منذ اللحظة الأولى التى سمعت فيها اسم فيلم «ضى- سيره أهل الضي»، كان هناك شيء مختلف يلمع فى داخلى. لم تكن الحكاية مجرد فيلم عابر، بل كانت همسات الأصدقاء من حولى تصفه بأنه «عمل استثنائى يلمس الروح».. كلماتهم أثارت فضولى، حتى شعرت بأننى مقبلة على رحلة غير تقليدية، تحمل بين طياتها وجعاً وأملاً، معاناة وحلماً، وصوتاً صغيراً، فرغم آلامه من الاختلاف إلا أنه تمسّك بحلمه الأكبر، وهو أن يغنى ويثبت للعالم أن صوته قادر على كسر العزلة وتجاوز التنمر، فتحدى كل شىء ليصل إلى الشمس.
هنا قررت أن أسرق من صخب الحياة ساعتين، أترك فيهما كل ما يشغلنى جانباً، لأغوص فى عوالم هذا الفيلم الذى تبدأ حكايته مع طفل مختلف… طفل اسمه «ضى».
تبدأ الحكاية من قلب النوبة، أرض الشمس والهوية، حيث يعيش «ضى» فتى فى الرابعة عشرة من عمره، أبيض البشرة مصاب بمتلازمة «الألبينو»، التى ىجعلته عدواً للشمس. حياته كانت محاصرة بين جدران منزل ضيق وأم تخشى عليه من قسوة العالم الخارجى، خاصة بعد أن تعرض للتنمر والضرب فى المدرسة، فقررت أن تمنعه من التعليم النظامى وتكتفى بجلب مدرس خاص له. لكن قلب «ضى» لم يعرف يوماً الاستسلام؛ ظل معلقاً بالموسيقى، يحلم بأن يغنى مثل أسطورته محمد منير.
وهنا جاء دور معلمة الموسيقى الذى جسدته الفنانه أسيل عمران، التى اكتشفت صوته الذهبى، ورأت فيه ما لم يره الآخرون: موهبة تستحق أن تُسمع، فأصرت على أن تمنحه فرصة المشاركة فى برنامج «The Voice»، متحدية رفض والدته، لتثبت أن التعليم ليس مجرد دروس، بل إيمان بالموهبة وحمايتها من الانطفاء.
لم يكن الطريق إلى تحقيق الحلم مفروشاً بالورود، فبينما كانت الأسرة تستعد للسفر من أجل مشاركة «ضى» فى المسابقة، تزامن الموعد مع يوم زفاف كانت أخته تحلم بحضوره، ورغم الانهيار الداخلى الذى أصابها، إلى أنها رضخت للأمر الواقع وقررت السفر مع والدتها و«ضى» ومعلمته. لكن الرحلة سرعان ما تحولت إلى سلسلة من الاختبارات القاسية؛ أولها سرقة سيارة المعلمة بما تحمله من متعلقاتهم وذهبهم، لتبدأ العائلة من الصفر، ووسط الخوف والظلام الدامس ظهرت يد إنسانية دافئة، تجسدها الفنانة عارفة عبد الرسول، التى ساعدتهم على الوصول إلى القاهرة.
لم تتوقف العقبات هنا؛ إذ واجهتهم أزمة تذاكر القطار، وكادوا يعودون إلى قريتهم خائبى الأمل لولا أخت «ضى» التى حركتها عاطفتها، فخلعت خلخالها الفضى وباعته لتشترى تذاكر إلى القاهرة ليلحق ضى بحلمه فى البرنامج، غير أنها فى اللحظة الأخيرة فضّلت النزول من القطار والعودة للنوبة لتحقيق حلمها البسيط هى الأخرى، وهو أن تعيش لحظات سعادة خاطفة من خلال حضور عرس تحلم بحضوره، ولكن سرعان ما اكتشف ضى خطتها ليقف أمام اختيار صعب فى مشهد إنسانى بديع، يقرر القفز من القطار ليكون بجانبها، مؤكداً أن الأحلام لا تكتمل دون من نحب، وهنا تتجلى المشاعر الأخويه فى أسمى معانيها رغم الحلم الذى يحمله ضى بين ضلوعه، تاركاً حلمه مع القطار ومعه والدته ومعلمته، وهنا قال ضى لأخته لا أستطيع أن أفرح وأغنى بدونك، ونحن الاثنان «مثل الليل والصباح» لا يمكن أن نفترق ولكن سرعان ما أدركا الخوف والقلق اللذين تعيشهما الأم والمعلمة.
وفى لحظة يأس جديدة، يظهر الأمل على هيئة سيارة مطافئ يقودها رجلان طيبان، أحدهما النجم أحمد حلمى فى دور استثنائى قصير لكنه عميق التأثير، يجسد شخصية رجل إطفاء. حلمى كان يخفى خلف قناع أسود وجهاً مشوهاً بفعل حادث حريق قديم، رمزاً للألم والوصمة والخوف من مواجهة الناس.
