كتب «خالد محمد خالد» الكثير عن الديمقراطية فهى مليكته المتوجة، وهى بالنسبة له أجدر مكتشفات الإنسانية بالتصديق والولاء، وهى سلوك ومنهاج ينظم شئون الحياة كلها، وهى الأساس الحى لكل نهضة وكل استقلال. وهى صنو للحرية التى يراها كاتبنا أفضل الطرق وأذكاها. حيث إن الهدوء الذى يقره الخوف ليس إلا تربصًا لا نظامًا، والاستقامة التى يولدها الإكراه ليست فضيلة بل كبت. أما الحرية الحقيقية فهى وسيلة الكمال المطلق أدبيًا وماديًا. ومن خلال الديمقراطية والحرية يدور هذا الحديث الذى أجريته مع المفكر الإنسانى فى عام 1995 قبل رحيله عن دنيانا فى فبراير 1996.
فى البداية سألته: إذا كان لكل إنسان فى الحياة شعار أو حكمة تقود حياته، فما حكمته الشخصية التى عكست نفسها على تفكيره؟
فأجابنى.. شعارى هو (لا تخف.. وإذا غلبك الخوف فامضِ فى طريقك وأنت خائف). وسألته عن حكمته السياسية فأجاب قائلاً: (إذا ما سئلت هل الشعب جدير بأن يكون حرًا؟
أجيب سائلاً: وهل هناك فرد جدير بأن يكون مستبدًا؟)
ثم سألته عن حكمته ككاتب فقال: (لا بأس ألا يكون لى تاج ما دام معى قلم).
ثم سألته عن حكمته الدينية فقال: (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى).
سألته أيضا: أوردت فى أحد مؤلفاتك أن الديمقراطية فى تبلورها الأخير هى المعتصم الأوحد لحقوق الإنسان.. والتساؤل: منْ هم أعداء الديمقراطية الآن فى عصر اختفى فيه مصطلح الاستعمار القديم ولم يعد له ثمة وجود؟
أجاب (نعم قلت هذا وقلت عن الديمقراطية أكثر من هذا. بل إن لى شعارًا يقول: (مع الديمقراطية وعلى أعيننا عصابة). أى أننى أفضل أن أمضى وراء الديمقراطية معصوب العينين على أن أسير وراء الديكتاتورية بألف عين مفتوحة. أما أعداء الديمقراطية فى هذه الأيام ــ أخالفك هنا فيما تذهبين إليه من أن الاستعمار قد انتهى واختفى ـــ فالاستعمار قائم بكل هيلمانه وطغيانه وبكل مناوراته ومؤامراته. كل ما هناك أنه كسا مخالبه بالحرير. أما المخالب فلا تزال فى مكانها تنهش وتتبر كل ما طالته تتبيرا. وليست المشاركة الكاملة القائمة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية سوى برهان ساطع على ذلك).
وكذا سألته: خلافًا للاستعمار المستتر مَنْ هم الأعداء الحقيقيون للديمقراطية؟
أجاب (هؤلاء هم الذين يحبون أنفسهم أكثر مما يحبون الحق، ويؤثرون المنصب على مصالح الشعب. وهم الذين يشاركون فى الإجهاز والقضاء على الديمقراطية، ويخوفون حكام الدول النامية من الديمقراطية. وأذكر مثالاً على ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التى كان لها دور كبير فى صرف قادة ثورة 23 يوليو يومئذ عن الديمقراطية، وذلك عندما حاولت إقناعهم بأن أى نظام ديمقراطى صحيح سيقضى عليهم وعلى الثورة. بل إن هؤلاء لم يبخلوا علينا يومئذ بعرض فيلم «يحيا زاباتا» الذى انتهت فيه حياة الزعيم ــ الذى كان حريصًا على الديمقراطية ـــ بالإعدام رميًا بالرصاص. وكانت هذه محاولة لإقناع قادة الثورة بعقم الديمقراطية، وكذلك إقناع وتضليل جماهير الشعب أيضًا).
سألته: قد نلاحظ أن الديمقراطية السياسية منحّاة عن عمد فى الساحة العربية كأساس للحفاظ على الاستقرار الأمنى والسياسى لكل دولة؟
أجاب: (أظن ذلك صحيحًا، إنه لشىء مؤسف أبلغ الأسف أن نرى ذلك شائعًا فى معظم البلاد العربية والإسلامية، بينما يتمتع الشعب الإسرائيلى بديمقراطية حقيقية مهما نحاول التهوين من شأنها وصرف الأنظار عنها. وإنى لأذكر فى حسرة شديدة أن المذابح التى قامت بها إسرائيل فى لبنان أولاً ثم فى «صبرا وشاتيلا» ثانيًا لم تخلّف رد فعل عربيّا. بينما سار عشرات الآلاف من الإسرائيليين يهتفون بسقوط «بيجن» ومحاكمة السفاح «شارون». هذا يكشف عن ميزة كبرى من مزايا الديمقراطية باعتبارها المناخ الحقيقى لتربية الشعوب الحرة التى تعرف كيف تقول كلمتها وكيف تملى إرادتها).
سألته: يرى البعض أن الشعوب العربية ما زال يعوزها الوعى الكافى الذى يؤهلها لاستيعاب الديمقراطية السياسية وفهمها على حقيقتها. ومن أجل هذا وحده يعمد الحكام ــ خشية منهم على مصالح دولهم ـــ إلى تنحيتها وإبعادها؟
أجاب: هذا الرأى يجاوز سوء الظن إلى البهتان. فالشعوب العربية تتمتع بوعى عظيم. ولو رجعنا إلى ثورات وحركات الاستقلال التى خاضت معاركها بعد الحرب العالمية الأولى، وبعد الحرب العالمية الثانية، وبين الحربين لتبين لنا طيش هذا الرأى. ولقد مرت الشعوب العربية بتجربتها مع الديمقراطية قبل أن تبدأ الانقلابات والثورات فى العهد الأخير، فكانت تجربةً جد ناجحة. ولا أظن أن تنحية الشعوب فى منطقتنا عن المشاركة الكاملة الصادقة والفعالة فى شئون الحكم يمكن أن يفيد الشعوب العربية. وللحديث بقية.