يزال بحاجة إلى تسارع أكبر؛ كي يغطِّي الفجوات المُحتملة ويحمي الموازين المالية من أي ضغوط خارجية.
ومن هنا تأتي أهمية العمل على حلحلة التحديات التي تواجه الاستثمارات والعمل على استدامة بيئة عُمان مهيأة ليس فقط لجذب الاستثمارات الأجنبية، وإنما أيضاً العمل على تعزيز الاستثمارات الموجهة إلى التصنيع والسياحة والطاقة المُتجددة؛ باعتبارها روافد قادرة على توليد دخل مستدام، وتعزيز مناعة الاقتصاد أمام صدمات الأسواق العالمية، ليصبح التصنيف الائتماني شهادة على نجاح مسار طويل أكثر من كونه إنجازا آنياً، فهو يعكس إدراكا دوليا بأن عُمان تبني قاعدة متينة يمكن البناء عليها لمراحل أبعد، ويكمن الرهان الأكبر في استثمار هذه الثِّقة وتحويلها إلى شراكات استراتيجية تعزز المكانة العُمانية في شبكة الاقتصادات الصاعدة، وتمنحها قدرة أكبر على صياغة حضور إقليمي ودولي يستند إلى مزيج من الاستقرار الداخلي والانفتاح على الفرص العالمية.
وتأسيساً على ما سبق، انتهت الجهات العُمانية المعنية الحكومية والخاصة، بعد مناقشات مستفيضة، إلى ضرورة وجود 5 مرتكزات رئيسية من أجل استدامة بحث تهيئة البيئة الجاذبة للاستثمارات والتنويع الاقتصادي، هذه المرتكزات هي: مرتكز الشركات التجارية والاستثمارية والمناطق الحرة، ومرتكز التشغيل، ومرتكز التشريع والقضاء، ومرتكز المناقصات ومرتكز التمويل والضرائب؛ حيث حدد لكل مرتكز دواعي التغيير، والجهات المسؤولة، وخطة عمل واضحة إلى جانب ربطها بأهداف رؤية عُمان 2040 .
أولاً: دعت المخرجات في مرتكز الشركات التجارية والاستثمارية والمناطق الحرة إلى إنشاء منصة موحدة تربط جميع الجهات ذات العلاقة، وتطوير دليل استرشادي للحوافز الاستثمارية إلى جانب تمكين المؤسسات الصغيرة والمتوسطة لتكون جزءًا من المنظومة الاستثمارية، كما أكد على ضرورة تحديث القوانين المتعلقة بالمناطق الحرة، وتبسيط رحلة تأسيس الشركات، وربطها بالخدمات المصرفية والضريبية بشكل مباشر.
ثانياً: أما مرتكز التشغيل فحث على مواءمة قانون العمل مع متطلبات السوق، وتسهيل أنظمة التصاريح والتأشيرات مع تعزيز برامج التعمين، والتأكيد على أهمية إدخال أنظمة مرنة لتصاريح العمل وفق طبيعة النشاط، وتوفير قاعدة بيانات دقيقة عبر منصة "توطين" بما يضمن التوازن بين استقطاب الكفاءات الأجنبية، وتنمية القدرات الوطنية.
ثالثاً: فيما أوصت المخرجات في المرتكز الثالث "التشريع والقضاء" بتطوير القضاء التجاري المتخصص، وتفعيل الوسائل البديلة للتقاضي مثل التحكيم والوساطة اللذين أصبحا ضرورة لتسريع البت في القضايا الاستثمارية إلى جانب التركيز على مشروع المحاكمات الإلكترونية المرئية، وتطوير منظومة التنفيذ القضائي بما يضمن وصول الحقوق لأصحابها بسرعة وكفاءة.
رابعاً: وأوصت مخرجات ورشة العمل التي نظمتها وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار في المرتكز الرابع "المناقصات" بضرورة تحسين آلية صياغة نطاق العمل للمشاريع، وأتمتة الإجراءات والتصاريح المرتبطة بها ما يسهم في تقليل الحاجة إلى إعادة الطرح، والحد من التأخير، ويعزز في النهاية مشاركة الشركات المحلية، ويزيد من نسبة المحتوى المحلي.
خامساً: استعرضت دراسة متخصصة واقع تمويل قطاع الأعمال في سلطنة عُمان؛ حيث كشفت عن أبرز التحديات التي تواجه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، مثل ارتفاع الفوائد البنكية، واشتراط الضمانات الكبيرة، ومحدودية التمويل طويل الأجل. وأوصت الدراسة باستحداث برامج ضمان ائتمان، وتوفير سيولة مالية ميسرة للقطاعات الإنتاجية، وإنشاء مؤسسة وطنية لضمان القروض؛ نظرا لان التمويل يمثل التحدي الأكبر لممارسة الأعمال، واستقطاب البنوك الاستثمارية الدولية، وتطوير حلول رقمية تقلل من فجوات التمويل.
وبالنظر إلى مسار الإصلاحات التي أعادت صياغة الاقتصاد العُماني منذ مطلع 2020، يتكشف أن الجانب المالي العُماني الذي شهد استقراراً خلال عام 2025، يمثِّل اختبارا مباشرا لقدرة السياسات على التحول إلى نتائج عملية قابلة للقياس، فالتوقعات الَّتي أوردتها وكالة "ستاندرد آند بورز" بانخفاض الدين العام من (٣٦) بالمئة في عام ٢٠٢٤ إلى (٣٣) بالمئة في عام ٢٠٢٨، مع تسجيل عجز محدود لا يتجاوز نصف نقطة مئوية خلال العام المقبل 2026، يليه توازن كامل في الموازنة حتى نهاية الفترة، تكشف عن منهجية تقوم على الانضباط المالي من دُون التضحية بتحقيق معدلات نمو .
وهو ما يؤكد بلا أدنى شك أن عُمان تسعى إلى بناء قاعدة اقتصادية متعددة المحركات، عبر اتباع منهاجية بناء بيئة أكثر جذباً للاستثمارات الأجنبية من خلال العمل على معالجة كل الآليات اللازمة لاستدامة التنويع الاقتصادي، بحيث يصبح أكثر قدرة على استيعاب المتغيرات الإقليمية والعالمية ضمن إطار مستدام يرسخ الثِّقة الداخلية والخارجية.
والمؤكد أن اعتماد عُمان المخرجات السالف الإشارة إليها، يعكس التزامها بتسريع الإصلاحات الاقتصادية، وتبسيط الإجراءات ، وتسهيل فتح الحسابات البنكية للمستثمرين، واستقطاب البنوك الاستثمارية الدولية، وتطوير حلول رقمية تقلل من فجوات التمويل بما يسهم في تمكين قطاعات التنويع الاقتصادي، وتحقيق مستهدفات "رؤية عُمان 2040".