واحدة من تلك الكوارث أو المصائب ما يتعلق بسيرة حياة الموسيقار محمد فوزى، وهى جريمة موسمية مكتملة الأركان فى شهر أغسطس من كل عام، يقترفها أصحابها مع سبق الإصرار والترصد مع الاحتفال السنوى بذكرى ميلاد الفنان الكبير فى هذا الشهر من كل عام، وعبثًا أحاول فى كل مرة بالأدلة والوثائق تصويب هذه الأخطاء الشائعة، لكن لا فائدة مع هؤلاء الذين يستسهلون كل شيء، ولا يعنيهم سوى تسويد الصفحات وملء الساعات البرامجية، مهما كان الأمر.
وأذكر مثلا أن رئيس جمعية «عشاق فريد الأطرش» غضب منى؛ لأننى قلت له إن احتفاله بمئوية الفنان الكبير فى شهر أبريل سنة 1917 غير صحيح، وكان همه أن يحتفل والسلام لأسباب لا تخفى على أحد، الأكثر دهشة أن معدًا معروفًا فى برنامج تليفزيونى له شهرة واسعة، اتصل بى ذات مرة فى شهر فبراير كى أكون ضيفا فى برنامجه، كى أتحدث عن الفنان محمود ياسين فى ذكرى ميلاده بصفتى مؤلف كتاب «محمود ياسين.. رحلة الشقاء والحب»، فلما أبلغته أن ميلاده فى شهر يونيو وليس فبراير، وأنه خطأ شائع يقع فيه الكثيرون بسبب الخلط بين تاريخ ميلاده وتاريخ ميلاد زوجته شهيرة نتيجة الاعتماد على الشبكة العنكبوتية، قال لى: «معلش يا أستاذ عديها، وتعالى نحتفل بذكراه لأننا اعتمدنا الفقرة من رئيس القناة»، فلما رفضت الاشتراك فى تلك الجريمة، استعان بضيف آخر من متسلّقى المهنة الذى يلحّ بنفسه دائما كى تتم استضافته فى البرامج، وهكذا وقعت الجريمة بحق تاريخ الفنان محمود ياسين. كما لا تزال الضجة مستمرة إلى الآن؛ لأننى اعتذرت قبل ثلاث سنوات لجمعية «كُتاب ونقاد السينما» عن عدم قبول تكليفى بوضع كتاب الموسيقار منير مراد بمناسبة مئويته، لأننى لم أجد دليلا واحدا على أنه من مواليد العام 1922، ورغم أن رئيس الجمعية الناقد الأمير أباظة تفهم الأمر، وقام بإرجاء الاحتفال بمئوية منير مراد، فإن الأقلام الجامحة اتهمتنى بمعاداة الموسيقار الراحل، بل وصل الأمر إلى الجزم بأن الإرجاء الذى اعتبروه إلغاء كان على خلفية أصوله اليهودية، ولم يكن هذا صحيحا بالمرة؛ لأن الرجل قد أسلم منذ سنة 1949 بعد عامين من إسلام شقيقته المطربة ليلى مراد، وحسن إسلام الشقيقين وانتهى الأمر، لكن هواة التربص المعتادين انتهزوها فرصة، رغم أن أحدا منهم لم يستطِع أن يثبت أن «مراد» من مواليد العام 1922 أو حتى أى عام آخر.
أعود للسبب الذى نكأ الجرح وأيقظ الهم فى نفسى، وهو ذكرى ميلاد الموسيقار الراحل محمد فوزى، لأكرر مرة أخرى -ربما تكون فى الإعادة إفادة- أن الصائب فقط فى كل ما يتردد أنه من مواليد شهر أغسطس، لكنه لم يولد لا فى الخامس ولا فى الخامس عشر ولا فى الثامن عشر ولا فى الخامس والعشرين ولا فى الثامن والعشرين من هذا الشهر؛ وإنما هو، ومن واقع وثيقة ميلاده مولود، فى التاسع عشر من أغسطس عام 1918 بشارع الشيخ صباح بقرية كفر أبو جندى، وليس أبو الجندى أو كفر إسكاروس كما ذهب البعض، وهى تابعة لمركز قطور محافظة الغربية، وأنه الابن الأكبر للسيد فوزى عبدالعال الحو من زوجته الثالثة السيدة رقية محمد نسيم، وأن الوالد كان ميسور الحال وليس معدما كما أراد له صُناع المأساويات، وأنه أتى إلى القاهرة عام 1935 لدراسة الموسيقى، وليس سنة 1938.
غير أن العبث الأعظم بسيرة محمد فوزى يصل إلى مداه، فى أكذوبة أن الإذاعة المصرية اعتمدته فقط ملحنا ورفضت اعتماده مطربا، مع أن الصحيح أن الإذاعة المصرية قدمت فى العاشرة وعشر دقائق من مساء الأحد السادس من فبراير 1938 الأستاذ محمد فوزى الحو (بنص تعبير مجلة الراديو المصرى) فى منولوج «بين النخيل والبدر طالع» من تأليف قاسم مظهر وألحان سعيد فؤاد، وهو ما أكدته مجلة الاثنين التى كانت تصدرها «دار الهلال» فى عددها الصادر فى الأسبوع ذاته, وهذا معناه أن الإذاعة المصرية، ومنذ عام 1938 أى بعد نحو سنتين أو ثلاث من وصول فوزى إلى القاهرة، اعترفت به مطربا قبل أن تعترف به ملحنا على خلاف ما هو شائع، أما متى اعترفت الإذاعة به ملحنا أيضا، فكان بعد عامين وأربعة أشهر من هذه الواقعة، وبالتحديد مساء الخميس العشرين من يونيو 1940، وفق ما أورده الدكتور نبيل حنفى محمود، نقلا عن مجلة الراديو المصرى فى عددها الصادر بتاريخ الخامس عشر من يونيو العام نفسه, ففى ذلك المساء قدمت الإذاعة ثلاث تمثيليات غنائية لفرقة فاطمة رشدى تولى فوزى الحو تلحين اثنتين منها هما «فى سبيل الواجب» تأليف زكى إبراهيم, و«يا شباب مصر وأملها» تأليف على عزت صقر، وكان ذلك غالبا فى الفترة ذاتها التى عمل فيها فوزى مع فرقة السيدة فاطمة رشدى، فى أعقاب تركه العمل فى فرقة بديعة مصابنى.
واستمرت الحال كذلك طوال تلك الفترة، ومن أشهر ما أذاعته الإذاعة لمحمد فوزى مطربا وملحنا فى ذلك الوقت أغنية «ما انساكشى»، تأليف إبراهيم كامل رفعت التى أُذيعت فى العشرين من أغسطس 1941، ونُشرت مجلة الراديو المصرى نص كلماتها، غير أنه بعد هذه السنوات شحت أو انعدمت أغنيات محمد فوزى بالإذاعة، حتى بدأت أغنياته السينمائية فى الظهور والانتشار، فاستعانت بها الإذاعة المصرية ضمن برامجها المعتادة، وذلك كله معناه أن ما يُشاع عن أن صوت محمد فوزى كان ممنوعا من الإذاعة حتى عام 1954 غير صحيح بالمرة، بل إن ظهوره بها مطربا وملحنا معتمدا كان مبكرا جدا وسابقا على ظهوره السينمائى بنحو ست سنوات.
أقول قولى هذا، وأتمناها أن تكون المرة الأخيرة.