هذان الرجلان ساعدا ضى وأخته على اللحاق بأمهما والمعلمة، وبالفعل فى لقطة شاعرية التقى ضى بوالدته من خلال صوته الذهبى، حيث أخذ يغنى لتسمع صوته وتتعرف على مكانهما حتى التقوا جميعاً بالأحضان فى مشهد مفعم بالأمومة والحب على رصيف القطار.
لم تنتهِ رحلة معاناة ضى، بل اشتدت ذروتها عندما تركتهما المعلمة، منتظرين تحت أشعة الشمس الحارقة، فانهار ضى أمام أشعة الشمس الحارقة، وغلبه الإرهاق والعطش، وفى لحظة خاطفة نُقل إلى المستشفى، حيث تحدث المعجزة: لقاء طالما حلم به. يقف وجهاً لوجه أمام أسطورته ورفيق وحدته وقدوته فى الغناء، الكينج محمد منير، الذى علم قصته وأنه جاء من النوبة للاشتراك بالبرنامج، فقال له منير فى جمله قصيرة وملهمة «مافيش برنامج هيخليك نجم، الناس هى اللى هتخليك نجم» ولم يكن يعلم الكينج أن القدر ساقه لهذا المكان، وفى تلك اللحظة ليصبح طوق النجاة لفتى صغير جاء من النوبة حاملاً حلمه فى قلبه.
المشهد كان استثنائياً بكل المقاييس، تلاشت المسافات بين الأسطورة والطفل الحالم. غنى الاثنان معاً أغنيه «علمونى عينيكى» فى مشهد يذيب الحدود بين الفن والحياة، وصُوِّر الفيديو وانتشر بسرعة البرق على وسائل التواصل الاجتماعى، ليقلب الدنيا ويجعل من «ضى» صوتاً يعرفه الناس.
لم يكن ظهور منير مجرد ضيف شرف، بل نقطة تحول درامية وإنسانية عميقة؛ فقد منح الفيلم روحه، وأكد رسالته أن «الفن الحقيقى هو الذى يخلق الأمل من قلب الألم»، لم يكن ظهور الكينج مجرد مشاركة شرفية، بل كان عموداً أساسياً فى الدراما، ليؤكد أن الفن صوت للضعفاء والمهمشين، حيث خرج «ضى» من المستشفى وكان الأمل لا يزال معلقاً ببرنامج «The Voice»، لكن القدر لعب لعبته؛ وصل متأخراً، وانتهى البرنامج انتهى بالفعل. خيّم عليه شعور الفقد، وكأن حلمه يتسرب من بين يديه، لكن المفارقة أن الحلم لم ينتهِ، بل تجدد فى لحظة لم يتوقعها.
على بوابة المكان، قابل الإعلامية لميس الحديدى، التى كانت قد شاهدت الفيديو المنتشر لضى وهو يغنى مع محمد منير، فأدركت أنه يستحق فرصة حقيقية، وقررت أن تستضيفه فى برنامجها، فكان ذلك ميلاداً جديداً للحلم الذى كاد يموت.
وقف «ضى» أمام الكاميرات، وغنى بصوته النوبى الأصيل، وغنى للشمس التى طالما حُرم منها، معانقاً لها بحنجرته الذهبيه صورة خيالية بديعه كإعلان للصلح بينهما. كانت لحظة تحرر، لحظة انتصار وانطلاق، ليس فقط لصوت مختلف، بل لإنسان آمن بنفسه رغم كل العقبات، وهنا يظهر المشهد الأيقونى المؤثر لرجل الإطفاء وهو يسمع ضى يغنى بصوته الذهبى للشمس، ذلك الصوت الذى أشعل داخله نوراً جديداً، فالفتى الذى يقاتل من أجل صوته وحلمه أثبت له أن الحياة تستحق أن تُعاش بلا أقنعة. وهنا يخلع حلمى قناعه، تاركاً له يذهب مع الرياح، فى لحظة تحرر إنسانى من الخوف والقيود والعار، ليصبح المشهد من أحد أقوى لقطات الفيلم وأكثرها رمزية، قدّم حلمى شخصية مركبة لرجل يخفى وراء القناع حكاية ألم، وانعتق فى لحظة ملهمة بفضل ضى، ليكشف عن عمق ذلك الصوت الذى أشعل داخله نوراً جديداً.
فى الحقيقة قدم حلمى مشهدين فقط، ولكن الدور يسجل فى تاريخه بحروف من نور، ولذلك يستحق جائزه أوسكار.
