سأكتب عن المقاهى التى كان يجلس عليها محفوظ. ولن أقترب من الفنادق والكازينوهات والعوامات الراسية فى النيل ولا حتى المقاهى الموجودة خارج القاهرة. ومقاهى القاهرة بعضها لم يعد له وجود. لم يبق سوى ذكراه.. لكن البعض منها ما زال موجودًا. وكانت قصة الانتقال من مقهى لمقهى «حدوتة» لا أحب أن تأخذنى مما أريد كتابته الآن.
مقهى الفيشاوى ما زال قائمًا.. وهو المقهى الذى كان يجلس عليه نجيب محفوظ فى الفترة التى عمل فيها موظفًا بوزارة الأوقاف. ثم موظفًا فى مؤسسة القرض الحسن.. كان يتسلل من مكتبه خلال أوقات العمل ويجلس على الفيشاوى. يدخن الشيشة ويلمع حذاءه ويقرأ. قال لى إنه قرأ رواية: البحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست باللغة الإنجليزية قبل ترجمتها للعربية فى جلساته على المقهى.. لأنه لم يكن يعرف لغتها الأصلية الفرنسية. وكان يعرف الحاج فهمى الفيشاوى معرفة شخصية.. وكان مقهى الفيشاوى عبارة عن صالونات مغلقة للعائلات وصالون كبير فى المدخل وطرقة طويلة بين الصالونات.
لم ينقطع نجيب محفوظ عن الفيشاوى. وظل يتردد عليه بمفرده. ومن المؤكد أنه وجد فيمن يجلسون على المقهى قصصًا وحكايات كتبها. بل إن المقهى يظهر فى بعض أعماله بنفس اسمه. فى سبعينيات القرن الماضى كنا نذهب هناك فى جلسة خاصة نتكلم فى أمور لها درجة من الخصوصية، لا يصح أن نتكلم فيها فى جلسات مفتوحة يحضرها كل الناس. كان هذا اللقاء يتم يوم الاثنين من كل أسبوع.
توقف اللقاء بعد أن اشتدت أزمة التاكسى فى القاهرة وأصبح العثور عليه مثل المعجزات. المهم أن أزمة التاكسى تسببت فى عدم حضور نجيب محفوظ من العجوزة إلى سيدنا الحسين.. فالرجل لم يكن يمتلك سيارة، وظل هكذا حتى آخر يوم فى حياته.
بعد حصول محفوظ على جائزة نوبل خصص مقهى الفيشاوى قاعة سماها قاعة نجيب محفوظ.. عندما كنت أذهب إلى هناك كان يرافقنى صديق العُمر وتوأم الروح جمال الغيطاني، كان صاحب المقهى وهو أحد ورثة الحاج فهمى الفيشاوى القديم يفتح لنا الصالون المكتوب عليه: قاعة نجيب محفوظ. ويغلقه بمجرد خروجنا منه.
آخر مرة ذهبت فيها للمقهى كنا فى لقاء مع أحد الشخصيات المهمة.. أنا ومجموعة من المثقفين.. وقد اقترح علينا صلاح فضل أن نذهب إلى سيدنا الحسين كنوع من التغيير.. كنت معه وكان ثالثنا بهاء طاهر. وتناولنا طعام الغداء فى هذا المقهى الذى اكتشفت أنه مطعم أكثر من كونه مقهى.. وعندما علم جابر عصفور بذهابنا طلب أن نتوجه إليه بعد أحد اللقاءات فى مشيخة الأزهر.. وإن كان المشوار لم يتم بعد.. لأن لقاءاتنا فى المشيخة تباعدت ولم تعد منتظمة مثل الفترة التى تمخضت عن اجتماعاتها وثيقة الأزهر.
من أشهر المقاهى التى جلس عليها نجيب محفوظ مقهى ريش بشارع سليمان باشا. تضبط عليه الساعة فى الخامسة والنصف من بعد ظهر يوم الجمعة عندما يصل إلى المقهى.. ثم تضبط الساعة مرة أخرى عندما ينصرف فى الثامنة والنصف.. واستمر نجيب محفوظ مداومًا على الحضور للمكان وحوله كل أدباء مصر الشباب وأدباء الوطن العربى وضيوف مصر من مثقفى العالم. إلى أن تقرر أن يغلق المقهى أبوابه يوم الجمعة من كل أسبوع.. فبحث الرجل عن مكان آخر. وقيل يومها إن إغلاق المقهى أبوابه يوم الجمعة ليس بسبب إجازة العمال. ولكنه نوع من التضييق على الرجل وعلى ضيوفه ورفاق جلسته.. وكان ذلك فى أواخر ستينيات القرن الماضى.
وأذكر بعد الخامس من يونيو 1967 أن كتب نزار قبانى قصيدتين مهمتين فى نقد الوضع العربى الراهن وفى المقدمة منه مصر.. وأن القصيدتين صودرتا فى مصر.. وقد أحضرهما أمل دنقل وقرأهما بصوت عال واستمعنا إليهما وكانتا جزءا كبيرا من المناقشات التى تدور فى هذه الجلسات فى ذلك الوقت.
إنها ذكريات نجيب محفوظ الباقية والتى ستُصاحبنا فترة طويلة.
رحم الله نجيب محفوظ رحمة واسعة، وأبقى اهتمامنا بأدبه وكتاباته.. فهو المؤسس الحقيقى للرواية العربية المعاصرة.