و يختَتم الفيلم على أنغام صوت الكينج محمد منير، فى أغنية مبهرة تجسد كل المشاعر التى عشتها خلال الرحلة. صوته كان إعلاناً صريحاً بانتصار «ضي» على التنمر، وتحقق حلمه فى الغناء، بينما امتلأت قاعة العرض بالتصفيق الحار تأثراً بما شاهدوه.
ما يميز فيلم «ضي» أنه لم يكتفِ بسرد حكاية إنسانية مؤثرة، بل قدّمها بعمق بصرى وسينمائى جعل كل مشهد بمثابة لوحة فنية.
المخرج كريم الشناوى أثبت مرة جديدة أنه صاحب بصمة بصرية خاصة، حيث اختار أن يمزج الواقعية بالرمزية، فكانت الكادرات محسوبة بعناية؛ الظل والضوء لعبا دور البطولة فى التعبير عن عزلة البطل حيناً، وانتصاره الإنسانى حيناً آخر.
المَشاهد الإنسانية جاءت مشحونة بالعاطفة، دون أن تفقد صدقها أو تميل إلى الميلودراما المفتعلة. و نجح فى الإمساك بخيوط القصة البسيطة وتحويلها إلى رحلة استثنائية.
حرص الشناوى على صناعه فيلم عن مصر، ثرى بكل هذا التنوع الموسيقى والجمالى، مسلم ومسيحى، وأيضاً حرص على إظهار الصورة الطبيعية الخلابة لجمال مصر من الجنوب للشمال، حيث اعتمد على تفاصيل دقيقة فى التصوير والإضاءة والموسيقى، لتصبح المَشاهد اليومية لحظات استثنائية تعكس الألم والأمل فى آن واحد. كانت الكاميرا تقترب من الوجوه لتكشف الانكسار، ثم تبتعد لتُظهر فسحة من الأمل، فى إشارة إلى أن الحياة أوسع من جدران الألم.
أما المؤلف هيثم دبور، فقد قدم سيناريو جريئاً ومختلفاً، استطاع أن يمزج بين الواقعية والرمزية، بين قسوة الواقع وأحلام الفن. حمل السيناريو رسائل عميقة عن التنمر، الاختلاف، والأمل، دون أن يفقد روح الإنسانية أو دفء السرد.
الأداء التمثيلى كان ركيزة أساسية فى نجاح الفيلم؛ محمد منير بظهوره الخاص لم يكن مجرد نجم ضيف، بل روح الفيلم وصوته الحقيقى.
أحمد حلمى فى مشاهد قليلة، قدّم شخصية مركبة لرجل يخفى وراء القناع حكاية ألم، وانعتق فى لحظة ملهمة بفضل ضى، ليكشف عن عمق إنسانى نادر.
صبرى فواز قدم دوراً يعكس جانباً مظلماً من القسوة الاجتماعية. أما أسيل عمران فأثبتت أن المعلم قد يكون رسول الأمل ومنارة للوصول للحلم، وأيضاً عارفة عبد الرسول كانت نموذجاً للإنسانية ويد المساعدة، بينما محمد ممدوح أضاف بصدق عفوى جانباً إنسانياً فى لحظة حرجة من الرحلة وأيضاً مشاهده كانت مفعمة بخفة الظل.
هكذا اجتمع النص مع الرؤية الإخراجية والأداء التمثيلى ليخلقوا عملاً متكاملاً، فيلماً قادراً على أن يمس القلب، ويطرح أسئلة لا تُنسى عن معنى الإنسانية والاختلاف والحلم.
«ضى» ليس مجرد فيلم، بل شهادة حية على قوة الفن وقدرته على هزيمة التنمر والخذلان والظلم الاجتماعى. إنه عمل يضع المشاهد أمام مرآة، يرى فيها صراع إنسان يبحث عن الاعتراف بحقه فى أن يكون مختلفاً، وحريته فى أن يحلم. وفى النهاية، لا يتركنا الفيلم أمام انتصار «ضي» وحده، بل يمنحنا جميعاً لحظة انتصار، كأننا عشنا الرحلة معه، وخرجنا منها أكثر إيماناً بأن الأحلام قادرة على أن تصنع واقعاً جديداً.
فى النهاية، ينجح ضى فى أن يلتقى بحلمه، لكن الأهم أنه ينجح فى أن يجعلنا نلتقى نحن بأنفسنا، بضعفنا وأحلامنا، ويدفعنا لنفكر: هل نمنح مَن حولنا الفرصة ليكونوا هم، أم نحاصرهم فى قوالب جاهزة؟
هكذا يُثبت الفيلم أن السينما ليست ترفيهاً فقط، بل وسيلة لاكتشاف الذات والآخر. ومع كل مشهد، ومع كل لحن، يذكّرنا «ضى» أن الفن العظيم هو الذى يوقظ فينا إنسانيتنا.